التفكير الصفري ببساطة هو نظام اعتقاد قائم على فكرة (إما كل شيء أو لا شيء)، أي أن مكسبي أنا يساوي خسارتك أنت، والعكس بالعكس. وبمعنى أكثر شمولية فإن المتبنين لهذه القناعة يعتقدون أن نجاحهم سيكون ممكنا فقط حين يفشل الآخرون...

التفكير الصفري ببساطة هو نظام اعتقاد قائم على فكرة (إما كل شيء أو لا شيء)، أي أن مكسبي أنا يساوي خسارتك أنت، والعكس بالعكس. وبمعنى أكثر شمولية فإن المتبنين لهذه القناعة يعتقدون أن نجاحهم سيكون ممكنا فقط حين يفشل الآخرون!

هذا التفكير الصفري يمكن أن نجد له مرادفا (تامّا) هو التفكير السطحي الفاقد للتحليل النقدي، ويظهر هذا اللون من التفكير في عالم السياسة جليا من خلال اتخاذ قرارات أو صياغة سياسات تفضّل المكاسب الفورية على حساب النتائج بعيدة المدى. 

ولنا أن نستشهد على التفكير الصفري بالسجل السياسي العربي المعاصر، مثل تجربة إسقاط نظام معمر القذافي؛ إذ تبنّى كثير من الأطراف داخل ليبيا وخارجها منطق إسقاط النظام بأي ثمن كان، ومن دون تخطيط لما بعده فكانت النتيجة سقوط القذافي، ثم فراغ سياسي، ثم حرب أهلية ما تزال مستمرة منذ عام 2011. 

والنقطة الجوهرية في المثل المتقدم تتجسّد في غياب فكرة الانتقال المرحلي المتوازن الذي يرضى بمنح بعض التنازلات مقابل حصة كبيرة من المكاسب.

وهذا المصير الليبي يصدق على نماذج كثيرة من واقع العرب المعاصر؛ كالصراع بين حركتي فتح وحماس المستمر منذ حوالي عشرين عاما، فنحن هنا أمام تفكير صفري واضح، لأن كل طرف يرى في نفسه الممثل الشرعي الوحيد للفلسطينيين، ويقصي الآخر من معادلات السياسة المرتكزة في الأساس على معادلات اقتصادية واجتماعية بصرف النظر عن مقولات الفلسفة السياسية، وقد كانت وما تزال النتيجة العامة من التصارع الفلسطيني الفلسطيني تصب في صالح الاحتلال الإسرائيلي، وهذا الذي قلناه في ليبيا وفلسطين ينطبق كذلك على الحالة اليمنية، فبعد الإطاحة بحكم علي عبدالله صالح سادت الحسابات الثأرية. الحوثيون -مثلا- اعتمدوا منطق السيطرة الكاملة على الدولة بدلاً من الدخول في شراكة سياسية، وهو المنطق نفسه الذي هيمن على تفكير قسم كبير من رفقائهم في المعارضة سابقا، وفرقائهم تاليا، وهو المآل الذي سينتهي عنده حتما أي طرف يعد نفسه الممثل الأوحد، ويرفض التنازل أو تقاسم السلطة مع الشركاء.

إن التفكير الصفري هو السمة السائدة في العقل السياسي لاسيما الحاكم منه، فالمعارضة يجري النظر إليها عربيا غالبا بوصفها "خيانة عظمى". 

 في المملكة العربية السعودية مثلا جرى مؤخرا تنفيذ حكم الإعدام بـ (صحفي) أو ناشط مدني شاب هو (تركي الجاسر)، وذلك تحت ذريعة التآمر الخارجي، أو الخيانة العظمى، ولو جرّبت أن تبحث في نشاط هذا الشخص الذي كان السبب الرئيسي في بلوغه لهذا المصير المحزن لم تجد أكثر من نقد سياسي لفظي لا يُنظر إليه غالبا إلا بوصفه نقدا مقبولا حتى في أقل دول العالم ديمقراطية وحرية! ولكنه سيكون داخلا قطعا ويقينا في بند الخيانة العظمى بالنسبة إلى أصحاب منطق:(إما أن تؤيدني تمامًا، أو تكون عدوًا يجب قتله أو إقصاؤه).

عراقيا يمكن التدليل على هذا النوع من التفكير بقرار حلّ الجيش الوطني على سبيل المثال لا الحصر، فبدلا من السعي لإصلاح هذه المنظومة العسكرية، وتنقيتها من عوامل الفساد، والانحلال جرى اتخاذ قرار محو الجيش محوا تاما، والاستعاضة عنه بـ (حشود عشوائية) كبّدت خزينة الدولة أموالا بلغت أرقاما فلكية، ومع ذلك لم تتمكن من الصمود (ساعات قليلة) أمام مجاميع محدودة من العصابات الإجرامية والإرهابية. 

وعلى الرغم من أن المحاصصة في العراق وُصفت بأنها "توافق سياسي"؛ لكنها نُفّذت بمنطق صفري داخل كل طائفة أو مكوّن مجتمعي، فكل طرف يحاول احتكار التمثيل الكامل لمكوّنه، وإقصاء زملائه؛ عملا بالمنطق القائل: ((إما أن أكون الممثل الأوحد، أو أُفشل المشروع كله))، فكانت النتيجة وما تزال استيلاد حكومات ضعيفة، مع فساد مستشر، وصراعات داخلية لا تكاد تخمد حتى تشتعل ثانية. وسيد الموقف في معظم تلك الصراعات مبعثه الأول كما اعتقد هو التفكير الصفري أيضا، فبعد تحرير المناطق من عصابات داعش، طُرح خطاب من بعض الجهات السياسية مفاده أن سكان هذه المناطق بلا استثناء يمثلون بيئة حاضنة للإرهاب، وفور الإعلان السياسي الرسمي لهذا الخطاب وجد طريقه إلى قنوات إعلامية أسهمت في ترسيخ هذا الخطاب ليغدو تصنيفا جماعيا مرتكزا على تعميم جائر لا يراعي التمييز بين المتطرفين، وغير المتطرفين، أو بين المتعاطفين والناقمين، ومن ثم يتحمل صاحب هذا الخطاب من حيث يشعر أو لا يشعر مسؤلية تحويل حتى الكاره للإرهاب محتضنا بالفعل للإرهاب الذي كان يكرهه! 

والأمر نفسه سيتكرر لاحقا حين تعاملت السلطة السياسية مع عموم المحتجّين التشرينيين بوصفهم (عملاء، أو مندسين، أو "طابور خامس") بدلا من فهم دوافعهم والتفاعل مع مطالبهم المشروعة. ومثل هذا التعامل الفضّ لا يمكن فهمه بمعظم حالاته إلا بناء على وجود تصور فكري صفري يرى في المعارض السياسي عدوا يجب قمعه، لا مواطنا يجب الإنصات له! وعلى مذبح هذا التفكير زادت الشقة بين المواطن والوطن، وأزهقت أرواح مئات الشباب الأبرياء، وبلغت مشاعر الإحباط واليأس إلى أوجها...

ولأن استقصاء جميع الحالات التي تندرج ضمن التفكير الصفري العراقي يستدعي أكثر من سطور هذا المقال لنكتفي بذكر مصداق له من إعلام ما بعد عام 2003، فقد ساد في أوقات كثيرة منطق مفاده إما أن تؤيد الرواية الرسمية أو تُتّهم بالعمالة أو الطائفية، وقلّما فُسح المجال للرؤى المتعددة أو للخطاب الوطني المستقل، ولكي لا نقع في فخ التصورات الصفرية، لا بد من الإقرار بوجود أصوات حرّة سواء من الحكومة أو المعارضة تتقبل وجود عقلية موضوعية، وتنأى بنفسها عن التفكير الصفري، وهي جديرة بالإشادة وبالغ الثناء، وتوحي بتصور غد فكري أفضل يستند على منطق مغاير للتفكير السابق، ويؤمن بأن النجاح الحقيقي ليس هو ربح كل شيء أو خسارة كل شيء بل هو أن تنجح في تحقيق ما يمكن تحقيقه، في وقته، ولا تنظر لما تفقده في مقابل ما تربحه بوصفه خسارة لا يمكن تعويضها أبدا ... 

اضف تعليق