لعل أعظم نجاح أحرزه علم الكون المعاصر هو أن هناك نموذجًا ذا سِت مُعامِلات فقط يستطيع تفسير الغالبية العظمى من البيانات المرصودة من الدقائق الأولى من عمر الكون حتى يومنا هذا. يفترض هذا النموذج المعياري أن %95 من الكون يتألف اليوم من "مادة مظلمة" و"طاقة مظلمة" مُبهَـمَـتين...
لعل أعظم نجاح أحرزه علم الكون المعاصر هو أن هناك نموذجًا ذا سِت مُعامِلات فقط يستطيع تفسير الغالبية العظمى من البيانات المرصودة من الدقائق الأولى من عمر الكون حتى يومنا هذا. يفترض هذا النموذج المعياري أن %95 من الكون يتألف اليوم من "مادة مظلمة" و"طاقة مظلمة" مُبهَـمَـتين. المفارقة أنه تبيَّن أن نمذجة ديناميكيات الـ%5 المتبقية – المادة "الباريونية" العادية – من أكثر المهمات تحدِّيًا. في عدد الأسبوع الثاني من مايو الماضي من دورية Nature الدولية، وصَف فوجِلشبرجر وزملاؤه محاكاة رقمية لتشكُّل بنية الكون تتضمن كلًّا من التوزيع واسع النطاق للمادة الباريونية، وخصائصها في المنظومات المجرية المنفردة، عبر الزمن الكوني.
يُعَدّ تعقُّب تطوُّر المادة الباريونية مهمة مضنية، بسبب المجال الهائل من المقاييس الفيزيائية المرتبطة بالعمليات التي تتشكَّل بها المجرات والبِنَى الأكبر منها التغطية جزء نموذجي من الكون (أي يمثّل الكون بشكل جيد)، على علماء الكون دراسة حيّزات كونية لا تقل مقاييسها عن 100 مليون فرسخ فلكي (326 مليون سنة ضوئية). وعلى النقيض من ذلك، يساوي المقياس الطبيعي لتكوُّن النجوم حوالي فرسخ فلكي واحد، ويحصل تراكم الغاز بواسطة الثقوب السوداء الفائقة عند مقاييس أصغر من ذلك. كانت المحاكاة الرقمية منذ مدة طويلة الأداة المختارة للتعامل مع هذه المسائل، إلا أنه حتى باستعمال أقوى الحواسيب الفائقة، من المستحيل إجراء محاكاة ضخمة بما يكفي لنمذجة التوزيع واسع النطاق للغاز والنجوم والمادة المظلمة مع الإبقاء على تفاصيل كافية لتمثيل المجرات منفردة بدقة. يبدو إذًا أن محاكاة الكون مهمة صعبة.
يتصدى فوجِلشبرجر وزملاؤه لهذه المسألة من جميع جوانبها. فمحاكاتهم – المسمَّاة إلَّستريس Illustris – تشمل أكثر من 10 مليارات خلية لتمثيل الغاز في حيِّز المحاكاة؛ بزيادة على سابقاتها تساوي عشرة أضعاف تقريبًا. يُستعمل في البرنامج الرقمي المعتمَد لإجراء هذه المحاكاة نهج جديد، يقوم على شبكة حاسوب متكيِّفة وغير مهيكلة تتتبّع التدفقات المائعة، وذلك لحل المعادلات التي تَصِف التطوُّر الزمني للمادة الباريونية ضمن البِنَى الكونية. وأخيرًا، كانت الظواهر الفيزيائية التي اشتملت عليها المحاكاة غنية ومعقدة، إذ نظر المؤلفون في برودة الغازات، وتطور النجوم، ومُدخَلات الطاقة من انفجارات المستعرات العظمى، وتوليد العناصر الكيميائية، وتراكم الغاز بواسطة الثقوب السوداء الفائقة (تُرافقها تغذية إشعاعية مرتدة)، وغير ذلك الكثير.
إذا بدا لك هذا معقدًا بشكلٍ ما، فلا تنخدع. إنه معقد بشكل كبير. فكثير من هذه العمليات غير مفهومة من حيث المبادئ الأولى، وهيتتفاعل فيما بينها بطريقة معقدة لاخطية. أضِف إلى ذلك.. أن المقاييس الفيزيائية المرتبطة بها غالبًا ما تكون أصغر (بكثير) من أن تُعالَج مباشرة، حتى بواسطة Illustris. فهي تحتاج إلى نماذج كفء حسابيًّا، تعبِّر بدقة عن الفيزياء التي تستند إليها. لذا.. لم يكن تنفيذ المحاكاة عملًا عاديًا، فقد استغرق حوالي 16 مليون ساعة عمل وحدة معالجة مركزية (CPU)، لكن نتيجة المحاكاة النهائية كانت كونًا شبيهًا جدًّا بالكون الحقيقي.
وبالنظر إلى صورة مقلَّدة تعطيها Illustris من محاكاة مجال هابل فائق العمق4، أعمق صورة للكون يجري التقاطها، يمكن بسهولة قبول أنها النسخة الحقيقية بوضع الاثنتين جنبًا إلى جنب (انظر الشكلين 1ب، و1ج من المقالة2). صور المجرات الناتجة عن المحاكاة كذلك واقعية على نحو مثير (انظر الشكل 1أ من المقالة)، وهو إنجاز كان ممكنًا في السابق فقط بمحاكاة المجرات المنفردة. ليس هذا مجرد استعراض.. فإجراءات من هذا النوع تتيح مواجهة مباشرة ذات معنى للنظرية بالبيانات. تتفق أيضًا مجموعة كبيرة من القياسات الكمية مع أرصاد الكون الحقيقي. فعلى سبيل المثال.. عانت الأجيال السابقة من عمليات المحاكاة من صعوبة بالغة في كشف التوزيع المرصود للعناصر الأثقل من الهيدروجين والهليوم الموجودَين في النجوم. وقد أعادت Illustris إنتاج هذه الأرصاد، ليس للكون بالكامل فحسب، بل بوصفها دالة في كتل النجوم والمجرات كذلك. يُضاف إلى ذلك أن المحاكاة تتوافق مع وفرة تلك العناصر الثقيلة في غيوم الغاز الكثيفة.
بالطبع، لا تُمثِّل Illustris نهاية المطاف في المحاكاة الكونية لتَشَكُّل المجرات. فمع أن حجم الحسابات فيها هائل، إلا أنها ليست كبيرة بقدر كاف لنمذجة تشَكُّل الأجسام الكونية النادرة (مثل الثقوب السوداء القوية المرصودة في الكون المبكر). وما زال مستوى التفاصيل فيها غير دقيق بما يكفي لدراسة أكثر المجرات خفوتًا في محيط درب التبانة. تتكوَّن نجوم المجرات صغيرة الكتلة في Illustris على نحو أبكر وأسرع مما يحصل في الكون الحقيقي، وتلك مشكلة مشتركة لدى كل نماذج تكوُّن المجرات5 تقريبًا. ومع ذلك.. فإن تلك الأمور تدلنا على السبيل نحو التقدُّم في المستقبل.
أحد الأهداف الواضحة للراصدين وعلماء النظريات على حدٍّ سواء، هو الفهم الدقيق للطرق التي تؤثِّر بها الطاقات والعزوم الناجمة عن النجوم المتطورة والمتفجرة في خصائص الغاز في المجرات وحولها6،7. وإحدى الطُّرُق الحسابية الواعدة لتحقيق ذلك هي الجمع بين محاكاة واسعة النطاق، مثل Illustris، المحدودة بالضرورة في مستوى التفاصيل التي تستطيع معالجتها، وأنواع المحاكاة التي تركِّز كل قوتها على مجرات منفردة على حساب دراسة تكوُّن المجرات بطريقة إحصائية. إذا أمكن ضم المعرفة المكتسبة من تلك المحاكاة المركَّزة إلى جهود حسابية واسعة النطاق، فإن القيام بمحاكاة رقمية أعلى دقةً للكون سيكون بمتناول أيدينا، ليوجِّه استقصاءاتنا نحو العمليات الفيزيائية الأساسية التي يستند إليها.
من الناحية الحسابية، تبقى القدرة على الوصول للمقاييس الضرورية لمحاكاة تشكُّل النجوم مباشرة، مع احتواء آلاف المجرات المشابهة لدرب التبانة، حلمًا بعيد المنال. لكن بفضل برنامج المحاكاة Illustris، أصبح توليد كون افتراضي معقول من الغاز والنجوم والثقوب السوداء والمادة المظلمة حقيقةً واقعة.
اضف تعليق