مكونات المجتمع المدني، تشكل حزمة من نقاط الضوء والإشعاع لجهة النظام الديمقراطي كأسلوب للحياة، ويشمل ذلك الآراء والمقترحات أو الضغوطات المؤيدة أو المعارضة للحكومة، غير انها في النتيجة ستساهم وتشارك في العملية السياسية الديمقراطية، بحيث يمكن تشبيه عمل السياسي في المجتمع الديمقراطي كمصفاة تمر من خلالها...
بقلم: هيثم طالب الحسيني
1- إن الديمقراطية كنهج للدولة، اعتمده الخطاب السياسي للحكومة العراقية في بناء مؤسساتها، لا تعتبر نظاما سياسيا فقط، أنها تحيط بالحياة العامة في جميع مجالاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فتتشكل بها المسارات الرئيسية للبناء الديمقراطي السليم للدولة. أن الديمقراطية السياسية لا تكون ذات اثر عملي، دون أن تكملها الملاحق المتممة لها ضمن المسارات الديمقراطية الأخرى، فإذا كانت الديمقراطية السياسية، تتحقق من خلال أنشطة وفعاليات المؤسسة السياسية، التي تتشكل من الحركات والتنظيمات والأحزاب السياسية، فان المسارات الديمقراطية الأخرى ستضطلع بالدور الأكبر فيها، مكونات المجتمع المدني.
مدخل لدور المجتمع المدني في البناء الديمقراطي
2- إن المجتمع المنظم، هو الذي تكون تشكيلاته السياسية، مؤدية إلى منح جميع أفراده، الفرص الكافية المتكافئة والمتعادلة، لإشباع حاجاتهم في الحرية والحياة الرفيعة، ولكي يكون المجتمع كذلك، لابد لأفراده أن يؤدوا الخدمة للصالح العام، بحيث يشعر الفرد، انه إذا اشتغل لأجل المجتمع، إنما هو مشتغل لأجل نفسه.
3- من خصائص الديمقراطية، أنها تدفع أصحاب الموهبة والكفاءة للبروز، وتوفر لهم أسباب العمل والنجاح والبيئة التي تساعد على أشغالهم المواقع التي يستحقونها، فتفتح بذلك الطريق واسعا، ليظهروا إمكاناتهم في ميدان العمل العام، لأن هذا الكسب الذي يبدوا في النظرة الضيقة، انه كسب فردي، غير انه في الواقع العملي والمحصلة النهائية. إنما هو كسب للمجتمع، لكي يتقدمه ويقوم بخدمته، من هو الأكفأ والأجدر على ذلك. ولذلك فان على النظام الديمقراطي ان يجري نفس آلية التنافس الحر في اختيار القادة للنظام السياسي، لاختيار المؤهلين للخدمة الاجتماعية العامة أيضا، عملا بالمثل القديم (الوظيفة هي التي تظهر الإنسان).
4- من اجل إعداد القادة المؤهلين للخدمة الاجتماعية، يوفر المجتمع الديمقراطي فرصة للنخب المؤهلة وذات الكفاءات الرفيعة، للانضمام إلى مجموعة كبيرة من المنظمات والجمعيات والمؤسسات التطوعية، غير الحكومية، فيما تعرف اصطلاحا بالمجتمع المدني، أن هذه المنظمات لا تخضع لسيطرة الحكومة، أو تمولّ من قبلها، وان من حق الأفراد في المجتمع الديمقراطي، الانضمام بحرية إليها بشكل واسع، وهذا أمر جوهري واساسي بالنسبة للنظام الديمقراطي وآلياته، فعندما يتحد مجموعة من الأفراد أو جزء من المجتمع، تربطهم مصلحة مشتركة، أو اهتمام مشترك، فذلك يمنحهم إمكانية أسماع أصواتهم وامكانية تأثيرهم، في مجمل المسائل العامة في الدولة والمجتمع، مما يؤهلهم لان يكون لهم صوت مسموع في قضايا الساعة العامة، ورأي في القرارات والإجراءات التي تتخذ في هذا الشأن، وبالتالي سيكون لهم حضور في مراكز صنع القرار ومتابعة تنفيذه، وهي المجلس أو الجمعية ذات الوظيفة التشريعية أو الرقابية أو الاستشارية في الدولة.
مفهوم المجتمع المدني وعلاقته بالدولة
5- يعود مصطلح المجتمع المدني إلى فلاسفة العقد الاجتماعي، الذين تعاملوا مع العلاقات التنسيقية والتعاونية بين الأفراد، باعتبارها علاقات منشئة للمجتمع وحافظة لأستقراره، ثم تطور المفهوم، ليوصف باعتباره شبكة من التفاعلات التلقائية القائمة على العادات والأعراف والتقاليد، ليميز عن الدولة، التي توصف بأنها مجموعة من المؤسسات السياسية والقانونية التي تمارس في إطارها، شبكة العلاقات المكونة للمجتمع. ورغم هذه الجذور التاريخية للمفهوم، إلا أن استخدامه بشكل مكثف في أدبيات السياسة المقارنة ارتبط بعقدي الثمانينات والتسعينات، وما صحبهما من تطور في اتجاه الديمقراطية. وعليه فان مفهوم (المجتمع المدني) قد ولد في رحم البناء الديمقراطي، فأصبح يعبر عن مجموعات المنظمات الاجتماعية غير الحكومية، التي تتمتع باستقلاليتها عن الدولة، فتحتل مكانا وسطا بين الدولة من جهة والمجتمع من جهة أخرى، فتحفظ بذلك للدولة دور التوازن المعبر عن إرادة القاعدة الشعبية الاجتماعية، وتمثل المؤشر الاجتماعي للحكومة والضمانة للثوابت الديمقراطية فيها. ولجهة الحكومة فان المجتمع المدني يمثل الضمان لحصولها على الثقة الشعبية، والمصدر الحيوي لاختيار الائتلاف السياسي وتكليفه لتشكيلها.
المفهوم العام للمنظمة وفلسفة عملها
6- المنظمة، هي وحدة بناء المجتمع المدني، فعندما يضبط عمل المنظمة وفق أساسيات الأداء الديمقراطي، سينسحب ذلك على أداء المجتمع المدني. أن المنظمة هي ترتيب أو كيان اجتماعي، تجري فيه السيطرة على الأداء، وتوجيهه نحو تحقيق أهداف اجتماعية، وهي ليست مجرد كيانات مادية ومعنوية، بل هي قبل ذلك كيانات حية، تنشأ، تنمو وتموت، ضمن البيئة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، التي تحيط بها وتتفاعل معها. عليه فلأجل أن تحيا هذه المنظمات وتنمو وتتطور، لابد من إيجاد البيئة والوسط الملائمين لذلك، فإن هناك بعدان في العمل لأي منظمة أو مؤسسة، الأول هو (البعد الفلسفي)، وهو الأساس النظري الذي تقوم عليه فكرة أي عمل أو نشاط ضمن المنظمة، ويتحدد ضمن الاتجاه المادي أو الفكري المثالي. أما البعد الثاني، فهو (بعد الإنجاز)، وهو الأساس والبناء التطبيقي، الذي يعمل على تحويل الأفكار والمبادئ إلى واقع ملموس، وهنالك اتجاهات في بعد الإنجاز، الأول يؤكد على الأساس الفردي للعمل والإنجاز (lndividualism)، ويضع مصلحة الفرد فوق كل اعتبار، على أساس أن جميع القيم والحقوق والواجبات تنبثق من الأفراد، وان الفرد هو وحدة التنظيم الرئيسة، وهذا الاتجاه من المنظمات منتشر في المجتمع الغربي، أما الاتجاه الثاني، فهو الذي يؤكد على قيم الجماعة وأهميتها وأولويتها، وان الإنجاز الجماعي هو الأساس، والمصلحة الجماعية تأتي بدرجة سابقة لمصلحة الفرد، عليه فان الجماعة في هذا الاتجاه من المنظمات، هي وحدة التنظيم الرئيسية، وهذا الأسلوب منتشر في المجتمع الياباني مثلا.
إن التركيز على وحدة الفرد التنظيمية، سيشجع على التفوق والتنافس نحو الأفضل في العطاء والإبداع، في حين أن وحدة الجماعة التنظيمية، ستمنع إشاعة نظرة التفوق والفردية، وحب الذات، وتشيع العمل الجماعي المرتبط بقيم التعاون والتكامل الإبداعي. وعليه فان المنظمات التي ندعو اليها في مجتمعنا، لا بد لها من تحقيق الموازنة بين الاتجاهين الفردي والجماعي، لتحقيق النموذج الأمثل في العمل والأداء، وصولا إلى ما يمكن ان يطلق عليه، بالمنظمات المتكاملة.
عناصر العمل في المنظمات غير الحكومية
7- تعتبر المنظمات غير الحكومية (NGO)، من أهم مكونات المجتمع المدني (C.S)، واحيانا يترادف المفهومان في الكثير من الأدبيات السياسية. ولأجل التخطيط لأفضل آلية لأداء هذا التنظيم، سيكون من الضروري استعراض الخصائص والمبادئ العامة لخريطة مكوناته واهم العناصر المعرفة لها :
أ- عنصر الاستقلال المالي. الذي يكون مصادره الدعم المحلي أو الخارجي والتبرعات. وتوجد منافذ محلية ودولية متخصصة لدعم المنظمات غير الحكومية، حيث تقوم بتعريفها للجهات المتبرعة والمانحة للهبات المالية، بوسائل مختلفة منها الأعلام وشبكات المعلومات المحلية والدولية.
ب- عنصر العمل التطوعي. تعتمد المنظمات على الخدمات شبه المجانية والمجانية، التي يقدمها، منتسبوها والمتعاونين معها، مع نسبة محددة فقط من العاملين الدائميين فيها لقاء أجر معقول.
ج- عنصر الاستقلالية. في العمل والأداء عن الدولة، فهي تدير أنشطتها ذاتيا ولا ترتبط بأحزاب سياسية ولا تسعى إلى الوصول إلى السلطة، مع إمكانية إقامة علاقات عامة مع مختلف الجهات الفاعلة في الدولة والمجتمع، وكذلك إمكانية أدائها لوظائف سياسية مثل تدعيم المشاركة السياسية للمرأة.
د- عنصر عدم استهداف الربح في العمل. وينطبق ذلك على المنظمات التي وان حققت ربحا في أنشطتها، فإنها توجهه إلى الغرض من تكوينها مثل مساعدة المعوقين، رعاية المسنين، تنظيم الأسرة.
عوامل التأثير في أنشطة منظمات المجتمع المدني
8- هناك مجموعة من العوامل التي تؤثر في طبيعة عمل المنظمات غير الحكومية، ومستوى تطورها، ودرجة تأثيرها في المجتمع، ومن ثم محاور أنشطتها وتأثيرها السياسي ومستوى الضغط الذي تمارسه على الحكومة، وقدرتها على ايصال صوتها إلى مراكز القرار والمشاركة في رسم ملامح النتائج الانتخابية الدستورية. في هذه الاتجاهات يمكن تأشير العوامل التالية :
أ- العامل الديمغرافي (السكان) وتوزيعهم. الذي يؤثر على مستوى الأنشطة التي تمارسها المنظمات غير الحكومية، وكثافتها، ومواقع تأثيرها جغرافيا.
ب- عامل التكوين الاجتماعي للسكان. وينعكس هذا العامل على مستوى الانتماء في منظمات المجتمع المدني وبالتالي خارطة تلك المنظمات، وأنواعها التي تكون اكثر تأثيرا وحضورا.
ج- مستوى التطور في البناء الديمقراطي. للمؤسسات السياسية والدستورية، الذي يتيح لمنظمات المجتمع المدني، أن تمارس دورها الاجتماعي بشكل حضاري وفق تقاليد ديمقراطية ومن ثم تأثيرها على المسار السياسي وقراراته.
د- درجة انفتاح النظام السياسي. ويعنى به انفتاح الدولة والحكومة على مصادر المعلومات المؤسسة لعملية صنع القرار، والتي تكون قاعدتها الرئيسة منظمات المجتمع المدني، وبذلك ستساهم هذه المنظمات في دورة القرار السياسي.
ه- العامل الاجتماعي والاقتصادي. المرتبط بدور الدولة، فعندما تنسحب الدولة أو تقلل حضورها في مجالات وقطاعات معينة، مثل التعليم، الصحة أو الأعلام، سيشجع ذلك منظمات المجتمع المدني لان تنشأ لسد وملئ الفراغ الناشئ عن ذلك في تلك القطاعات، سواء بتقديم الخدمات فيها بأسعار رمزية أو مجانية أو تشكيل التنظيمات الناشطة في تلك القطاعات.
و- عامل العلاقات. أو الروابط الدولية المتيسرة، نتيجة ازدياد الاهتمام الدولي والدعم العالمي لأنشطة المنظمات غير الحكومية، خاصة في الدول حديثة العهد بهذه الانشطة، وتبرز في العالم منظمات متخصصة لدعم منظمات المجتمع المدني يطلق عليها (منظمات دعم المنظمات) عبر مختلف الوسائل والسبل، ومنها استخدام شبكة المعلومات الدولية (الانترنيت) أن منظمات المجتمع المدني تستفيد عادة من هذه الطرق والمصادر في تمويل أنشطتها.
تصنيف مكونات المجتمع المدني
9- لغرض حصر مكونات المجتمع المدني من منظمات غير حكومية وروابط وجمعيات ومؤسسات وهيئات واتحادات، ودراسة أنشطتها وتأثيرها العام، يمكن تصنيفها إلى ما يلي :
أ- مجموعات المصالح الخاصة. وهي المنظمات المهنية والاتحادات والنقابات والجمعيات، التي تلتئم فيها شريحة معينة، ترتبط فيما بينها باهتمامات ومصالح مشتركة، ذات طبيعة اقتصادية، اجتماعية ومهنية، تحدد السياسات التي تدعوا اليها، وتدافع عنها، إضافة إلى أن بإمكانها أن تتخذ مواقف عامة من قضايا ذات اهتمام عام، تقع خارج الأمور التي تخصها مباشرة. ومن أمثلة هذه التنظيمات الاتحادات المهنية مثل (اتحادات الطلاب واتحادات العمال واتحاد الفلاحين واتحاد الاقتصاديين) والنقابات المشكلة لها فضلا عن النقابات المهنية الأخرى مثل نقابات (المحامين، المهندسين، الأطباء، المهندسين الزراعين، الصحافين، الصيادلة، أطباء الأسنان، المهن الصحية، المحاسبين والمدققين، المعلمين، وغيرها)، التي تشكل رأس الحربة في جماعات الضغط السياسي والاجتماعي والعام.
إن هذه التشكيلات، تحظى في الساحة العراقية (السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية)، بحضور قديم، وتتمتع بتقاليد مكتسبة ودور تأريخي كبير في تلك المجالات، كما أن هذه التشكيلات تمتلك نهجا في العمل الديمقراطي ضمن برامجها وقوانينها، مارسته خلال فترات ليست قليلة من تاريخها، قبل تدخل النظام السابق، الذي قام بتشريعات خطيرة ألغى خلالها اكبر شريحة فيها وهي عمال القطاع العام، مما حول اتحاد العمال إلى تشكيل هزيل غير ذي شأن سياسيا واجتماعيا، ثم حاول إلغاء اتحاد الجمعيات الفلاحية من خلال ربطه بأنشطة أخرى وعلى الرغم من انه حاول إبقاء الصورة الديمقراطية في السلوك الظاهري لهذه التشكيلات، مثل إبقائه على الانتخابات والمؤتمرات الدورية لهيئاتها العامة، غير أنها كانت تقترب شيئا فشيئا إلى الصورية من خلال فرض الأشخاص على قياداتها.
عليه فان المعالجات المطلوبة لهذه التشكيلات ستختلف عن سواها من مكونات المجتمع المدني، كونها قائمة بتشريعاتها وتقاليدها، وسيتطلب فقط اجراء الإصلاحات المطلوبة في التشريع والممارسات، مع وضع آلية لضبط السلوك الديمقراطي فيها، وضمان المشاركة السليمة لها في آليات العملية السياسية والدستورية في الدولة العراقية. واعادة النظر بالإجراءات الفورية السريعة التي اتخذت بشأنها ومن ضمنها تشكيل القيادات المؤقتة لها خلال المرحلة التي أعقبت سقوط النظام السابق، ليجري إعادة تشكيلها وفق الأطر الديمقراطية الشرعية السليمة، اسوة بالتجربة الحالية لنقابات العمال.
ب- مجموعة المصالح العامة. وهي مكونات المجتمع المدني، التي تنشط في الاتجاه الاجتماعي العام، الذي يخص المجتمع ككل. وتشكل هذه المجموعات جزءا من جماعات الضغط السياسي، غير انه محدد مقارنة بالمجموعة الأولى، لكنه ذو دور اجتماعي وتنموي وحضاري كبير، وفي حالة ارتقائه إلى مستوى رفيع في الأداء، فانه سيشكل قاعدة معلوماتية واسعة لمراكز القرار السياسي، فضلا أن أنشطتها ذات التوسع الأفقي ستكون ذا أثر ملحوظ في العملية السياسية الدستورية وبالذات طرح الأسماء ذات الفرصة الأكبر لتحظى بمقاعد ممثلي الشعب.
إن هذه التشكيلات ذات خبرة محدودة في الساحة العراقية، وحتى وان وجدت، فهي كانت مرتبطة بإحدى مؤسسات الدولة وتعمل كإحدى تشكيلاتها، عليه لم يعرف الشارع العراقي أي اثر سياسي أو اجتماعي عام لها، مما سيتطلب تنشيط التشريع القانوني لهذه التشكيلات ووضع آليات عمل كفوءة لها لضبط النهج الديمقراطي في قراراتها واختياراتها، لضمان سلامة تأثيرها العام في السياسة والمجتمع. ويمكن تحديد المكونات التالية لهذه المجموعات :
أولا: منظمات البيئة وحماية البيئة.
ثانيا: منظمات الرفاه الاجتماعي والاتحادات التعاونية.
ثالثا: منظمات حماية المستهلك.
رابعا: منظمات الحد من الجريمة والوقاية منها.
خامسا: منظمات الوقاية الصحية والخدمات الطبية.
سادسا: المنظمات التي تدعو إلى ثقافة معينة مثل منظمات (حقوق الإنسان، حقوق المرأة، حماية الطفل، رعاية الأسرة، الأمومة والطفولة).
ح- هيئات الإعلام ووسائله غير الحكومية. وهي الهيئات غير الربحية المستقلة في سياساتها وبرامجها وميزانياتها بالاعتماد على الدعم المالي، غير انه لا بد ان يجري ترخيصها ومتابعة أنشطتها في الإطار التنسيقي والتقني العام، ولجهة ضوابط الأمن الوطني والاستقرار الاجتماعي، ويدخل ضمن هذه المجموعات الصحفيون العاملون في مؤسسات الصحيفة المقروءة والمسموعة والمرئية، وسيكون على الحكومة العراقية ايلاء هذا القطاع اهتماما كبيرا، كون العاملين فيه درجوا على انتماء هيئاتهم مباشرة للحكومة والدولة ونظامها السياسي، فلا يجهدوا في رسم السياسة واتجاه التأثير الإعلامي، لقد جرى تشريع بعض القوانين في المرحلة السابقة الحكومة السيادية، لهيئة إعلامية وأخرى للإذاعة والتلفزيون، لأداء الأنشطة ذات العلاقة بتوجيه وتفعيل هذا القطاع، وسيكون على الحكومة السيادية إعادة النظر بهيكليتها وأهدافها واطر أنشطتها. ان لهذه المجموعات دور كبير في بناء القاعدة المعلوماتية لمراكز القرار، والتأثير الاجتماعي الذي سينعكس حتما على التكتلات السياسية التي ستستحوذ على مقاعد ممثلي الشعب ومن ثم تحملها مسؤولية التكليف لتشكيل الحكومة المنتخبة القادمة. فضلا عن أدوارها الخطيرة في المرحلة الانتقالية الراهنة.
د- مكونات المجتمع العلمي. وهي المراكز البحثية العلمية والمؤسسات العلمية والكليات الأهلية، ومجمعات العلوم واللغة ومجالس البحث العلمي، والروابط الأكاديمية التي ينشط من خلالها المفكرون والباحثون واصحاب الرأي والفكر، بما يطلق عليه بتجمعات المجتمع العلمي. ان لهذه التشكيلات حضور وتقاليد فاعلة في الساحة العراقية وعلى الرغم من ابتعادهم النسبي عن المجتمع وقاعدته الواسعة، غير ان المجتمع العراقي يكن لهذه الشريحة احتراما كبيرا واحيانا كثيرة يستمع إلى طروحاتها وارائها، مما ستشكل بوصلة مهمة في توجيه الرأي العام، وسيكون على الحكومة متابعة طروحاتها لاعتمادها ضمن مصادر المعلومات لبناء وصنع القرار وتشكيل العملية السياسية الدستورية.
هـ- المشاريع الصناعية الصغيرة. وهي الورش الإنتاجية ومعامل الصيانة والانشطة الصناعية الصغيرة الخيرية. أن هذه المكونات، يكون لها دور حيوي في المجتمع، لجهة القضاء على البطالة، وامتصاص الحجم الكبير من العمالة الواسعة وخاصة غير المؤهلة تأهيلا علميا عاليا، فهي بذلك توفر فرصا للعمل، كما أنها تؤهل أعدادا من المهارات والمهن الإبداعية، التي تمثل سمة رفيعة للمجتمع وقاعدة للتراث الوطني. أن المشاريع يجري تشغيلها كجزء من أنشطة المجتمع المدني، كخدمة اجتماعية، وبالتالي فأنها ستشكل دورا اجتماعيا، خاصة إذا ما جرى تنظيمها قانونا وفق تقاليد ديمقراطية تتبع في اختيار إداراتها ومسئوليها.
وواجهات المؤسسة الدينية. وبضمنها الهيئات الدينية والجمعيات المتخصصة أو المهتمة بالتوعية والتثقيف الديني. ولا يخفى أهمية هذه المكونات في التأثير الاجتماعي والسياسي، سواءا في صنع القرار أو رفض وتأييد التكليف الحكومي، فضلا عن كونها تمثل امتدادات طبيعية لحركات وتنظيمات سياسية.
العوامل المؤثرة في اتخاذ وصنع القرار السياسي
10- لأجل إظهار دور وأهمية مكونات المجتمع المدني في عملية صنع واتخاذ القرار، وتأثيرها في مركز القرار، ستدرج لاحقا جملة العوامل المؤثرة في القرارات التي تتخذها الحكومة و في رسم سياساتها، وكما يلي بشكل مركز :
أ- دور الرئاسة التنفيذية للحكومة وشخصيتها واتجاهاتها الفكرية والثقافية.
ب- دور التركيب الاجتماعي والسياسي.
ج- دور الرأي العام المستنير وقوى الضغط.
د- القوى والحركات الفاعلة في الساحة السياسية.
هـ- الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية السائدة ومستوى تطورها ونموها.
و- عوامل الأمن الوطني بمرتكزاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية.
ز- مدى نمو وتطور النظم المعلوماتية ومصادر جمع المعلومات والبيانات ونقلها وتداولها وتحليلها وفرزها وتمحيصها، مع الأجهزة والمعدات الساندة والمعاونة لها.
ح- العوامل الخارجية ومستوى العلاقات الدولية والإقليمية وحجم الاتفاقات والمعاهدات المبرمة مع الدولة لأجل تنظيمها.
11- يلاحظ من دراسة العوامل المؤثرة في اتخاذ القرارات الحكومية، أن اكثر من نصفها تتعلق بقوى ومكونات المجتمع المدني، والتي تكون باتجاهين، الأول تأثير المجتمع المدني ومنظماته في صنع القرار ورسم وتوجيه سياسات الحكومة، والثاني دورها في منح الفرص للتكتلات السياسية أو ترجيح دورها في الساحة السياسية والإجتماعية لتكليفها بالتشكيل الحكومي واستلام سدة الحكم، ومن ثم لجهة منح الثقة في الحكومة داخل المؤسسة التشريعية لممثلي الشعب واستمرارية وديمومة الحكومة.
الدور السياسي والإجتماعي لمكونات المجتمع المدني
12- تحظى أنشطة المنظمات غير الحكومية ومختلف مكونات المجتمع المدني، بإهتمام كبير في المجتمع والرأي العام، فهي تمارس عملية تأهيل وتثقيف وتوعية المجتمع من جهة، والتأثير في السياسات الحكومية، للحصول على
المكاسب المخطط لها في مجمل اهتمامها من جهة أخرى. وبذلك فان هذه الأنشطة تكون واسطة فاعلة، بين الفرد والحكومة، التي عادة ما تكون منشغلة في الاهتمامات السياسية العليا والدولية والشؤون الستراتيجية، عن تفاصيل ودقائق حياة المجتمع ومتطلباته، فعبر هذه المكونات ينشط المجتمع المدني، ليكون مكملا للنظام العام، في إطار النهج الديمقراطي، من خلال النقاش الحر ونشر الأفكار والرؤى، واقامة المؤتمرات والندوات العامة، وطرح مشروعات التعاون الفكري في ممارسة الخلاف والتوافق وتقريب وجهات النظر، لتمكين الحكومة من اتخاذ القرارات الملائمة لجهة مصلحة الفرد والمجتمع. ان النسيج الاجتماعي المتنوع من الأفراد والمصالح، يستوجب من المنظومة السياسية الدستورية، أن تضمن سماع أصواتهم وتحترم آرائهم.
13- إن مكونات المجتمع المدني، تشكل حزمة من نقاط الضوء والإشعاع لجهة النظام الديمقراطي كأسلوب للحياة، ويشمل ذلك الآراء والمقترحات أو الضغوطات المؤيدة أو المعارضة للحكومة، غير انها في النتيجة ستساهم وتشارك في العملية السياسية الديمقراطية، بحيث يمكن تشبيه عمل السياسي في المجتمع الديمقراطي كمصفاة تمر من خلالها، مطالب أفراد المجتمع المتنوع، وتقوم مكونات المجتمع المدني بإيصالها، فتتحول إلى سياسات عامة، تعبر في النهاية عن صوت المجتمع وارادته ومتطلباته. أن من المظاهر المهمة لأنشطة المجتمع المدني الإيجابية، هي الحملات التي تقودها الصحافة الحرة لمحاربة الفساد السياسي والإداري في عمل الحكومة ومؤسساتها، ومنع تسلطها، ويدخل في هذا المضمار أنشطة منظمات حقوق الإنسان في مجال المتابعة العامة لأوضاع الحقوق والحريات العامة، إضافة إلى إقامة الحلقات النقاشية حول القضايا التي تدخل ضمن اهتمامات الحكومة خلال المراحل الحرجة، وتقديم الأفكار والمعالجات المستمدة من القاعدة الاجتماعية.
مخاطر واحتمالات الدور التسلطي (السلبي) لمكونات المجتمع المدني وأثارها
14- قد ترصد بعض المخاوف من احتمالات الدور السلبي لأنشطة المجتمع المدني، مما سيرشحها إلى العمل التسلطي البديل عن تسلط الدولة في الأنظمة القمعية، ومن ذلك تورطها في قضايا الفساد، من خلال ازدواجية معايير الفئة المثقفة لجهة العمل الديمقراطي لحساب قوى دون أخرى، شيوع الممارسات اللاديمقراطية بين المرشحين المتنافسين في انتخاب القيادات لمنظمات المجتمع المدني، أن تلك النتائج سوف تنعكس على أداء الحكومة، كون هذه المكونات ستؤلف مساحة كبيرة من مصادر القاعدة المعلوماتية، التي تستند إليها الحكومة في صناعة القرار، فضلا عن تشكيلها لنسبة كبيرة من الأطر التشريعية أو المجالس الموازية لها، البلدية أو الاستشارية أو الرقابية، كما هو الحال خلال المرحلة الانتقالية الراهنة واللاحقة (المنتخبة)، من خلال المجلس الوطني المؤقت ثم الجمعية الوطنية.
15- إن الدولة التسلطية هي من نتائج مجتمع تسلطي، وان الخطر الأكبر في هذا المبحث، هو أن تظهر الدولة والحكومة، مساحة كبيرة من الديمقراطية والتسامح وقبول الآخر، أكثر مما يفعله المجتمع المدني نفسه، مثل اعتراض بعض مكونات المجتمع المدني على حجم ترشيحات النساء للمقاعد السياسية والتشريعية، استجابة لأعراف أو تقاليد جامدة، أو اعتراض بعض مكونات المجتمع على أجراء الانتخابات السياسية أو البلدية بدعوى معوقات إدارية أو أمنية أو بدعوى انحسار لدور اجتماعي معين. عليه فانه مثلما يكون الأداء الديمقراطي، حاضرا في الدولة أو المجتمع المدني، فان الأداء التسلطي، قد ينسب أيضا للدولة أو للمجتمع.
16- تغلغل المكون الديني في الثقافة والنشاط الاجتماعي، مثل دور الأوقاف الدينية في مساعدة غير القادرين، والنفوذ الديني في المؤسسات العلمية والثقافية وحتى في مؤسسات الدولة. لقد أثبتت التجمعات الإسلامية حضورها في الساحة السياسية واتخاذها من العمل الأهلي ضمن المجتمع المدني آلية من وسائلها في التعبئة والتجنيد، ويظهر ذلك جليا في الأنشطة المكثفة للجماعات الدينية في الأوساط السياسية منذ السبعينات وقبلها. عليه فان هذا الدور المميز داخل المجتمع المدني، إذا ما جرى قيادته من خلال تلك الجماعات فانه سوف يلقي بظلاله لجهة الدور التسلطي للمجتمع المدني.
17- إن مستوى التطور السياسي والاجتماعي للنظام، يتحكم عادة في مستوى الحضور العام لمنظمات المجتمع المدني، كما انه يتحكم كذلك في توجيهاتها وجداول أعمالها، فضلا عن حضور المنظمات ذات الأنشطة الحساسة مثل حقوق الإنسان والحقوق السياسية للمرأة، التي تستخدم المدخل النوعي في مقاربة قضاياها، بمعنى التعامل وفق علاقة ديناميكية متطورة تتأثر بوضع طرفيها من مرحلة إلى أخرى. أن علاقات السلطة مع منظمات المجتمع المدني في أشكالها السلبية، تكون متفاوتة عادة بين تدخل السلطة في شؤونها والضوابط التي تضعها لتأسيسها وتوجيه أنشطتها وتعيين بعض ممثليها في قياداتها، وقد تصل العلاقة السلبية إلى تجميد عمل المنظمات أو حلها أو تعقب أنشطتها.
التوصيات
18- على ضوء العرض السابق لآليات عمل المنظمات غير الحكومية وأهدافها الاجتماعية والسياسية، كمجموعات ضغط وفق التقاليد الديمقراطية. وفي ضوء أهمية هذا الجانب الحيوي في أعمال الحكومة الانتقالية الحالية، والاستحقاقات السياسية القانونية للمرحلة الانتقالية وهي تشكيل المجلس الوطني المؤقت ثم التهيئة لانتخاب الجمعية الوطنية، ندرج التوصيات التالية:
أ- تأكيد السلوك الديمقراطي في نهج منظمات المجتمع المدني، بالتأكد من وجود آليات ضابطة لعملية انتخاب القيادات والإدارات فيها، وممثليها في الفعاليات السياسية والاجتماعية العامة، لضمان النهج الديمقراطي السليم في انتخاب ممثلي الشعب، وإيصال الصوت الحقيقي للقاعدة الشعبية إلى مراكز القرار.
ب- الاهتمام بتشريع قانون للمنظمات غير الحكومية، (إصدار أمر له قوة القانون) وفق الصلاحيات التشريعية للحكومة الانتقالية، ليحل محل القرار (45) الذي أصدرته سلطة الائتلاف، ينظم آلية تسجيل المنظمات وشروط اكتسابها الشرعية في العمل والنشاط العام، ويحقق الموازنة بين منع التسيب في أنشطتها وعدم الوصاية عليها والموازنة بين التوسع الأفقي والحاجة الفعلية.
ج- أن يجري تسجيل المنظمات غير الحكومية بجهة مركزية حكومية، (التخطيط حاليا)، مثل وزارة حقوق الإنسان، أو تكليف إحدى وزارات الدولة لهذا الواجب لتكون (وزارة الدولة لشؤون المجتمع المدني) كون وزارة التخطيط مهتمة بواجبات واسعة، لا تمنحها فسحة الاهتمام الكافي لهذا الموضوع.
د- يطلب من المنظمات عند تقديمها طلب التسجيل النظام أو البرنامج الداخلي للمنظمة، ويشتمل على آلية انتخاب الأعضاء القياديين والهيئة الإدارية العليا في المنظمة، وسياق تنسيب ممثلي المنظمة إلى المجالس العامة، وتسمية الناطق الإعلامي لها.
هـ- يفرض حضور قاض مختص للأشراف على الممارسات الديمقراطية الانتخابية ويكون المرجع المعتمد لقانونية وشفافية الممارسة ونتائجها، وتضمين القانون المقترح آلية لهذا الأداء، مع إمكانية للنقض والتميز لدى جهة قضائية محددة.
و- تكون جميع وزارات الدولة معنية بالعمل والتنسيق مع المنظمات غير الحكومية ذات الاختصاص والاهتمام القريب من عمل الوزارة، ويكلف في كل وزارة قسم متخصص لهذا الجانب، مع لجنة تنسيق من المنظمات، لمتابعة الأنشطة المشتركة مع الوزارة. وان تبين المنظمات أهدافها وتخصصاتها وبرامجها لغرض تفعيل التنسيق بكافة جوانبه.
ز- وضع آلية لاختيار ممثلي المجتمع المدني في المؤتمر الوطني الموسع وفق النسبة التي تقررها اللجنة التحضيرية لاعداد وتنظيم المؤتمر، من خلال تكليفها لجنة للقيام بمسح أفقي لحقيقة الحضور والنشاط الذي تمارسه المنظمات المسجلة ومن ثم دعوة ممثليهم إلى المؤتمر على ضوء ذلك.
ح- وضع سياق لإيصال الآراء والأفكار التي تترشح عن منظمات المجتمع المدني إلى الحكومة الانتقالية لاعتمادها كقاعدة معلومات ساندة لصنع واتخاذ القرارات الحكومية، من خلال المؤتمرات والندوات الحوارية الدورية لمكونات المجتمع المدني بحضور ممثلي الحكومة على المستوى القطاعي أو الجغرافي، واعتماد التقارير الدورية للمنظمات من قبل الجهة الحكومية المركزية.
ط- دراسة التوزيع السكاني والاجتماعي والثقافي في المجتمع العراقي، من خلال المسوح الميدانية التي تجريها الجهة المركزية المكلفة بالمجتمع المدني بهذا الواجب، وعلى ضوء النتائج يجري تنشيط المنظمات الملائمة للحاجة، ضمن الاهتمام والاختصاص والحجم والتوزيع الجغرافي الملائم.
ي- تنشيط منظمات المجتمع المدني في القطاعات التي تنوي الدولة الانسحاب منها أو ترقيق أنشطتها فيها، وفق التخطيط الستراتيجي والإداري نحو تقليل عبء أجهزة الدولة، وذلك بان يجري ملئ الفراغ الناشئ من خلال أنشطة منظمات المجتمع المدني، كي لا يكون المواطن محدود الدخل هو الضحية في تلك الإجراءات، في حالة تحول تلك القطاعات إلى شركات القطاع الخاص المحلي أو الأجنبي.
ك- لخصوصية الاتحادات والنقابات المهنية، كونها تمتلك تقاليد عمل وممارسات وتجارب مختزنة، يفترض الإبقاء على تشكيلاتها مع تفعيل حضورها ورفع الضير الذي أصابها نتيجة تسلط النظام السابق، غير انه من الضروري إعادة النظر بالعمليات الانتخابية السريعة التي أجرتها المؤتمرات النقابية على عجالة بعد سقوط النظام السابق، مما أوصل بعض القيادات غير الشرعية لها، من خلال عقد مؤتمرات مجددة للانتخابات اسوة بنقابات العمال، قبل أن تعتمد تلك القيادات في تمثيل نقاباتها واتحاداتها المهنية في المؤتمر الوطني الموسع.
ل- تشجيع العلاقات الدولية بين مكونات المجتمع المدني ومثيلاتها في الخارج لتبادل الخبرات والتجارب واعتماد الأساليب الأفضل فيها. مع تفعيل أنشطة منظمات الصداقة مع الشعوب، التي لها أثر إيجابي على استقرار العلاقات السياسية الدولية مع مختلف دول العالم.
اضف تعليق