هل يمكن لشخص انطوائي الطابع أن يُفيد من التَعلُّم الجماعي مثلما يستفيد الشخص الاجتماعي؟ وهل يمكن لشخص مضطرب الحركة أن يستفيد من العمل الجسدي كما يستفيد شخص يتمتع باللياقة الحركية؟ لم تأتِ المؤلفة على أيٍّ من هذه الأسئلة، أو ما شابهها...
بقلم: أليسون أبوت
هل تستطيع أجسادنا، وأدواتنا، والبيئة المحيطة بنا أن تحمل عن الدماغ بعضًا من العبء الإدراكي الواقع عليه؟
يرى بعض علماء الرياضيات أن استخدام الطباشير والسبورة أمر ضروري لمساعدتهم علي التفكير، ويحتفي كتاب «لا تمحُ المكتوب» Do Not Erase، الصادر في عام 2021، بالأدوات التي يتكئ عليها هؤلاء العلماء.
يرى بعض علماء الرياضيات أن استخدام الطباشير والسبورة أمر ضروري لمساعدتهم علي التفكير، ويحتفي كتاب «لا تمحُ المكتوب» Do Not Erase، الصادر في عام 2021، بالأدوات التي يتكئ عليها هؤلاء العلماء.
واحدة من الصور المثيرة للفضول، التي يتكرر ظهورها في أعمال الخيال العلمي، هي صورة دماغ يسبح في وعاء زجاجي خارج الجسد. في سيناريو كهذا، يحل الوعاء محل الجسد الذي يولِّد ما يحتاجه الدماغ من عناصر غذائية، يَستمِد منها عافيته وقدرته على جمع المعلومات الكافية لفهم البيئة المحيطة به. والحواسُّ المختلفة (البصر، والسمع، واللمس، والتذوق، والشم، واستقبال الحس العميق) هي ما تساعدنا على الحركة في محيطنا بسلاسة، وعلى العثور على الطعام، أو الشركاء المناسبين للإنجاب. وحين يقدم صانعو عوالِم الخيال العلمي هذه الصورة، فإنهم يفترضون ضمنًا أن اضطلاع هذا الوعاء بمهمة تلبية الاحتياجات الأساسية للدماغ سوف يسمح بتكريس طاقة هذا العضو كلها لبلوغ أعلى درجات الذكاء والعبقرية.
أما الواقع، من وجهة نظر الكاتِبة العلمية آني ميرفي بول، فيختلف عن هذه الصورة كل الاختلاف. في كِتابها «العقل الممتد» The Extended Mind، تسُوق بول حُججًا مفادها أن الجسد، والعالَم بشكل عام، يلعبان دورًا في تحديد مدى ذكاء الإنسان. تذهب المؤلِّفة إلى أن بنية الدماغ البشري تعتريها أوجُه قصور شديدة الخطورة، تحُد من ملَكات التذكُّر، والانتباه، والتعامل مع المفاهيم المجردة. ومع ذلك، فإن قدرات الجزء المعني بالتفكير من الدماغ تمتدُّ إلى ما يتجاوز تلك الأغشية المبطِّنة للجمجمة. وفي ظل ما يشهده العالم الحديث من هوسٍ غير مسبوق بكل خارج عن المألوف من أفكار ومفاهيم مجردة، فإننا بحاجة للاستفادة من أية مساعدة يمكن لمفهوم «امتداد العقل» أن يقدمها لنا، وإن كان هذا الأمر، على وجه التحديد، هو ما يحاول المجتمع العلمي فهمه في الوقت الحالي، حسبما ترى بول.
على سبيل المثال، يمكننا إفراغ المعلومات خارج رؤوسنا عن طريق تدوين الملاحظات على أوراق لاصقة، أو في هواتفنا النقَّالة، أو أجهزة الكمبيوتر، أو بأن نُفضي بها إلى الأصدقاء والزملاء، أو حتى بالتعبير عنها بإشارات اليد. يمكننا أيضًا تحويل الأفكار إلى أشياء ملموسة، عن طريق بناء نماذج من المكعبات، أو الطوب، أو قِطَع الفسيفساء مختلفة الأشكال. إن خروج المعلومات من رؤوسنا، وتجسّدها على هذا النحو، يعني أن بإمكاننا التفكير فيها، والتعامل معها من مسافةٍ محايدة، أي دون الاضطرار لدفع الثمن الإدراكي المعرفي الباهظ الذي تقتضيه الحاجة إلى إبقاء تلك المعلومات في مقدمة أذهاننا أثناء أداء تلك العمليات. وهنا يتخفف الدماغ من عبءٍ كان مفروضًا عليه، ويتفرغ لاستغلال ما أصبح متاحًا لديه من موارد إدراكية إضافية تُعينه على الفهم أو حل المشكلات. ولعلَّ هذا ما دفع ليوناردو دافنشي إلى احتراف الرسم والصناعات اليدوية في آنٍ معًا، أو بناء الكيميائي جون دالتون، في القرن التاسع عشر، نماذج للذرة مستخدمًا الكرات والعِصِيّ. وهناك العديد من علماء الرياضيات الذين لا يزالون يدوِّنون أفكارهم بالطباشير على سبورة، معتبرين إيَّاها مساحةً خارجية لتخزين المعلومات.
والحقُّ أنني لستُ مطمئنةً تمامًا إلى الفكرة التي تنطلق منها المؤلفة، القائلة بأن مجتمع اليوم يقمع استخدام «امتدادات العقل»، أو يعجز عن فَهْم قيمتها، بل إنني أرى تعاونًا واسع النطاق في مجال تمديد العقل، بدايةً من المدارس، وصولًا إلى مختبر «سيرن» CERN، الذي تُجرى فيه تجارب الفيزياء عالية الطاقة. غير أن فرضية الكاتبة ربما تكون مرتبطة بما تلاحظه من تفضيل الامتدادات الرقمية على الامتدادات المادية؛ كما نرى في إقبال الكثيرين على استخدام منصة «سلاك» Slack بغرض التواصل، بينما تقلُّ نسبة المُقبِلين على التريُّض (أُسْوةً بتشارلز داروين، الذي كان يتريَّض سيرًا على ما أسماه «طريق التأمل»). ومهما يكُن من شيء، فإن طَرْح بول، الذي يدعو إلى رؤية الدماغ والجسد كجهاز تفكير مُركَّب ذي قدرات غير محدودة، يظل طرحًا مشوقًا، يجمع جهودًا بحثيةً من مجالات شتّى، بدءًا من التعليم والمشاريع، وحتى علم النفْس وعلم الأعصاب الإدراكي.
حيَل مساعِدة للدماغ
تتناول بول في كتابها العديد من الحيَل التي يمكن من خلالها تعزيز قدرة الشخص على التذكُّر والتركيز والتحليل. واحدة من بين تلك الحيَل، التي تحظى بتقدير واسع، هي حيلة «قَصْر الذاكرة» memory palace؛ وفيها يربط الشخص العناصر المُراد تذكرها بمكان معيَّن. استخدم خطباء الإغريق والرومان القدامى طريقة «المواضع المكانية» تلك لتأسيس ترابُط ذهني بين النقاط المُراد تذكرها في خطاباتهم وبين نوافذ أحد المباني أو واجهات المتاجر في أحد الشوارع على سبيل المثال.
وقد تحققت دراسات علمية من فعالية تلك الطريقة، التي تبيَّن أنها تقوم على الاستفادة من قدرات نظام المِلاحة الطبيعي في الدماغ. كما كشف علماء الأعصاب الإدراكية أن أبطال العالم في مسابقات الذاكرة، ومعهم سائقو سيارات الأجرة في لندن، تنْشَط لديهم مناطق دماغية مرتبطة بالذاكرة المكانية والتنقل بدرجة أعلى من المتوسط.
ويمكن لحركة بسيط، مثل تحريك اليدين أثناء التحدث، أن يلقي بما تُطلِق عليه بول «الخطاطيف الذهنية» داخل عناصر محاضرة يجب إلقاؤها؛ للمساعدة في اجتذاب معلومة بعينها، أثناء وقوف الشخص عند منصة الإلقاء أمام جمهور المتلقِّين. ويمكن للحركة أن تساعد على التركيز، حتى وإن كانت الحركة من النوع المضطرب الذي قد يَصدُر عن الشخص عند وقوفه أمام مكتب بلا مقعد. لذا، تقول المؤلفة إنها تشفق على الطلاب المُجبَرين على الجلوس خلف مكاتبهم بلا حراك.
ويغوص بنا الكتاب في مسألة أخرى، هي كيفية تأثير البيئة المحيطة على طريقة تفكيرنا. وهنا، تطرح المؤلفة أسئلة عدة، منها: لماذا يقلل التواجد في الأماكن الطبيعة من الضغط النفسي الذي يؤدي إلى تراجع قوانا الإدراكية المعرفية؟ ولماذا يعتبر وجود الضوء الطبيعي في مكان العمل أمرًا مهمًا؟ وجملة القول في هذه المسألة أن مسار تطور الجنس البشري قضى بأن يعمل الجسم على أفضل وجه في أثناء وجودنا في البيئات الخارجية. ومن هنا، تدعو بول إلى مناصرة المعمار البيولوجي الصديق للطبيعة، الذي تكون فيه النوافذ الواسعة والمساحات الخضراء عناصر أساسية في خطط البناء. وتُشيد بتصميم معهد سالك للدراسات البيولوجية في سان دييجو بولاية كاليفورنيا الأمريكية، بوصفه أنموذجًا للرؤية العصرية لمعمار أديرة العصور الوسطى، إذ يشتمل على مساحات مُخصصة للاجتماع والحديث، وأخرى للتأمل في عُزلة. وتقول المؤلفة إن تلك المساحات تلبي حاجة الباحثين إلى التفكُّر في المفاهيم الصعبة، بعيدًا عما يشتِّت انتباههم، وكذا حاجتهم إلى خوض المناقشات مثمرة في الوقت نفسه.
ومما تجدُرُ الإشارة إليه أن هذه الحاجة الثانية تستفيد من مبدأ الامتداد الذهني، الذي يقوم على "التفكير من خلال علاقاتنا"؛ إذ تنظر الدراسات المعنِيّة بهذه الظاهرة في الطُّرق المختلفة التي يمكن من خلالها للتفاعل الاجتماعي (مع الأقران والخبراء، أو من خلال التدريس، أو النقاش، أو التدريب الجماعي)، أن يساعدنا على التعلُّم أو التحليل. وفي هذا الصدد، تقول بول إن التفكير الجمعي يمكن توظيفه في توزيع العبء الإدراكي المعرفي.
يستعرض الكتاب عددًا كبيرًا من الأبحاث، غير أن يتمُّ على عجل، فيختلط القوي منها بالضعيف، بصورة يصعب معها تمييز الغث من السمين في بعض الأحيان. ونظرًا إلى شيوع مشاكل تكرار النتائج البحثية في مجال علم النفس، فإن التمييز بين الأبحاث على أساس الجودة أمر لا غنى منه. ويحتوي الكتاب على أكثر من 70 صفحة من الملاحظات، لمن يريد تتبُّع الدراسات الكثيرة الواردة فيه. ومع ذلك، فلسببٍ ما، يبدو الكتاب في جملته أضعف من مجموع أجزائه.
أما عنصر «الاستراتيجيات»، أو الوسائل السلوكية، وهو العنصر الذي يلقى رواجًا بين الناشرين، فيبدو أنه قد وُضع على نحوٍ يناسب جميع القرّاء. لكي نعيش حياة أكثر ذكاءً، توصي بول بتحريك الأيدي أثناء الكلام بحرية، واستخدام الجسد في التعبير عن المفاهيم الأكاديمية التي تتسم بدرجة عالية من التجريد (هل هذا ما تسعى إليه مسابقة «السير في طريق الدكتوراه رقصًا» Dance Your Ph.D السنوية؟)، والتَعلُّم في مجموعات، وممارسة العديد من الأنشطة الأخرى التي لا يمكن أن تؤتي ثمارها إلا في ظل ظروف بعينها. والملاحَظ أن الكتاب يُغفل قضايا مهمة، ترتبط بتركيب الشخصية، الذي يمكن أن يؤثر على مدى فعالية العديد من هذه الطرق والوسائل. فعلى سبيل المثال، هل يمكن لشخص انطوائي الطابع أن يُفيد من التَعلُّم الجماعي مثلما يستفيد الشخص الاجتماعي؟ وهل يمكن لشخص مضطرب الحركة أن يستفيد من العمل الجسدي كما يستفيد شخص يتمتع باللياقة الحركية؟ لم تأتِ المؤلفة على أيٍّ من هذه الأسئلة، أو ما شابهها.
ورغم هذا كله، يحوي الكتاب بين دفَّتيه أفكارًا لا مراء في صحتها. فقد قضى التطور بأن تستجيب أدمغتنا باستمرار للإشارات التي ترصد أجسادنا، والبيئة المحيطة بنا. ولا شكَّ أن المجتمع يتعين عليه التفكير في البيئة أكثر مما يفعل الآن. كما يجب على الأفراد الانتباه لاحتياجات أجسادهم. ومع ذلك، فلا داعي للمبالغة؛ فالدماغ – لا الجسد – يبقى هو المسؤول عن إتمام عملية التفكير الفعلي.
اضف تعليق