هذا الكبح الذاتي يمكن أن يتواصل إلى درجة اختفاء الحيوية نفسها من المشهد الثقافي. الإنسان وتقدُّمه الاجتماعي يصلان إلى نقطة جديدة وحاسمة من التداخل؛ حيث يُصبح قهرُ الحضارة لحيويتها غيرَ محتمل ولدرجة أنه في النهاية يطلق البربري الكامن ويدفع به إلى السطح، «عودة إلى المكبوت». وهذا يمكن أن...
في تسعينيات القرن التاسع عشر ١٩٠٠م كانت قطاعات مؤثِّرة من المجتمع المثقَّف قد فقدت الثقةَ في قدرة الحضارة الغربية على تجديد نفسها. النسيج الاجتماعي الحديث لم يَعُد قادرًا على توفيرِ أيِّ درجة من الحماية للنوع البشري. وعلى العكس من ذلك، كان من المفترض بشكل عام أن تكون التطوُّرات الحضارية سببًا في انطلاق رِدَّة عكسية نحو الأسوأ، وفي انحدار إلى الفوضى أكثر رعبًا مما كان عليه أي شيء في الأزمنة البدائية، حتى بالنسبة لأشد المؤمنين بنظرية «دارون»، كان ماضي الإنسان التطوُّري يشكِّل عبئًا وراثيًّا ثقيلًا، فهو يُثقل كاهل البشرية بكثير من السمات الوحشية واللاعقلانية، والتي كان على العالم أن يتخلَّص منها عن طريق اليوجینيا، أو بأيِّ وسيلة أخرى، ويجتثها لكي يظلَّ الجنس البشري على قيد الحياة.
وكما عبَّر عن ذلك «جوستاف لوبون»: «المستقبل موجود بداخلنا بالفعل، ونحن الذين ننسجه، ولأنه ليس ثابتًا مثل الماضي، فإننا يمكن أن نشكِّلَه بجهدنا.»١٠٣ ولم يخطر ببالهم منظور جديد، وهو أنَّ ماضيَ الإنسان ليس عبئًا، وإنما دعم ضروري ورفد للحياة المتحضِّرة. هذا الفشل صحيح على نحوٍ خاصٍّ في حالة «سيجموند فرويد»، كان يهوديًّا مثل «نوردو» في إمبراطورية متعدِّدة اللغات (النمسا–هنغاريا)، وكانت الليبرالية بالنسبة لها (للإمبراطورية) ضمانًا ضدَّ أشكال التمييز والاضطهاد التقليدية، وكذلك لتوفير الحرية من أشد أنواع اليهودية الأرثوذوكسية تعصُّبًا.
الانحياز الليبرالي الوضعي إلى العلم العقلاني، وضد الدين وغيره من أشكال «الخرافة»، ظلَّ جزءًا من نظرة «فرويد» حتى وفاته. كان ضمن قائمة الخرافات تلك: معاداة السامية، منذ أيام دراسة الطب، وكان «فرويد» يناضل ضدَّ تركيز نظرية الانحلال المتزايد على «المشكلة اليهودية» في النمسا وأماكن أخرى، وربما تكون العلاقة بين معاداة السامية والخوف من الانحلال قد شجَّعت «فرويد» لأن يُدير ظهره لأسلوب التناول السابق، لكي يبدأ اتجاهه الخاص والأصيل.
كان «فروید» قد تلقَّى تدريبه الطبي في ميدان شديد الأهمية بالنسبة لنظرية الانحلال وهو «النيورولوجيا» neurology (الأمراض العصبية). في سنة ١٨٨٥م، ذهب إلى «باريس» لدراسة «إصابات الضمور والانحلال الثانوية في أدمغة الأطفال». شارك في الجدل الدائر ودرس على نفس الأساتذة الذين درس عليهم «نوردو» قبل عقد من الزمن،١٠٤⋆ وفي النهاية قرَّر «فرويد» أن يترك مجال فهم الاضطرابات الانحلالية على أساس أسباب فسيولوجية عضوية. استنتج كما سيفعل معظم ممارسي المهنة الطبية فيما بعد، أنَّ تقارير الشخص المصاب بالانحلال والتي تبيِّن «أمراضًا» مثل العصاب والهستيريا، تعتبر «أحكام قيِّمة وإدانة أكثر مما هي تفسير للحالة»، ومن هنا فهي تفتقر للدقة العلمية والموضوعية،١٠٥ إلا أنه كان من المحتَّم أن تجد نظريةَ الانحلال، بما فيها من تعارُض كامن بين قوى الحضارة والإنسانية الصحية، طريقها إلى نظريات «فرويد»، كان أول عمل يمهِّد الطريق له هو كتاب «تفسير الأحلام»، الذي صدر في عام ١٨٩٩م، أي عام صدور كتاب «لغز الكون» ﻟ «هایكل»، وبعد عامين من كتاب «الانتحار» ﻟ «دوركايم» وكتاب «دراكيولا» ﻟ «ستوكر»، تصوُّر «فرويد» للشخصية الإنسانية كان ينطوي على توتُّر بين «الأنا» و«الأنا العليا» في الإنسان المتحضِّر، ونظيرهما البدائي «الهو».
«الهو» مثل «مستر هايد» عند «ستيفنسون» تظلُّ مخبأةً أو مكبوتةً في الكائن البشري الصحي العادي. «الأنا» تمثِّل ما يمكن أن يُطلق عليه الإنسان: العقل والروية كما كتب «فرويد» في أحد أعماله التالية، وهي في حالة تناقض مع «الهو» التي تضمُّ العواطف.١٠٦ «الهو» تكوِّن عالمها المخبَّأ في اللاشعور، عالم «لومبروزي» تحتي من الخيالات والأوهام والأسطورة والدوافع البدائية (التي سوف يُطلِق عليها تلميذه «كارل يونج»: عالم النماذج البدئية).
والمريض العصبي neurotic عند «فرويد»، هو الذي مكَّن ما في عالمه المخبَّأ من الدخول إلى بيئته الفيزيقية العادية، أي أنه «نكص»، كما كانت الجريمة عند «لومبروزو» شكلًا من أشكال الارتداد، إلا أنَّ نظرية «فرويد» عن النكوص النفسي، تحلُّ محلَّ الانحلال الفسيولوجي في تفسير الانتقال من العقل والنظام إلى اللاعقلانية والفوضى. والنكوص يحدث للفرد كما يحدث للمجتمع ككل. كل طفل في تطوُّره يعيش مرةً أخرى التطوُّر الفيزيقي للجنسِ البشريِّ كلِّه، من اللاعقلاني والبسيط، إلى العقلاني والمعقَّد.١٠٧ وبالعكس، فإن المجتمعات الإنسانية تكشف عن المبادئ السيكولوجية نفسها، التي تنطبق على الأفراد العاديِّين — أو مرضى الأعصاب — كما كان «فرويد» يقول في «الطوطم والمحرم» ١٩١٢م، و«موسى والتوحيد» ١٩٣٧: ١٩٣٩م، وكما يحمل الفرد ندوبًا فيزيقية منذ طفولته، وعلاقات بالآباء، وصدمات أخرى يكون قد مرَّ بها في حياته، كذلك تحمل حياة المجتمع النفسية الداخلية ندوبًا مماثلة، وأعباءً تبدأ منذ لحظة تأسيسه الأولى، ومثل «نيتشة»، وجد «فرويد» أنَّ خلل الحضارة القاتل موجودٌ في أساسها.
عند «فرويد» هذا الخلل هو «قتل الأب» patricide هذا الفعل الوحشي الأول، الشعور الجمعي بالذنب لموت الأب يظلُّ موجودًا بشكل تدريجي في المؤسسات المولدة للشعور بالذنب مثل الدين، وفي الأعراف الاجتماعية مثل المحرمات. ومن هنا، فإن المجتمع الحديث وهو وريث المجتمع البدائي، ليس محصَّنًا ضدَّ ما هو وحشي وما هو لا عقلاني. دوافعه الأصلية وجرائمه تظلُّ حيَّةً في ذاكرته الجمعية، وفي المؤسسات التي تُعطي الحياة الاجتماعية بنيتَها ومعناها.
ويعبِّر «فرويد» عند ذلك بقوله: «العقل البدائي غيرُ قابل للفناء، هكذا وبالمعنى الكامل للكلمة.»١٠٨ البدائي والوحشي يظلان جزءًا من الذات الفردية على شكل «الهو» id، يظلَّان مع الإنسان ككائن اجتماعي في غريزة القبيلة البدائية، التي تظهر كاملةً على السطح في المؤسسات الديمقراطية الحديثة، كما أوضح «لوبون» Le Bon و«تروتر» Trotter. وباختصار، فإن التكوين الثقافي للإنسان بالنسبة ﻟ «فرويد»، يدحض الزعم بأن الحضارة حالةٌ مختلفة تمامًا عن البربرية، حيث إنَّ البنَى النفسية لكليهما واحدة.
الدراسة المقارنة الضخمة للسير «جيمس فریزر» James Frazier عن الأديان البدائية «الغصن الذهبي»، (التي كان لها تأثيرٌ كبير على «فرويد»)، كانت بالفعل قد أوحَت بأن دور الأسطورة و«الطقوس اللاعقلانية» لم يختفِ من المجتمعات المتحضِّرة.
وبانحسار نظرية العرق من الرؤية الليبرالية في القرن العشرين، بدأ علماء الأنثروبولوجيا يعودون إلى نظريات «فرويد» لإعادة تقييم الفوارق بين الثقافات المتحضِّرة والبدائية. جيل جديد من علماء الأنثروبولوجيا «فرانز بواس» Franz Boas، «مارجريت ميد» Margaret Meed، «روث بينيدكت» Ruth Benedict كرَّسوا أنفسهم للارتفاع بالوضعية الثقافية للمجتمعات البدائية، في مواجهة نُظَرائهم «المتقدمين»، (الذين أصبحوا يتوارَون الآن بين علامات التنصيص). وقد كشف عملهم الميداني عن أوجه شبه كثيرة وعلاقة بين الحضارتَين، كما أوحى بأن الشعوب البدائية كانت تحافظ دائمًا على حيويتها بأسلوب شرقي رومانسي، وعلى صحتها النفسية التي فقدها الغرب.
(أفضل مثال على ذلك كتاب «مارجريت ميد» «بلوغ سن الرشد في ساموا».)١٠٩⋆،١١٠ كان آخر تقرير ﻟ «فرويد» عن المجتمع الليبرالي المستنير الذي وُلِد وتربَّى فيه بعنوان «الحضارة وما تُثيره من قلق»، نشره في عام ١٩٣٠م، وأغلق حقبة من التفكير الأوروبي عن التاريخ الإنساني كعملية تحضُّر، ونتائج التقدم على الإنسان الحديث، وربما لا يكون مفاجئًا أن تكون أوَّل صورة لافتة في الكتاب هي صورة لأطلال روما القديمة. كانت الساحة الرومانية العامة تمثِّل عند «فرويد» الطبيعةَ النامية للتطوُّر التاريخي؛ حيث تقوم كلُّ مرحلة معينة (الجمهورية الباكرة، الحقبة الأوجستية، الإمبراطورية المتأخرة، النهضة)، بخلافة ومحو المرحلة السابقة. «ولا يكاد الخبير الأركيولوجي بروما القديمة يتعرَّف على الأماكن التي كانت تقف فيها المعابد والمباني العامة ذات يوم؛ فالأطلال الموجودة في تلك المواقع ليست حتى أطلال المباني نفسها، وإنما هي أطلال وبقايا مبانٍ إمبراطورية تالية، و«ما أمكن استنقاذه من النيران والدمار»، والتي هي نفسها مختفية ومطموسة بواسطة «خليط مدنية عاصمة نمت في القرون القليلة الأخيرة منذ عصر النهضة»، وكان «فرويد» يقول: «دعونا نفترض أنَّ «روما» لم تكن مستوطنة بشرية، بل كيانًا نفسيًّا ذا ماضٍ طويل ووافر.» حينئذ سوف نكتشف أن «لا شيء مما كان له وجود قد انتهى». ستظل قصور الأباطرة قائمةً، وسيظل كلُّ مبنًى مزيَّنًا «بالتماثيل التي كانت تحمله إلى أن حاصره القوطيون»، وليس هذا فقط، بل إنَّ المعابد الرومانية القديمة سوف تظلُّ قائمةً وسط الكاتدرائيات المسيحية كذلك، «ولن يكون على المراقب سوى أن يغيِّر وجهةَ نظرته أو موقعه» لكي يرى المدينة القديمة مع نظيرها الحديث في الوقت نفسه.»١١١
الحضارة كعملية مادية، تحول وتغير ما كان قبلها، أما كعملية نفسية «عملية تحضير» فإنها لا تفعل ذلك ولا تستطيعه، والإنسان المتحضِّر في رأْي «فرويد» يحتفظ بالغرائز الأساسية لوجوده البدائي الباكر، ومن الناحية الإيجابية، فإن تطوُّرَه الاجتماعي يحقِّق النضج والاستقلال بمفهوم «فرويد»، فهو يتغلَّب على الشعور الطفولي بالضعف الموجود عند الإنسان البدائي، والحاجة إلى شخصيات أبوية تحميه، مثل الآلهة الباباوات والملوك.١١٢ الحضارة تُعطي الأفراد شعورًا باستقلاليتهم ومكانتهم في مجتمع أكبر، أكثر نظامًا وأفضل أخلاقًا، ولكن هذه العملية أيضًا تتضمَّن صراعًا مع غرائزهم البدائية المانحة للحياة:
«من المستحيل إغفالُ مدى اعتماد الحضارة على نكران الغريزة، وإلى أيِّ مدًى تفترض — تحديدًا — عدمَ كفاية الغرائز القوية. هذا الإحباط الثقافي» وكما نعلم … هو سبب العداء الذي يجب أن تقاومَه كلُّ الحضارات.
والحقيقة أنَّ هذا الكبح الذاتي يمكن أن يتواصل إلى درجة اختفاء الحيوية نفسها من المشهد الثقافي. الإنسان وتقدُّمه الاجتماعي يصلان إلى نقطة جديدة وحاسمة من التداخل؛ حيث يُصبح قهرُ الحضارة لحيويتها غيرَ محتمل ولدرجة أنه في النهاية يطلق البربري الكامن ويدفع به إلى السطح، «عودة إلى المكبوت». وهذا يمكن أن يحدث للشخص — المصاب بالعصاب أو غيره من الاضطرابات — أو — وهذا أكثر رعبًا — للمجتمع ككل، فيعود إلى حالته الهمجية العدوانية السابقة على التحضُّر؛ حيث يحكم الأقوى دون أيِّ كوابح «سوى مصلحته الخاصة ودوافعه الغريزية».١١٣
عندما نشر «فرويد» كتابَه «الحضارة وما تُثيره من قلق» في عام ١٩٣٠م، كانت القيم الإنسانية والليبرالية تبدو على وشك الانطفاء في كل أوروبا. الكابوس الأكبر للانحلال — صعود الدهماء الإجرامية المنحطَّة، وانتصار العواطف والأوهام البدائية على العقل — بدا أنه قادم.
«السؤال القاتل للنوع البشري يبدو لي ما إذا، وإلى أيِّ مدًى سوف ينجح تطوُّره الثقافي في السيطرة على اضطراب حياته الاجتماعية، الذي تُسببه غريزة العدوان وتدمير الذات؟»
وبعد عام أضاف «فرويد» حاشيةً تقول: «لكن مَن ذا الذي يمكنه أن يتنبَّأ؟ وبأيِّ درجة من النجاح؟ وبأيِّ نتيجة؟» بعد عامين من ذلك، أي في عام ١٩٣٣م، أصبح «أدولف هتلر» مستشارًا لألمانيا.
اضف تعليق