راجي أنور هيفا
تشغل مشكلة العلاقة بين الأخلاق والدين حيّزاً هاماً في علم الأخلاق وفلسفتها، فالأخلاق والدين يشكّلان مظهرين من مظاهر الوعي الاجتماعي في كل المجتمعات التي عرفتها البشرية خلال رحلتها الزمنية الطويلة، والحقيقة التي تؤكد هذه الفكرة هي أن أشهر المطالب الأخلاقية قد صيغت، للمرّة الأولى، في إطار المذاهب الدينية؛ ولذا نرى أنه من الواجب على الإنسان - حتى ولو لم يكن على درجة عالية من الإيمان - أن يعترف بالدور الإيجابي الذي لعبه الدين في تطور وعي البشرية الأخلاقي.
وعندما نتحدث عن علاقة الأخلاق بالدين، لا يعني هذا أن العلاقة بين الأخلاق وبين بقية نشاطات الحياة معدومة، فهناك الكثير من الدراسات حول علاقة الأخلاق بالسياسة، وحول علاقة الأخلاق بالعلم، وأيضاً هناك دراسات مستفيضة حول الأخلاق والفن، وحول الأخلاق والحقوق، إلى غير ما هنالك من فعاليات ونشاطات اجتماعية أخرى.
إذا كنّا قد افتتحنا بحثنا بالكلام عن الأخلاق والدين، فإنما قمنا بذلك لأن العلاقة القائمة بينهما تعتبر من أقوى العلاقات، بالإضافة إلى أن الكثير من المفكرين والفلاسفة يعتقدون أن علم الأخلاق هو المولود الشرعي لعلم الأديان والشرائع.
وهنا يبرز أمامنا السؤال التالي: إذا كان علم الأخلاق هو الابن الشرعي لعلم الشرائع، فلماذا نرى تلك الصراعات في قضية فرض المبادئ الأخلاقية على جماعة أو مجتمع ما؟ من أين نشأ هذا الصراع، وما هي طبيعته؟.
إن مصدر الصراع في الأخلاق والمُثُل الأخلاقية هو نفس المصدر الذي يسبّب الصراع الدينيّ بين أجنحة الأديان المختلفة، ولكن الشيء الذي يضاف إلى ذلك هو أن علم الأخلاق يبدو في طبيعة تركيبته الأيديولوجية أكثر ميلاً للتصنيف في قائمة العلوم (التقديرية) وليس في قائمة العلوم (التقريرية).
فالأخلاق والمفاهيم الأخلاقية، عموماً، يُنظرُ إليها كما يُنظر إلى لوحة رسم داخل جدران متحف كبير يغصُ بالزائرين الذين يتفاوتون بدرجات ثقافتهم الفنية والاجتماعية، بالإضافة إلى تفاوتهم بطبيعة أعمالهم وبيئاتهم وتربيتهم الأسرية، فكل زائر من أولئك الزائرين سينظر إلى اللوحة الفنية من وجهة نظره الخاصة المرتبطة بمنظومة أفكاره التي يختزنها بداخله؛ ولذا فقد يركز هذا الزائر كل انتباهه على لون البحر وصفاء مائه دون أن ينتبه كثيراً إلى حمرة السماء عند الغروب. وهو قد يفعل هذا لأن طبيعة عمله وطبيعة فكره تفرضان عليه الانتباه إلى الماء أكثر من غيره، باعتبار أن عمله كبحّار يقتضي منه أن يراقب لون البحر وحركة أمواجه وصفاء مائه.
ورُبّ زائر آخر سيركز جل انتباهه على الأبنية الشاهقة الملاصقة للميناء البحري المرسوم في اللوحة، وإنما يفعل ذلك لأنه مهندس معماري، ومن طبيعة عمله أن يراقب أشكال وارتفاع ودقة بناء المنشآت المعمارية حيثما كانت، سواء كانت موجودة في فيلم سينمائي أو على أرض الواقع أو من خلال لوحة فنية.
إذاً، فالمفاهيم الأخلاقية كاللوحات الفنية كُلّ يراها من وجهة نظره الخاصة، وإن كان هناك اتفاق على الخطوط العريضة لهذا المفهوم أو ذاك، فكلّ المذاهب الأخلاقية تنادي بالصدق، وتحضّ على العدل، وتؤكد على عدم السرقة، وعلى عدم الاعتداء على حقوق وأعراض الناس.
نعم، كل هذا صحيح، ولكن المشكلة هي أن كل تيار من التيارات الأخلاقية له وجهة نظر خاصة في طريقة وحدود تطبيق هذه المبادئ، ومن هنا بدأ الشقاق في صفوف المُنادين بتطبيق مبادئ الأخلاق على كافة أنشطة الحياة وفعالياتها المختلفة.
لا يشك أحد في أن السرقة عمل لا أخلاقي وسيبقى هذا العمل اللاأخلاقي لا أخلاقياً في المستقبل كما كان حاله في الماضي. فالسرقة سرقة، ولكن ألا يمكننا أن نأخذ بعين الاعتبار أحياناً بعض الظروف الشخصية أو الاجتماعية المحيطة بالسارق، والتي لعبت دوراً ما في دفعه إلى السرقة؟ ألا يمكننا في هذه الحالة تبرير ما قام به من عمل ولو بشكل جزئي؟!
إن ما يقال عن هذا المثال، وما يمكن أن يتشعب عنه من آراء ومواقف، يمكن أن يعمم على بقية المفاهيم الأخلاقية، وبالتالي سينشأ عندنا، على الأقل، موقفان متباينان؛ فالموقف الأول هو موقف التيار المتشدد المتزمت، أما الموقف الثاني فهو موقف التيار المعتدل والمنفتح على الحياة وعلى طبيعة التغيّرات فيها. وقبل الخوض في طبيعة الصراع بين هذين التيارين، لا بد لنا من الوقوف ولو يسيراً على دور الأخلاق العامة في التغيير.
إن مجموعة القيم التي يعتمد عليها المرء في حياته تغطي مساحة عظيمة من أنواع السلوك الاجتماعي؛ فهي الهوية السلوكية للفرد من جهة، وللمجتمع كوحدة متكاملة من جهة ثانية، ولا يشك ذوو الألباب في حقيقة أن الارتباط بالمفاهيم الأخلاقية بالشكل الوثيق هو المعبر العريض للدخول إلى عالم الرقيّ والتحضّر.
فالبلدان المتقدمة صناعياً وتكنولوجياً ولا تحكمها القوانين الأخلاقية من خلال العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية القائمة بين أفرادها وسلطاتها، هي بلدان تتجه في خطّ سيرها نحو الهاوية، لأنها في محصّلة الأمر تدفع بأبنائها إلى تمزيق العلاقات الإنسانية الأخلاقية فيما بينهم.
فالفرد الذي تحكمه الآلة التي يعمل عليها أو المصنع الذي يعمل فيه، هو إنسان تحوّل إلى أسير أمام آلته، بفعل غياب الروابط والقوانين الأخلاقية التي كان من الواجب أن تحكم وجوده بدلاً من الآلة.
بينما البلدان التي تجعل الإنسان هو الغاية في مسيرة الحياة، وترفع من شأنه اجتماعياً وأخلاقياً، هي البلدان المتحضّرة حقاً، لأنها تقوم على ربط الإنسان بالأخلاق، ولأنها تجعل من الآلة الصناعية المتطورة عبداً للإنسان وليس العكس.
وهنا أيضاً يمكن أن نذكّر بأن خضوع المفاهيم الأخلاقية للمعايير النسبيّة من شأنه أن يولّد نتائج متضادة في قيادة المجتمعات، ما لم يتم إخضاع تلك المفاهيم للدراسات المعمّقة على ضوء تطورات المجتمع وتجدد حاجاته.
وقد سبق القول بأن هناك أكثر من تيار يمكن له أن يزاحم التيارات الأخلاقية الأخرى على قيادة وسيادة المجتمع، ولو أردنا استعراض أول هذه التيارات، فسوف يقع اختيارنا على التيار المتشدّد والمتزمت في تعامله مع المنظومة الأخلاقية، التي يريدها أن تحكم المجتمع من خلال سيطرتها على جميع أفراده.
إن أتباع تلك المنظومة الأخلاقية يريدون للمجتمع أن يبقى من خلال تزمّتهم الشامل، ضمن حيًز المفهوم النظري للأخلاق.
ولو أخذنا المجتمع الإسلامي كمثال على كلامنا هذا، للاحظنا أن هناك أكثر من فريق ضمن التيار المتزمّت ذاته، وهذه التيارات المتزمّتة لا تخدم بمجملها المجتمع الإسلامي، ولا تسعى لتفهّم احتياجات الفرد المسلم في عالم سريع التغيير والتغير.
والمشكلة الكبرى التي يقع فيها هذا التيار هي محاولته الدّؤوبة لفرض القيم الأخلاقية على أفراد المجتمع بالقوة والعنف. ومن المعروف تماماً في علم النفس الديني، أن الأخلاق التي تُفرض بالقوة تبقى أخلاقاً هشة قابلة للانحلال سريعاً، لأنها لا تدخلُ النفوس البشرية بقناعة، حيث لا تستقبلها تلك النفوس عن طيب خاطر.
وإذا كان المفهوم الإيماني هو أرقى المفاهيم الأخلاقية وأشملها، باعتبار أن الإيمان يشمل المفاهيم الأخرى، كالصدق والشجاعة والتواضع والأمانة والصبر والانضباط والرحمة والإنصاف، وإلى ما هنالك من المفاهيم الأخلاقية المتفق على أهميتها وعلى ضرورة وجودها، فإن الإيمان ذاته لا يمكن أن يكون بالإكراه وحد السيف. وقد أكد الله سبحانه وتعالى على هذه الحقيقة في مُحكم تنزيله قائلاً: (وهديناه النجدين) (1)، ودعا إليها في أكثر من موضع في كتابه، ليبيّن للناس أن الدعوة للإيمان الذي هو رأس كل قيمة أخلاقية لا تكون بالعنف والتزمّت، بل يمكن أن تؤثر ويتفاعل معها الناس، عن طريق الكلمة الطيبة والحوار المفتوح مع الجميع، وعندئذٍ يمكن للمرء أن يختار ما يريد من قيم يبتغيها لنفسه سلوكاً ومنهجاً في مسيرة حياته، فعندما يخاطبنا الله قائلاً: (إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً) (2)، فهذا يعني أن الإنسان يملك الحق في اختيار نظامه الأخلاقي الذي سيكون هو شخصياً المسؤول عنه في يوم ما، فعملية الإبداع الأخلاقي لا تأتي عبر فرض القيم على الآخرين بطريقة فوضوية غير مضمونة النتائج، بل هي في حقيقتها عملية تربوية تأتي من خلال إدراك المرء للمطلب الأخلاقي إدراكاً واعياً، وتنفيذ هذا المطلب لا بناءً على إلزام قسري، وإنما خضوعاً لصوت الضمير(3).
فالعنف في فرض القيم لا يولّد إلا العنف والضعف، في حين أن الكلمة الحسنة قد تفعل فعلها الإيجابي في الإنسان أكثر مما تفعله عملية الإخضاع للقيم بالإكراه والقوّة، ولو لم يكن الأمر كذلك لما قال الله تعالى: (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) (4). فلو كان العنف أو القوة هي المطلوبة في عملية التبليغ الأخلاقية لما حضّنا الله على أن ندفع بالتي هي أحسن أبداً.
ومنذ فجر الرسالة الإسلامية، والرسول (ص) وأهل بيته(ع) يمثلون الجانب الأخلاقي المتفاعل مع الحياة ومستجداتها، فهم (ع) يريدون للإنسان أن يسيطر أولاً على مملكة نفسه بإيقاظ الضمير فيها، وعندما نقول الضمير فإننا نعني بذلك الأخلاق الثابتة، التي ترفع من جاهزية الإنسان الإيمانية، وتعرج به إلى مرتبة الإنسان الفاعل في المجتمع والمؤثر فيه، فالضمير، كما يصفه المتصوًف الغربي (إيما نويل سويد نبرج): (هو صوت الله في الإنسان، فعندما يعلو صوت الله فينا من الداخل، سنكون عندئذ قادرين ومؤهلين لحمل راية الرسالة الأخلاقية بكل رحابة صدر وعن طيب خاطر).
ربما هذا الكلام لا يروق للتيار المتشدّد الذي يرى الحياة بمنظار القوة والانكفاء على الذات، وذلك في محاولة منهم للسيادة على المجتمع والتحكم به تحت ستار الحفاظ على أخلاق المجتمع وقيم الحياة.
ولو أخذنا مثالاً من تاريخنا الإسلامي على هذا النموذج المتشدّد في فهمه لنظام القيم الأخلاقية، ولكن بطريقة سلبية تجرف الإنسان عن طريق الحق إلى هاوية الضلال والانفصال عن جادة الحقيقة، فسيقع اختيارنا على الخوارج وحربهم مع الإمام علي أمير المؤمنين (ع)، فالخوراج أطلقوا شعاراً (لا حكم إلا لله) (5)، فلو قرأنا هذا الشعار مرات ومرات، فسيظل حكمنا الظاهري عليه أنه كلام ذو قيمة أخلاقية عالية، ولكن لو تفحصناه بدقة بالغة ضمن الظروف التي أفرزت ظهور الخوراج، فسوف نلغي حكمنا الأول عليهم مباشرة، وسندرك أنهم طلبوا الحق فأخطؤوه وقد عصوا الله من حيث ظنوا أنهم يطيعونه.
فلو أنهم أرادوا حقاً أن يكون الحكم لله دون غيره، لأطاعوا الله ورسوله فيما أوجباه عليهم من طاعة الإمام علي (ع) في أكثر من موضع في القرآن الكريم وفي العديد من الأحاديث النبوية الشريفة، فكيف يقف ضد ولي الله من أراد أن يكون الحكم لله؟!! وبالرغم من ضيق أفق المنظور السياسي – الأخلاقي عند الخوارج، إلا أن الإمام علياً(ع) نهى أصحابه عن مقاتلة الخوارج بعده معتبراً إياهم قوماً أرادوا الحق فأخطؤوه، وليس من يريد الحق فيخطؤه كمن يريد الباطل فيدركه.
إذاً، أراد الخوراج أن يسودوا بنظريتهم التي وُلدت ميتة نتيجة لفهمهم الخاطئ لأحد المفاهيم الأخلاقية الهامة، وهو مفهوم الطاعة لأولي الأمر، لقد رفع الخوارج القرآن بيد، لكنهم بنفس الوقت، حملوا السيف على من يؤكد القرآن أن الحق معه باليد الأخرى؛ أي أنهم حملوا القرآن ليتذرعوا به أثناء قتالهم لأهل القرآن.
أما المثال الثاني فهو المثال الذي يمكن أن نستشهد به على الانحلال الأخلاقي التام، والذي يتم عادة تحت ستار الدفاع عن الأخلاق والمبادئ؛ فربّ مُطالب بالحكم الديمقراطي للمجتمع، ولكن ما أن يصل هذا المُطالب إلى كرسي الحكم، حتى نرى أن أول شيء يقوم به هو إلغاء مصطلح الديمقراطية من قاموسه السياسي.
فعندما خرج معاوية على الإمام علي (ع) ومن بعده على الإمام الحسن(ع)، كان خروجه - على حد زعمه - للمطالبة بدم عثمان بن عفان من جهة، ولإرساء قيم الإسلام الحنيف من جهة ثانية، ولكن ماذا حدث بعد أن استتب له الأمر بعد ما عقد معاهدة الصلح مع الإمام الحسن(ع) (ع) والتي كان من بنودها:
1- تسليم أمر الخلافة الزمنية إلى معاوية على أن يعمل بكتاب الله وبسنّة نبيه(ص).
2- أن يكون الأمر كاملاً من بعده للإمام الحسن، وإن حدث به حدث فلأخيه الحسين (ع)، وليس لمعاوية أن يعهد إلى أحد.
3- أن يترك معاوية ورجاله سب أمير المؤمنين الإمام علي (ع).
4- أن يعطي معاوية الأمان للناس، وخاصة لأصحاب علي (ع) حيث كانوا، وأن لا ينال أحداً من شيعة علي بمكروه، وأن تكون شيعة علي (ع) آمنة على نفسها ومالها ونسائها وأن لا يتعرّض لأحد منهم بسوء.
إن أبسط ما يُقال عن النتيجة التي آلت إليها هذه المعاهدة بين الإمام الحسن (ع) ومعاوية، هو أن معاوية بعد تسلمه كرسي قيادة المجتمع، وقف خطيباً قائلاً لشيعة علي(ع) من أهل الكوفة: (لم أقاتلكم على الصلاة والزكاة والحج، وقد علمت أنكم تصلون وتزكون وتحجون، ولكنني قاتلتكم لأتأمر عليكم وعلى رقابكم، وقد آتاني الله ذلك وأنتم كارهون. إن كل مال أو دم أصيب في هذه الفتنة لمطلول، وكل شرط شرطته فتحت قدميّ هاتين) (6).
إذاً، معاوية لم يقاتل من أجل المبادئ الأخلاقية التي يحض عليها الحج والصوم والصلاة، بل قاتل كي يتـأمر على الناس بعيداً عن أي ضابط أخلاقي.
وهنا يبرز الصراع الأخلاقي بشكل واضح وجليّ تماماً، ففي الوقت الذي أراد الإمام الحسن بن علي (ع) أن يحكم الناس انطلاقاً من كتاب الله وسنّة نبيه الكريم(ص) معتمداً في ذلك على كل المنطلقات الأخلاقية التي ينادي بها الإسلام الأصيل، نرى معاوية على النقيض من ذلك تماماً، فهو يريد أن يصل إلى كرسي الحكم من أجل الكرسي ذاته، لا من أجل تحمل المسؤوليات الإنسانية الجسام التي يفرضها الجلوس على هذا الكرسي. ففي الوقت الذي يرى فيه الإمام الحسن (ع) أن كرسي الحكومة مسؤولية وأمانة، كان معاوية يرى أن الكرسي امتياز واستئثار. وهذا يقودنا إلى القول أن الإمام الحسن (ع) المشبع بأخلاقيات الرسالة والرسول(ص) كان ينظر إلى السياسة على أنها مبدأ أخلاقي، في حين أن معاوية الذي اتخذ الإسلام ذريعة لأهدافه، كان ينظر إلى السياسة على أنها لعبة و مراوغة ولو على حساب أمن الأمة الإسلامية نفسها.
وهنا نخلص إلى نتيجة مفادها أن التيار المتشدد في فرض الأخلاق، أو التيار الذي يفصل بين النظرية والتطبيق، من أجل الوصول إلى الغايات الخاصة، هما تياران بعيدان تماماً عن روح الدين الإسلامي الحنيف، في حين أن التيار الأخلاقي المعتدل الذي يؤمن بالثوابت والمتحولات، هو التيار الذي يمكنه استقطاب النفوس الإنسانية من أجل غرس القيم الأخلاقية السامية فيها، فعندما يقول أمير المؤمنين(ع): (لا تخلقوا أبناءكم بأخلاقكم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم..)، فهو (ع) يريد بذلك المتحولات التي تراعى فيها الظروف الزمنية والاجتماعية، ولا يقصد بذلك تغيير الثوابت من الآداب العامة، فالتيار الإسلامي المنفتح على الحياة هو التيار الأكثر ثباتاً، لأنه يجعل من الفضيلة الأخلاقية عوناً للإنسان في سلوكه الحياتي، لا عبئاً وفرضاً عليه بحيث يعيش طيلة عمره تحت وطأة هذا العبء الذي فُرض عليه بشكل قسري لا يتناسب مع طبيعته الإنسانية.
وإذا كان أرسطو يلحّ في تعريفه للفضيلة على أنها وسط بين رذيلتين، فهو بهذا التعريف لا يبتعد عن الصواب أبداً، فالفضيلة التي نسمّيها (الكرم) هي فضيلة تتوسط رذيلتين، الرذيلة الأولى هي التقتير، والرذيلة الثانية هي التبذير، وهكذا الأمر بالنسبة إلى بقية الفضائل، ولذلك فإن تيار الإسلام المتمثل بمحمد (ص) وأهل بيته (ع) هو التيار الذي يسعى لتحقيق هذه المعادلة، على ضوء معرفة النفس الإنسانية ومتطلباتها التي تتأرجح بين الإفراط والتفريط، والمدّ والجزر.
لقد أكد رسولنا الكريم (ص) في أكثر من مرّة أن خير الأمور الوسط، وما قصده صلوات الله عليه وآله هو ضرورة التمسك بالفضائل التي تناسب الطبيعة الإنسانية، والتي من المُقرر لها أن تلعب دور خليفة الله في الأرض.
إذاً، بما أننا بشر من أرواح وأجساد، فالله سبحانه يريدنا أن نعمل وفق قوله تعالى: (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين) (7). لكن كيف نبلغ الناس هذه الفلسفة الأخلاقية التي تراعي فينا الجانب الروحي (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة) وتراعي أيضاً الجانب الجسدي (ولا تنس نصيبك من الدنيا) والجانب الأخلاقي (وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض)؟؟.
إن الطريقة المثلى لتبليغ هذه الفلسفة الأخلاقية هي الطريقة المستمدة من آداب الله سبحانه وتعالى، وذلك بقوله: (ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) (8).
أما إذا أردنا تجاوز الثغرات التي تفصل بين النظرية والتطبيق، فعلينا أن نمتثل قول الإمام علي زين العابدين وسيد الساجدين (ع): (كونوا لنا دُعاة بغير ألسنتكم). أي تجاوزوا الأخلاق النظرية إلى الأخلاق العملية، إذ بالعمل وحده تكونون قادرين على إثبات ما تحملون من نظريات وقيم أخلاقية فاضلة.
أما الشق الآخر من مشكلة الصراع الأخلاقي فهو صراع الأديان والحضارات. فالأديان كلها لها جوهر واحد، إذ لا خلاف بين دين سماوي ودين سماوي آخر لأن رب الرسالات واحد، وإذا كان الرب واحداً، فكيف تكون الرسائل متضاربة في جوهرها؟!.
إذاً الخلاف بين الأديان ليس مصدره الله، وإنما مصدره الإنسان الذي شاء أن يُوجد هذه الخلافات العميقة، من خلال تركيزه على نقاط خلاف ظاهرية بسيطة، جاء بها كل دين ليوفق من خلالها بين الإنسان وظروفه الزمنية المحيطة به وقت نزول الرسالة. وما من رسول جاء لينقض رسالات من كان قبله من الأنبياء المرسلين (ع)، وإنما جاء ليؤكد جوهر الرسالات السابقة.
ولا يقل صراع الحضارات حدّة عن صراع المعتقدات الدينية، ولا نقول الرسالات السماوية، إن الصراع بين حضارتين يعني صراعاً بين فكرين أو فلسفتين، إذ كل فلسفة منهما تحاول أن تفرض وجودها على أرض الواقع من خلال ما تقدم من دوافع ومسوغات لاعتناق فلسفتها والسير على نهجها.
وأنا أعتقد شخصياً أن أول صراع قام بين فكرين أو فلسفتين هو الصراع بين هابيل وأخيه قابيل، إنه صراع بين حضارتين ولكن على المستوى الفردي، وهذه الظاهرة تمثل بداية حركة الصراع في الوجود الإنساني، ففي الوقت الذي قبل فيه هابيل أن يكون مُستخلفاً على الأرض، بما يملك من قيم روحية وفضائل أخلاقية، تجعل من هذه الفضائل الهدف الذي يجب أن يبلغه الإنسان، بحيث يجعله من خلال حركته في الحياة فوق الهدف والمسعى المادي، كانت وجهة قابيل عكس ذلك تماماً، إذ أنه أراد أن يجعل من استخلافه في الأرض وسيلة لفرض فلسفته على (الآخر) من خلال استخدام العنف والقوة الوحشية.
إن العنف الذي مارسه قابيل على هابيل هو من الناحية العملية الرفض التام لعملية الاستخلاف الإلهي، لأن الله لطيف وغفور ورحمن ورحيم وليس بظالم، بينما كان قابيل صلفاً عنيداً متغطرساً قاتلاً ظالماً لا يعرف للرحمة سبيلاً، إن هذا الصراع الأخوي هو صراع فرض القيم والأفكار.
ولو أردنا أن نوسع دائرة بحثنا عن هذا الصراع ولكن بشكل أكثر عمومية، لأمكننا عندئذٍ التحدث عن صراع كان ولا يزال قائماً بين الشرق والغرب، وهو الصراع الأخلاقي حول القيمة.
وحتى لا يكون هناك أدنى التباس في فهم معنى كلمتي (الشرق) و(الغرب)، فإننا نقول إن المقصود من كلمة الشرق هو شرقنا نحن، أي الشرق الذي يعتنق الإسلام كدين حضاري، بينما نقصد من كلمة الغرب، المدنيّة الغربية بغض النظر عن دينها، أي إن العملية عكسية تماماً بين مفهومي هاتين الكلمتين.
ومنبع التضاد بين هاتين الكلمتين هو أن الشرق الإسلامي، وبحكم تعرّضه للموجات المتلاحقة من الغزو والاستعمار العسكري والفكري، بات رهينة لظروف صعبة تحول بينه وبين العودة إلى المنبع الصافي للفكر الإسلامي الأصيل، ولذلك سنعتمد في حديثنا عن القيم على مبادئ الرسول (ص) مباشرة، وعلى مبادئ وتعاليم أهل بيته (ع) التي هي الاستمرار الصحيح لمبادئه(ص) المستمدّة من القرآن الكريم، أما في حديثنا عن الغرب وعن واقعه الأخلاقي، فإننا لا نقصد بذلك الغرب المسيحي، لأن المسيحية في جوهرها دين سماوي نظيف يقوم على إعلاء شأن الإنسان ويقدس الإنسانية، وإنما نقصد ذلك الغرب الذي ابتعد عن الروح المسيحية الصافية وبات مجتمعاً يلهث وراء المال جاعلاً منه الهدف الأسمى في الحياة.
ولو تحدثنا هنا عن علاقة الإسلام مع (الآخر) لرأينا أن الإسلام يعترف بالآخر، ويدعو إلى الحوار معه، ويطلب منا أن نجادله بالكلمة السواء بيننا وبينه، ويمكننا القول أيضاً أن الإسلام يدعو إلى البحث عن القواسم المشتركة بيننا وبين (أهل الكتاب) ويحثنا على الرفق في تعاملنا معهم وليس على العنف، ولذلك فإننا لا نستغرب أن تغيب كلمة (العنف) عن مصطلحات القرآن الكريم، إذ أنها لم تذكر فيه قط.
وبنفس الوقت، لا يمكننا أن نتجاهل في حوارنا مع (الآخر) الغربي، أن هذا الآخر الذي نريد أن نبني معه جسراً للقاء الحضاري، يعيش أزمات نفسية خطيرة، ومن الطبيعي أن يكون منشأ هذه الأزمات عدم القدرة على تأمين التوازن النفسي والهناء والسعادة للإنسان، في ظل الحضارة المادية المسيطرة على كافة نواحي الحياة. نعم، إن هذه المدنية الغربية حققت الكثير من المكاسب المادية والمكتشفات العلمية والاختراعات الصناعية، ولكن كان ذلك على حساب إنسانية الإنسان، وعلى حساب قيمه الأخلاقية التي تميزه عن بقية الآلات التي يعمل عليها في ليله ونهاره. إن الإنسان في الغرب يملك بيتاً ويملك سيارة، ويتزوج إلى حد ما في سن متأخرة، ولكن عليه أن يدفع ثمن كل هذا، ودائماً يكون الثمن من سمو روحه ومن استقراره النفسي. وسنعرض نماذج لذلك الاضطراب الذي يواجه المجتمع الغربي برمته.
النموذج الأول: من المشاكل الأخلاقية التي يعاني منها الإنسان الغربي هي مشكلة تراجع المقدس أمام اللامقدس، فقد حلت الأخلاقيات الأكثر مادية محل القيم الروحية، وهذا يعني الاضطراب الروحي المحتم وتراجع متطلبات الروح أمام متطلبات الجسد.
والنموذج الثاني: هو البحث عن غاية الوجود الإنساني في هذه الحياة. فهل خلقت كي أعمل وأتزوج وأقود السيارة وأشرف على المصنع أو المتجر حتى نهاية حياتي، دون أن يكون لي هدف روحي غير هذا الهدف المادي؟! إن هذه المشكلة هي التي خلقت في الغرب ما يُسمى بمسرح (العبث)، والحقيقة أن مسرح العبث لم يُخلق عن عبث بل وُلد كرد فعل على الخواء النفسي والفراغ الروحي اللذين يعيشهما الإنسان في الغرب.
أما النموذج الثالث للمشاكل الأخلاقية في الغرب فهو شعور الإنسان بالغربة والعزلة حتى عن ذاته، إذ أصبح الإنسان الغربي في العقدين الأخيرين من القرن الماضي مجرد رقم لا قيمة له أمام لغة الأرقام المالية، في عالم يجعل من أسواق البورصة أماكن للعبادة ومن المال إلهاً للتقديس، إن هذا الشعور بالغربة قاد الكثيرين من الشباب الغربي إلى التفكير بطريقة جديدة للهروب من مآسي الحياة، فكان الحل الوحيد هو تشكيل جمعيات سرية تدعو إلى الانتحار الجماعي!.
إن هذه العوامل، بالإضافة إلى عوامل كثيرة أخرى لا مجال لذكرها كلها هنا، تؤدي إلى هروب الإنسان الغربي من مبادئه الأخلاقية، واتجاهه نحو الرغبات والأهواء العمياء التي تقوده نحو الهاوية؛ فعندما يفقد الإنسان حنان أبويه وهو ما زال طفلاً أو يافعاً، فماذا نتوقع منه أن يصبح في المستقبل؟! هل نتوقع منه أن يتحول إلى قدّيس يحترم مصالح ومشاعر الآخرين؟ هل نتوقع ممن فقد العاطفة وهو طفل أن يغدو رجلاً ذا نفسيّة سويّة ومتّزنة؟
إن النتيجة الطبيعية لهذه الظروف هي تخريج دفعات متتالية من الشباب المدمنين على الكحول والمخدرات، وتخريج دفعات وأفواج من الفتيات اللواتي اتخذن الجنس وسيلة لكسب لقمة العيش، طالما أن المجتمع يقبل أن يشتري ويبيع الأجساد البشرية كأية سلعة أخرى.
والأمر الأكثر غرابة أن هناك، في ألمانيا تحديداً، جمعيات تحمل أسماء وألقاباً دينية، تدعو الحكومة الألمانية إلى اعتبار المومسات اللواتي يمتهنّ البغاء مواطنات وموظفات من الدرجة الأولى، وأن على الدولة أن تدفع لهنّ أجور الطبابة، وأن تعفيهنّ من ضرائب الدخل ومن الرسوم المترتّبة على بيوت الدعارة. أما في بريطانيا، فهناك عدة جمعيات تقدمت إلى البرلمان البريطاني بطلب الموافقة على عقد زواج الرجل من الرجل، وعلى الدولة أن تقدم التسهيلات لذلك!!.
إذاً، لا داعي للاستغراب من ظهور مرض الإيدز في بلدان تدّعي الحضارة بهذا الشكل السيء، إنه حقاً التحدي العظيم أمام المدنية المادية الغربية التي أغرقت نفسها في مستنقع الانحراف والشذوذ والفجور، بعد أن عملت ولا تزال على تحويل مجتمعاتها إلى دور كبيرة للدعارة، وأسواق واسعة لمقايضة كرامة الرجال بأعراض النساء.
إن المشكلة الأخلاقية الكبرى التي يعاني منها الإنسان الغربي هي أنه لا يستطيع أن يرفع بصره إلى السماء، بل تراه دائماً يركّز بصره على الأرض، لدرجة أنه توصّل أخيراً إلى إنكار عالم السماء وتفضيل عالم التراب عليه.
إن الفلسفات المختلفة كالفلسفة الوجودية والعبثية وحتى الماركسية، حاولت أن ترفع من مستوى الغرب الفكري، لكنها سرعان ما تهاوت، لأنها لم تقدم للإنسان الغربي أي تبرير مُقنع لوجوده على الأرض. فأية فلسفة أو نظام لا يسعى لتحقيق الأمن الاقتصادي والأمن الروحي المعنوي للإنسان، فهو نظام قابل للانهيار سريعاً، وربما يُكتب الانهيار له حتى قبل أن يتبلور بشكله النهائي، تماماً كالجنين الذي يُولد ميتاً. وقد صدق المفكر الفرنسي روجيه غارودي في كتابه القيم (وعود الإسلام) حينما قال عن الصراع الأخلاقي بين الإسلام والغرب: (إن مأساة الغرب تكمن في اعتماده على النمو المتواصل بدون هدف إنساني وأخلاقي.. لقد وجدت في الإسلام نظاماً اجتماعياً واقتصادياً وأخلاقياً، يصلح لإخراج البشرية من ورطتها الحاضرة حيث فشلت الرأسمالية والماركسية كنظم وضعية في إنقاذ الإنسان المعاصر من مشكلاته) (9).
إذاً، فالقيم الأخلاقية الإسلامية هي الدواء الناجع لأوجاع المدنية الغربية. وهنا استخدمت كلمة (المدنية) ولم أقل (الحضارة) لأن الحضارة هي حالة التغير الشامل باتجاه تطوير الأشياء بما في ذلك الإنسان، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الغاية العظمى للحضارة هي خلق الإنسان الفاضل، الذي يعمل لجعل الحياة العصرية في خدمته، لا أن يسعى لأن يكون هو في خدمتها أسيراً لتطوّراتها وتبدّلاتها.
إننا عندما نقرأ قوله تعالى: (يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً)(10)، وعندما نقرأ قوله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) (11)، عندما نقرأ هاتين الآيتين نشعر بالقيم الأخلاقية العالية للرسالة الإسلامية العالمية. إن عالمية الرسالة الإسلامية تفرض علينا نشر قيمها الأخلاقية بلغة الكلمة والحوار، لا بلغة العنف والسلاح، بل يمكن لنا القول إن أفضل الوسائل للتخفيف من الصراع بين الحضارات هو التزاوج بينها.
لا يستطيع أحد أن ينكر أن الغرب، من خلال مدنيته، قد قدّم للبشرية خدمات جليلة في مجال العلم والتقنيات، وقد تفوّق في ذلك على حضارة ابن الشرق، وإن كان قد استفاد منها كثيراً في عصر نهضته، فمن خلال حوار الحضارات وتلاقحها الفكري يمكن أن نصنع حضارة عالمية ذات روح شرقية وبجسد غربي.
فما هو المانع من أن يتقبل ابن الغرب الفلسفة الأخلاقية التي ينادي بها الإسلام؟ إننا لا نطلب من الإنسان الغربي أن يتخلى عن دينه، بل نطلب منه أن يرحم روحه المعذّبة، وأن يضمد جراح نفسه النازفة بضماد الأخلاق الإسلامية العالمية، تلك الأخلاق التي تبنتها مدرسة أهل البيت (ع) حيث كانت الاستمرار الحقيقي والصادق لسنّة الرسول الأكرم (ص) ولكتاب الله عز وجل.
إن أخلاق هذه المدرسة الإسلامية المتميّزة هي التي دفعت ابن شرقنا الأديب المسيحي جورج جرداق إلى كتابة سفر عظيم عن أخلاق هذه المدرسة، وقد أسماه (الإمام علي صوت العدالة الإنسانية) وهو مكتوب في خمسة أجزاء، وعندما تأثر الشاعر الكبير بولس سلامة بأخلاقيات أهل البيت(ع)، كتب عنهم وعن قيمهم الأخلاقية ديوانه الخالد (عيد الغدير)، وكتب عبد المسيح الأنطاكي (ملحمة الإمام علي)، وقد نذر الأديب المسيحي سليمان كتّاني نفسه وقلمه للكتابة عن أخلاق وفضائل أهل بيت محمد(ص)، فكانت حصيلة هذا الجهد أكثر من عشرة كتب في فلسفتهم الأخلاقية القادرة على قيادة العالم بأسره إلى شاطئ الأمان والإيمان، وإذا أردت أن تقرأ عن صراع القيم الأخلاقية بين أهل الإسلام الحقيقي وبين أهل المادية، فعليك بكتاب (الإمام علي أسدُ الإسلام وقدّيسه) للأديب (روكس بن زايد العزيزي)، ولن نغفل هنا عن ذكر كتاب هام للأستاذ انطوان بارا، وهو كتاب (الحسين في الفكر المسيحي) يتناول فيه أهمية وعظمة أخلاق الإمام الحسين (ع) من وجهة نظر مسيحية.
إن هؤلاء المفكرين المسيحيين، بعد قراءتهم لفكر الإسلام ولفلسفة أهل البيت(ع)، بادروا إلى إقامة جسور للتواصل الفكري والروحي مع هذه المدرسة العظيمة، لأنهم رأوا فيها المثال الأعلى في القيم الأخلاقية والمُثل الروحية، التي تفرض نفسها على الآخرين عن طريق الكلمة والحديث الموجه من القلب إلى القلب، لا عن طريق السيف والنار وحوار البنادق والدماء.
إن هذه المدرسة الأخلاقية التي أسسها الرسول الأعظم (ص) وأرسى قواعدها أهل البيت (ع) هي الدواء لآلام الإنسانية الممزّقة تحت ثقل الحضارة المادية، تلك الحضارة المزيّفة التي عملت حتى على تزييف القيم الإنسانية النبيلة. وقد أجاد الفيلسوف أحمد حيدر في وصفه لزيف الحضارة الغربية بقوله في كتابه (نحو حضارة جديدة): (تلكم هي عملية التزوير الضخمة؛ أن ينخلع الإنسان، وأن يطمئن إلى انخلاعه ويسعد بهذا الانخلاع، لأنه نسي عالم القيمة، فقضيته قد نقلت من مستوى القيمة إلى مستوى العيش، وماهيته قد غُرست في مستوى العيش هذا وصُنعت لها أبعاد زائفة، ولذلك يجد المنخلع نفسه مبرّراً ومعقولاً، وينتفي الشعور بالانخلاع، وتستأصل جذوة الثورة من نفوس البشر) (12).
ومن الطبيعي تماماً أن نؤيد الفكرة التي تقول إن الإنسان الذي يستسلم لإغراءات الحياة هو الشخص الذي تستهلكه نزواته، فلا يملك القدرة وقتها على تغيير مصيره الشخصي أو تبديل المصير الإنساني في العالم نحو الأفضل، فسيتحول الإنسان إلى إنسان لا قضية له، وسيكون بلا شك (حادثة منفعلة ببقية أحداث العالم) (13) بدلاً من أن يكون ذاتاً فاعلة، ولذلك فعليه أن يكون وحدة متجهة نحو الماهية ترتكز على الموضوع كي تتجاوزه وتنطلق منه نحو القضية.
وعندما نكون قادرين حقاً على تغيير نفوسنا بما نملك من قيم أخلاقية عالية، فسنكون عندها قادرين على تغيير العالم، كي يصبح الملجأ الآمن للإنسان المُستخلف على الأرض، فالتغيير يقتضي منا أن نغير أنفسنا أولاً ثم بعد ذلك نسعى لتغيير كل ما حولنا، ولكن علينا أن ندرك دائماً وأبداً أن التغيير له هدف، وهذا الهدف هو القضية والهوية.
ومن باب التذكير نؤكد على أن تبلور القيم الأخلاقية في الإسلام قد أخذ شكله النهائي مع اكتمال نزول القرآن الكريم على المصطفى الأمين (ص)، أي منذ أربعة عشر قرناً ونيّف، فما أن اكتمل نزوله حتى اكتملت من خلاله كل حقوق الإنسان على كافة الأصعدة والمستويات. بينما الحضارة الغربية لم تعرف شيئاً عن حقوق الإنسان حتى عام انتصار الثورة الفرنسية (1789-1791) حيث وضع المفكّر (أمانويل جوزيف سبيس) وثيقة حقوق الإنسان وقد استمدّ سبيس العديد من أفكار هذه الوثيقة من أفكار ومؤلفات الفيلسوف الفرنسي (جان جاك روسو)، أما في أمريكا، فقد قام (توماس جيفرسون) (1773-1821) بإعلان وثيقة حقوق الإنسان، والتي أصبحت فيما بعد نواة لقرارات عصبة الأمم المتحدة المتعلقة بالإنسان وحقوقه في هذا العالم، وبعد أن تبنت عصبة الأمم المتحدة هذه الوثيقة سنة 1920، جاءت بعدها الأمم المتحدة لتتبنّى هذه الوثيقة بعد إجراء بعض التعديلات عليها عام 1945 ثم لتعلن بعد ذلك وثيقة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
وهنا يمكننا أن نلاحظ بوضوح أن القيم الأخلاقية التي أوجدها الإسلام قد وُلدت قبل وثائق حقوق الإنسان في الغرب بقرون عديدة، ويكفينا القول بأن الإسلام قد حفظ حق الإنسان وهو ما يزال جنيناً في رحم أمّه، إذ لا يجوز الإجهاض به أبداً، بل يعتبر الإسلام الإجهاض المتعمد عملية قتل يحاسب عليها الشرع المقدس، بينما هناك الكثير من الدول الغربية التي تتبنّى القوانين الوضعية، تجيز القيام بالإجهاض، أي تجيز قتل النفس المحرمة، دون أن يترتب على هذه الجريمة أي عقاب.
ولعلّ أعظم قيمة أخلاقية ينادي بها الإسلام ويؤكدها في أخلاقياته هي الحرية الشخصية وحرية المعتقد، فالحرية في الإسلام تعني انطلاق الحياة وانفتاحها على التطور والإبداع. وحتى نؤكد هذه الحقيقة، دعونا نتوقف عند بعض الآيات القرآنية الحكيمة لنتبيّن صدق مقالنا:
(لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغيّ). (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر). (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين). (إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً). (وهديناه النجدين..).
إلى غير ما هنالك من آيات قرآنية تحضّ على استخدام العقل في سبيل اعتناق ما يمكن من الهويّات الفكرية والمعتقدات الدينية.
وما يميز الخطاب القرآني في شعاراته الأخلاقية عن المفاهيم الأخلاقية في ظل المدنية الغربية، هو أن الخطاب القرآني يتوجه إلى الإنسان عموماً، فهو يخاطب الإنسان الأبيض والأسود والأسمر والأصفر بنفس الأسلوب الأخلاقي، بينما نلاحظ أن وثيقة حقوق الإنسان الفرنسية تخاطب بالدرجة الأولى الإنسان الفرنسي، وكذلك الحال بالنسبة لوثيقة حقوق الإنسان الأمريكية التي تخاطب المواطن الأمريكي أولاً، وربما - في بعض جوانبها - تنادي بالحرية والعدالة والمساواة للمواطن الأمريكي الأبيض أولاً ثم للمواطن الأمريكي الأسود ثانياً ثم لبقية المواطنين الآخرين.
ومن هنا نستطيع أن نقول بكل جرأة وصراحة إن القيم الأخلاقية التي يسعى إسلامنا لتحقيقها، هي القيم التي يحتاجها الغرب لِرَأب الصدع في بنيانه الفكري وتكوينه النفسي، ولكن عندما نقول القيم الأخلاقية الإسلامية، فإننا نقصد تلك المبادئ التي حملت مدرسة أهل البيت (ع) لواء الدفاع عنها بكل ما ملكت من قوة وإيمان وصدق، ولاءً للمبادئ السماوية الخالدة، وسيبقى إسلام أهل البيت (ع) حياً بقيمه الأخلاقية في قلوب أولئك المؤمنين بإنسانية الإنسان، وبغاية وجوده على سطح هذه البسيطة، التي تزداد آلامها وتزداد غربة ساكنيها النفسية، على الرغم من تقلص المسافات الجغرافية التي تفصل بين أبنائها.
نعم، إن النظريات الوضعية وما تحمله من شطحات أخلاقية يمكن أن تقدم الفائدة لمجتمع ما، ولكن هذه الفائدة لها عمر قصير، إذ أنها لا تعيش طويلاً أمام التغيرات العالمية المتتالية والتي تمثل السنة الطبيعية للمجتمعات البشرية، وخير مثال على ذلك ما حل بالماركسية التي توفيت وهي في المهد، بعد أن عجزت عن تحقيق المبدأ الاشتراكي بمعناه المطلوب، فكيف الحال بالنسبة للمبدأ الشيوعي الذي لا يمثل في واقعه النظري إلا حلقة من حلقات النظريات الاجتماعية الطوباوية؟!
أما بالنسبة لمدرسة أهل البيت (ع)، فقيمها الأخلاقية، كما ذكرنا سابقاً، تدعو إلى العقلانية والتوازن في التعامل مع الحياة والإنسان، ولذلك فإن مبادئها الإلهية ستبقى خالدة أبداً، لأن هذه القيم والمبادئ لم تأت لمجتمع ما أو فئة ما أو عصر ما، وإنما أتت لتكون شريعة الوجود لمن أراد أن تكتمل إنسانيته، وتتم هويته الأخلاقية، منطلقاً من موقع الاعتدال والتوازن بين الروح والجسد، مع مراعاة وضع النفس تحت رقابة العقل وتحت سيادته.
اضف تعليق