الخيار الأكثر فاعلية أمامها سيكون عبر تصعيد الضربات الصاروخية على العمق الإسرائيلي، وتوسيع رقعة الدمار لتقويض الجبهة الداخلية، وجعل كلفة الحرب السياسية والاقتصادية والأمنية داخل إسرائيل أعلى من أن تُحتمل، أما الخيارات الأخرى، كإغلاق مضيق هرمز أو استهداف المصالح الأميركية، فستعقّد المشهد دون أن تُقصر عمر الحرب، بل قد تمنح واشنطن ذريعة للانخراط المباشر عسكريًا...
رغم استعدادها الطويل ومعاناتها من العقوبات والإنهاك الاقتصادي، لم تكن إيران تتوقع أن تكون ضحية عدوان واسع بهذا الشكل المباغت، عقيدتها العسكرية دفاعية صِرفة، وظلت عبر تاريخها الحديث ضحية لاعتداءات متكررة من قِبل قوى إقليمية ودولية: من العثمانيين والروس والبرتغاليين والأفغان، إلى البريطانيين ونظام صدام حسين، ثم الأميركيين وأخيرًا الإسرائيليين.
لأكثر من قرنين، تعاني إيران من عقدة أمنية متجذرة، جوهرها الشعور بالضعف الدفاعي وخسارة الأرض، وتهديد وحدتها الترابية.
وجاء العدوان الإسرائيلي السافر يوم 13 حزيران الجاري ليذكّر الإيرانيين مجددًا بأن بنيتهم الدفاعية – من منشآت صاروخية، ومعسكرات، ومراكز أبحاث، وقيادات عسكرية، وعلماء، ومنشآت نووية – ظلت على الدوام هدفًا دائمًا لأعدائهم.
لكن الهدف الإسرائيلي هذه المرة يتجاوز تدمير البرنامج النووي أو شلّ القدرة التقنية والعلمية لإيران. المشروع الجديد يستهدف إسقاط النظام السياسي نفسه، عبر توليد بيئة شعبية ناقمة من خلال تدمير البنى التحتية، وتجويع الناس، ودفعهم إلى التمرد بفعل المعاناة المعيشية والخدمية.
السؤال المُلح الآن: كيف ستواجه إيران هذه الحرب؟ وما استراتيجيتها في ظل بيئة دولية تميل، في معظمها، إلى العداء أو الحذر إزاءها؟.
اكتشفت إيران – متأخرة – أنها تفتقر إلى حليف موثوق يمكن الركون إليه في زمن الأزمات الكبرى. فمالت نحو تعميق شراكات اقتصادية وتعاون استراتيجي مع الصين وروسيا، واختارت الاصطفاف مع موسكو في حربها ضد أوكرانيا. وأثار ذلك غضب الولايات المتحدة والدول الأوروبية، خصوصًا بعد تزويدها لروسيا بالطائرات المسيّرة، ما أعطى طهران انطباعًا بأن نفوذها العسكري والدولي يؤهلها للمناورة أكثر لحماية بنيتها الدفاعية ومشاريعها الاستراتيجية.
غير أن ما لم تحسبه بدقة هو أن خصومها كانوا يُعدّون العدة لتقويض هذه الاستراتيجية، لا عبر ضربة خاطفة، بل عبر تقطيع أوصالها تدريجيًا.
لقد بنت إيران استراتيجيتها على مبدأ “الدفاع المتقدم” عبر توسيع نطاق الصراع خارج حدودها، وتشكيل محور عقائدي وأيديولوجي يمنع العدو من الوصول إلى “القلب الإيراني”.
ولكن 7 أكتوبر – أو “طوفان الأقصى” – شكّل لحظة انعطاف كبرى. فكان بداية العد التنازلي لضرب أطراف هذا المحور، تمهيدًا للانقضاض على المركز.
نجاح إسرائيل في تقويض نفوذ حلفاء إيران – في غزة وسوريا والعراق ولبنان واليمن – شجعها على التحرّك صوب طهران، مكرّرة سيناريو مُحدّثًا وموسّعًا للحرب التي أطلقها نظام صدام حسين في 22 أيلول 1980.
بعد مرور 45 عامًا، تتعرض إيران لأسلوب الحرب ذاته: استهداف مباشر ومنهجي للقادة والعلماء والقواعد الجوية ومنصات الصواريخ، مترافق مع اختراق أمني واستخباري وعمليات تخريب وهجوم من الداخل، في ظل بيئة سياسية إقليمية حذرة، وغربية معادية، وشرقية أقرب إلى الحياد البارد.
رهان طهران على روسيا والصين لم يحقق الغطاء الرادع، ولا يمتلك حلفاؤها القدرات أو الإرادة لتعويض ما خسرته من منظومات الدفاع الجوي، ما جعل أجواءها مفتوحة أمام الطائرات الإسرائيلية. هذا المشهد أعاد للأذهان ضربة الخامس من حزيران 1967 حين دُمّرت القوة الجوية المصرية على الأرض، ما أدى إلى انهيار عسكري سريع للعرب.
غير أن إيران سعت إلى “معادلة الردع” باختراق الجبهة الداخلية الإسرائيلية، وإطلاق وابل من الصواريخ الباليستية، التي أحدثت أضرارًا جسيمة في بنى المستوطنات والبنية التحتية.
الآن، السؤال الجوهري: كيف يمكن لإيران أن تُنهي هذه الحرب المفروضة عليها؟.
الهدف الإسرائيلي لم يعد مجرد ضرب المنشآت النووية، فهذا هدف بعيد المنال رغم اغتيال العلماء وتخريب الموارد. كما أن تحجيم القوة الصاروخية والقدرة الصناعية الإيرانية لن ينجح بالكامل أيضًا.
الهدف الحقيقي هو الاقتصاد الإيراني: قطاع الطاقة، والصناعات البتروكيمياوية، والغازية، والفولاذ وغيرها – وهي مفاصل قوة الدولة الإيرانية ومصادر تماسكها. ولذلك فإن نتنياهو، ومن يشاركه أميركيًا وأوروبيًا، يسعون إلى إسقاط النظام السياسي في طهران واستبداله بنظام جديد.
ما يُربك هذا المخطط هو إدراك الإيرانيين – بمن فيهم المعارضون التقليديون في الداخل والخارج – أن بلادهم أصبحت هدفًا لحرب شاملة تهدد وجودهم، واقتصادهم، ومستقبل أجيالهم. لذا فإن التماسك الداخلي في ظل العدوان قد يتعزز بدل أن يتفكك، وهو ما يفرغ استراتيجية “التمرد الداخلي” من مضمونها.
لكن في المقابل، فإن إطالة أمد الحرب ستؤدي إلى إنهاك إيران واستنزاف مواردها، ما سيدفعها على الأرجح إلى البحث عن سيناريوهات سريعة لتقصير أمد الصراع.
الخيار الأكثر فاعلية أمامها سيكون عبر تصعيد الضربات الصاروخية على العمق الإسرائيلي، وتوسيع رقعة الدمار لتقويض الجبهة الداخلية، وجعل كلفة الحرب السياسية والاقتصادية والأمنية داخل إسرائيل أعلى من أن تُحتمل.
أما الخيارات الأخرى، كإغلاق مضيق هرمز أو استهداف المصالح الأميركية، فستعقّد المشهد دون أن تُقصر عمر الحرب، بل قد تمنح واشنطن ذريعة للانخراط المباشر عسكريًا.
ما سيجبر نتنياهو على التراجع هو حجم الخسائر داخل إسرائيل، وليس مناشدات الحلفاء. المجتمع الصهيوني اقتنع حتى الآن برواية “الخطر الوجودي الإيراني”، ورضي بخسائر محدودة، لكن اتساع دائرة الدمار قد يدفع المؤسسة الأمنية والسياسية للضغط على رئيس الحكومة من أجل التراجع.
الرئيس الأميركي، بوصفه الراعي الحقيقي للعدوان، يمتلك مفتاح وقف الحرب، ولكن الوصول إلى ذلك يعتمد على فهم سيكولوجيته ومصالحه المتقلبة، وكيفية التأثير عليه.
اضف تعليق