على الرغم من أهمية النقد، فإن المجتمعات العربية والإسلامية، عموماً، لديها حساسية تجاه النقد، بكافة درجاته وأشكاله، مما يعكس تحديات ثقافية وسياسية واجتماعية عميقة. هذا الرفض يظهر في أشكال متعددة، مثل اعتبار النقد إهانة شخصية، أو محاولة لزعزعة الاستقرار، أو حتى تهديد للهوية الجماعية. لذا، فإن هذا الواقع المَرَضي...

النقد دليل على وجود حرية، والحرية أساس أي تقييم وتغيير وإصلاح، وصولاً إلى ضمان حياة كريمة للإنسان، شريطة أن يُمارَس النقد بمسؤولية ودوافع بنّاءة تصب في خدمة المصلحة العامة.

"المحاسبة" الواردة في التراث الإسلامي و"النقد" المعروف اليوم وسيلتان تهدفان إلى الإصلاح، سواء على المستوى الفردي (محاسبة النفس) أو الجماعي (نقد الحكومة/المجتمع). وكلاهما يتطلب نوعاً من التقييم والتفكير الناقد، سواء كان ذاتياً أو موجهاً للآخرين. بالتالي، فإن "محاسبة النفس" عملية داخلية تهدف إلى إصلاح النفس، بينما "النقد" الحديث هو عملية خارجية تهدف إلى تحسين حال المجتمع أو أداء الحكومة من خلال التحليل العقلي والمساءلة العامة. عليه، فإن "المحاسبة" و"النقد"، كلاهما يسعى للإصلاح، لكن بأساليب وأهداف مختلفة، وقد يتداخلان في بعض الحالات، حيث يمكن أن تستلهم قيم "محاسبة النفس" نقداً بناءً يهدف إلى تحسين المجتمع.

وهكذا، فإن النقد هو عملية تقييمية تحليلية تهدف إلى فحص الأفكار والسلوكيات والسياسات والممارسات، بغرض تحديد نقاط القوة والضعف، واقتراح سبل التحسين. يتجاوز النقد مجرد الانتقاد السلبي، إذ يشمل تقديم رؤى بناءة تعزز التطوير والإصلاح. أيضاً، يُعتبَر النقد أداة أساسية لبناء الفرد والمجتمع والدولة، لأنه يحفز التفكير الواعي، ويكرس الشعور بالمسؤولية، ويكشف التشوهات، ويدفع الى تصحيح الانحرافات.

النقد البناء يساعد الفرد على اكتشاف ذاته، وتحسين مهاراته، وتطوير قدراته. ومن خلال قبول النقد، يتعلم الفرد كيفية مواجهة أخطائه، مما يعزز النمو الشخصي والثقة بالنفس. قال النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) لأبي ذر: "حاسِبْ نفسَك قبل أن تُحاسَب، فإنه أهونُ لحسابِك غداً، وزِنْ نفسَك قبل أن تُوزَن، وتجهَّزْ للعَرض الأكبر، يومَ تُعرَض لا يَخفى على الله خافية" (أمالي الطوسي: 534/ح 1162). ويقول الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): "ثمرة المحاسبة صلاحُ النفس" (غرر الحكم: 4656)

أما على مستوى المجتمع، فإن النقد يعزز الحوار المجتمعي، ويفتح المجال لتبادل الأفكار، ويحد من انتشار الأفكار الجامدة أو المتطرفة. عليه، فإن المجتمع الذي يتقبل النقد هو مجتمع يتطور، لأنه يشجع على الابتكار والإبداع، ويحترم التعددية. يقول الإمام موسى الكاظم (عليه السلام): "ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم، فإنْ عمل خيراً استزاد اللهَ منه، وحمدَ اللهَ عليه، وإنْ عمل شراً، استغفر اللهَ منه وتاب إليه" (الاختصاص. الشيخ المفيد - ص 26). وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: "لا تكون الصداقة إلا بحدودها، فمن كانت فيه هذه الحدود أو شيء منها فانسبه إلى الصداقة ومن لم يكن فيه شئ منها فلا تنسبه إلى شئ من الصداقة فأولها أن تكون سريرته وعلانيته لك واحدة، والثاني أن يرى زينك زينه وشينك شينه" (الكافي. الشيخ الكليني - ج 2 - الصفحة 639).

وفي إطار الدولة، فإن النقد يُعَد ركيزة أساسية للحكم الرشيد، الذي يقوم على الشفافية، والمساءلة، والمشاركة. ومن خلال النقد، يتم تقويم مسار السياسات العامة، وكشف الفساد، وتعزيز العدالة. وبلا شك في أن الدول التي تتيح مساحة للنقد تكون أكثر قدرة على مواجهة التحديات وتحقيق التنمية المستدامة.

يقول المرجع الديني المجدد السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره): "من الضروري أن تضع الدولة سياستها دائماً في موضع التساؤل لكشف الخطأ المحتمل وقوعه في الحاضر أو المستقبل، وأيضاً لمراعاة تبدل الظروف والأحوال والقدرات الداخلية الخارجية. فإذا سارت الدولة على سياستها التي بنتها، دون ملاحظة مستدامة ومراقبة كافية، تكون الدولة مهب الخيبة والضياع، وتكون الأمة في دائرة الانحدار والتدهور والإنهيار، والشعب يُعد من أهم أدوات مراقبة سياسة الدولة ومؤسساتها."

لكن، على الرغم من أهمية النقد، فإن المجتمعات العربية والإسلامية، عموماً، لديها حساسية تجاه النقد، بكافة درجاته وأشكاله، مما يعكس تحديات ثقافية وسياسية واجتماعية عميقة. هذا الرفض يظهر في أشكال متعددة، مثل اعتبار النقد إهانة شخصية، أو محاولة لزعزعة الاستقرار، أو حتى تهديد للهوية الجماعية. لذا، فإن هذا الواقع "المَرَضي" ساهم في تراكم الأزمات وتفاقمها، في جلّ الدول العربية والإسلامية.

فمما لا يخفى؛ أن غياب النقد البنّاء أدى إلى استمرار سياسات فاشلة، سواء اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية. على سبيل المثال، ضعف المساءلة في العديد من الدول العربية والإسلامية أدى إلى تفشي الفساد وتدهور الخدمات العامة. كما أن رفض النقد عزز التفكير الأحادي وحدَّد من قبول التنوع، مما أدى إلى تعميق الانقسامات الطائفية والسياسية. في الوقت، أن المجتمعات التي ترفض النقد غالباً ما تتخلف عن ركب التقدم، لأنها لا تتعلم من أخطائها ولا تستفيد من تجارب الآخرين.

ابتعاد المجتمعات العربية والإسلامية عن النقد لم يأت من فراغ، فإنه في ثقافة الدول العربية والإسلامية، يُنظَر إلى النقد على أنه هجوم شخصي وليس تقييماً موضوعياً. وهذا المنحى يرتبط بقيم مثل "حفظ ماء الوجه" أو تجنب "الفضيحة"، مما يجعل الأفراد والمؤسسات يتجنبون النقد أو يرفضونه. يقول تعالى مندّدًا بمثل هذه الحالة: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُم ۚ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا)(النساء/ 49). إنهم يزكون أنفسهم، أيْ يزعمون أمانتهم ونزاهتهم، لكن ذلك لا يحصل بالادّعاء والزعم والتبجح، بل بالتزام بقيم الدين كالورع والأمانة والفضيلة.

أيضاً، فإن الأنظمة الاستبدادية تحد من حرية التعبير، وتُجرّم النقد، مما يخلق ثقافة خوف من المساءلة، وهذا يجعل النقد كوسيلة تهديد للسلطة بدلاً من أداة للإصلاح.

بالإضافة الى ذلك، فإن التعليم التقليدي المجتمعات يركز على التلقين بدلاً من التفكير النقدي، مما يحد من قدرة الأفراد على تقبل النقد أو ممارسته بشكل بناء. كما أنه في بعض الحالات، يُساء فهم النصوص الدينية أو تُستخدم لتبرير رفض النقد، خاصة عندما يُعتبر النقد "تطاولاً" على المقدسات أو التقاليد.

النقد ليس مجرد أداة للتقييم، بل هو مدخل أساسي لتحقيق حياة كريمة، فإنه من خلال النقد، يمكن تحديد أوجه القصور في التعليم، والصحة، والاقتصاد، والحريات، ووضع حلول عملية. على سبيل المثال: فإنه في التعليم؛ يساعد النقد على تطوير مناهج تعزز التفكير النقدي والإبداع، وفي الاقتصاد؛ يكشف النقد عن سوء الإدارة ويقترح سياسات تعزز العدالة الاقتصادية، والأمر كذلك في الحكم، فإن النقد يعزز الشفافية، ويحد من الفساد، مما يؤدي إلى تأسيس الحكم الرشيد وترسيخ قيم الأمانة والنزاهة والشفافية.

لكن، استمرار رفض النقد في المجتمعات العربية والإسلامية يثير القلق لأنه:

يعني استمرار الجمود،

ويعني تفاقم الأزمات،

ويعني بقاء الشعوب محرومة وتعيسة،

ويعني أيضاً تأخّر الإصلاح والتقدم.

وهذا الوضع بائس ويثير التساؤل والاستهجان، لأنه يعكس إصراراً على تجاهل الحلول المتاحة، بينما تتفاقم المشكلات وتتراكم الأزمات. وهنا، السؤال: كيف يمكن لشعوب تتوق إلى حياة كريمة، لكنها في الوقت نفسه ترفض أداة أساسية لتحقيقها، وهو أمر محير ومؤلم.

إن النقد هو مفتاح التغيير والإصلاح والتطور، على مستوى الفرد والمجتمع والدولة. بالتالي، ينبغي للمجتمعات العربية والإسلامية تعزيز ثقافة النقد إصلاحات شاملة تشمل التعليم، والسياسة، والقوانين، والثقافة. أيضاً، يجب تشجيع التفكير النقدي منذ الصغر، وتعزيز حرية التعبير، وتكريس مبدأ المساءلة، فإنه فقط من خلال تقبل النقد وتفعيله، يمكن للشعوب العربية والإسلامية أن تبني مستقبلًا يحقق الحكم الرشيد والحياة الكريمة التي تتطلع إليها.


اضف تعليق