دخل الى محل بيع الورود ليختار أجمل باقة ورد كي يرسلها عبر البريد الى والدته، رائحة الزهور كانت تبث الحياة في أنفاسه المرهقة التي كانت تندب الفراق والاشتياق.. اختار باقة من أجمل الورود وغادر ذلك المحل، بعد خروجه شاهد طفلة صغيرة ذات سبع أو ثمانية أعوام جالسة على الرصيف تبكي بألم، بعد ان اقترب منها سألها عن سبب بكاءها ردت قائلة: أتمنى أن أشتري وردة روز لوالدتي لأنها تعشقها ولكني لا املك المبلغ الكافي كي ابتاع وردة واحدة حتى.
أخذها الى داخل المحل واشترى لها الوردة، ظهرت علامات الفرح على ملامحها الجميلة التي بات البكاء يقضي على جمالها شيئا فشيئا، فركضت بسرعة كأنها في موعد غرامي، أصابه الفضول مما أجبره على الركض وراءها ليرى ردة فعل والدة البنت من رؤية الوردة التي تحبها ولكن بعد لحظات وجدها تجلس عند قبر لازال ترابه يفوح برائحة الحنان كأنها دفنت للتو.
جعلت الوردة على قبرها وبدأت تبكي بغزارة كأنها سحابة تنوي أن تسقي بذور الأمل كي تكتفي من الماء الى الأبد.. شرب ماء فمه كأن هذا الموقف صفعة طبيب بعد الاغماء يريد أن يعيد الحياة الى خلاياه الميتة من جديد.. ركب سيارته وبدأ يقودها بسرعة ليقدم الورود بنفسه الى والدته.
قال أحدهم: أن تفقد أحد والديك.. معناه أن تعتنق مبدأ أن البسمة نصفها ماء.. وأن اللون الأزرق قد غادر السماء.. وأن تحفر قبراً أخر لك.. بين حرف الألف وحرف الميم.. أو بين حرف الألف والباء. حقيقة يجب إدراكها قبل فوات الأوان، في بعض الأحيان ربما ننسى أعز الأشخاص في حياتنا وربما ننسى تلك الجلسات العائلية وربما ننسى كم تحملوا العناء من أجلنا، وقد ننسى حبات العرق التي تفصدت من جبينهما لأجلنا كي يقدموا لنا الأفضل .
لذلك كما ورد في النصوص من أعظم الحقوق على عاتق الانسان هو الحق العظيم بعد حقّ عبادة الله تعالى وإفراده بالتوحيد، وهو الحقّ الذي ثنّى به سبحانه وما ذكر نبيًّاً من الأنبياء وعظيما من العظماء إلّا وذكر معه هذا الحقّ الذي من أقامه رفع الله درجاته وكفر عن سيئاته وهو الإحسان للوالدين.
بِرُّ الوالدين أقصى درجات الإحسان إليهما، فيدخل فيه جميع ما يحب من الرعاية والعناية وقد أكد الله تعالى الأمر بإكرام الوالدين حتى قرن تعالى الأمر بالإحسان إليهما بعبادته التي هي توحيده والبراءة عن الشرك اهتماما به وتعظيما له. ومن روائع الدين الإسلامي تمجيده للبر حتى صار يعرف به، فحقا إن الاسلام دين البر الذي بلغ من شغفه به أن هون على أبنائه كل صعب في سبيل ارتقاء قمته العالية، حتى صارت أجسادهم في رحابه كأنها في علو من الأرض وقلوبهم معلقة بالسماء وأعظم البر (بر الوالدين) الذي لو استغرق المؤمن عمره كله في تحصيله لكان أفضل من الجهاد.
ما هي حقوق الوالدين؟
كل عقل سليم يدرك جيداً أن الإنسان يجب أن يشكر من يساعده ويقدم له يد المساعدة ، فالوالدين هما أحق الناس بالشكر والتقدير، لما قدما من عطاء وتفاني وحب لأولادهما دون انتظار مقابل، ولا يزال أعظم سعادتهما في حياتهما أن يشاهدا أبناءهما في أفضل حال وأعظم مكانة. وهذه التضحيات العظيمة التي يقدمها الآباء لابد أن يقابلها حقوق من الأبناء ومن هذه الحقوق التي وردت في القران الكريم وأحاديث اهل البيت
1- الطاعة لهما و تلبية أوامرهما والإنفاق عليهما عند الحاجة وعن الامام الصادق عليه السلام : بينما موسى بن عمران عليه السلام يناجي ربه عزوجل إذ رأى رجلا تحت عرش الله عز وجل فقال: يا رب من هذا الذي قد ظلله عرشك؟ فقال عز وجل: هذا كان بارا بوالديه
2- التواضع لهما ومعاملتهما برفق ولين وتقديمهما في الكلام والمشي إحتراماً لهما وإجلالاً لقدرهما.
3- خفض الصوت عند الحديث معهما وعدم إزعاجهما ان كانا نائمين.
4- استعمال أعذب الكلمات وأجملها عند الحديث معهما .
5- إحسان التعامل معهما وهما في مرحلة الشيخوخة وعدم إظهار الضيق من طلباتهما ولو كانت كثيرة ومتكررة قال رسول الله عليه وآله وسلم: ..... والنظر الى الوالدين برأفة ورحمة عبادة . *1
6- الدعاء لهما بالرحمة والغفران وعدم مجادلتهما والكذب عليهما.
7- اختصاص الأم بمزيد من البر لحاجتها وضعفها وسهرها وتعبها في الحمل والولادة والرضاعة. والبر يكون بمعنى حسن الصحبة والعشرة وبمعنى الطاعة والصلة.
قيل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله، ما حقّ الوالد؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: "أن تُطيعه ما عاش" فقيل: ما حقُّ الوالدة؟ فقال صلى الله عليه واله "هيهات هيهات، لو أنّه عدد رمل عالج، وقطر المطر أيّام الدنيا، قام بين يديها، ما عدل ذلك يوم حملته في بطنها.
8- أدب المعاملة واحترامهما عن أبي ولاد الحناط قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عزّ وجلّ: "﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً﴾ ما هذا الإحسان؟ فقال: الإحسان أن تحسن صحبتهما وأن لا تكلّفهما أن يسألاك شيئًا ممّا يحتاجان إليه وإن كانا مستغنيين أليس يقول الله عزّ وجلّ: ﴿لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ قال: ثمّ قال أبو عبد الله عليه السلام وأمّا قول الله عزّ وجلّ: ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا﴾ قال عليه السلام: إن أضجراك فلا تقل لهما: أف، ولا تنهرهما إن ضرباك، قال: ﴿وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا﴾ قال: إن ضرباك فقل لهما: غفر الله لكما، فذلك منك قول كريم، قال ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾ قال: لا تملأ عينيك من النظر إليهما إلّا برحمة ورقّة ولا ترفع صوتك فوق أصواتهما ولا يدك فوق أيديهما ولا تقدّم قدّامهما"*2
9- الإحسان إليهما وتقديم أمرهما وطلبهما، ومجاهدة النفس برضاهما حتى وإن كانا غير مسلمين لقوله تعالى: في سورة لقمان، (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ).
10- النفقة عليهما: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "هل تعلمون أيّ نفقة في سبيل الله أفضل؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال صلى الله عليه وآله وسلم: "نفقة الولد على الوالدين"*3.
هناك من يبكي ليل نهار ليرجع يقبل يد والديه من جديد كي يكسب الاجر ويتزود من حبهما ولكن لم يكن يعلم موعد رحيلهما فجلس يندب تلك الذكريات القاتلة لذلك رفقا بهما قبل أن يتركنا احدهم ..انهما من كنوز الدنيا التي لا أحد يأخذ مكانهما ولا يساوي أي حب حبهما الخالص النقي ...سلام الله على النبي عيسى حين قال: وَبَراً بِوَالِدَتِي وَلَم يَجعَلني جَباراً شَقِياً *4.. وسلامه على كل انسان يعرف قدر الغالين على قلبه ويحترمهم حسن الاحترام .
اضف تعليق