السؤال المُلِحّ هو: لماذا نما لدى هوليوود وبقية مصادر الثقافة الشعبية فَهْم خاطئ للطب النفسي في أغلب الأحيان؟ لماذا ما زلنا حتى الآن نتحدث عن أريكة الطبيب النفسي، في حين أن معظم الأشخاص الذين يترددون على الطبيب النفسي لا يستلقون عليها مطلقًا؟...
تُرَى، ما هو الأمر المثير للضحك في اضطراب الوسواس القهري؟ قام البروفيسور بول سيفالو ـ أستاذ اللغة الإنجليزية بكلية لافاييت في إيستون بولاية بنسلفانيا ـ بتوجيه هذا السؤال في مقالة تعرّضت لتحليل الأسباب التي تجعل التعبير عن اضطراب الوسواس القهري في وسائل الإعلام غالبًا ما يأخذ شكل "الفكاهة والهزل" بشكل يفتقد إلى أبسط قواعد العدل والإنصاف على النقيض من اضطرابات الصحة النفسية الأخرى، مثل الاكتئاب، والفصام، تجد أن الأشخاص المصابين بالوساوس القهرية، كما كتب سيفالو، "يمكن دائمًا استغلالهم في إثارة الضحك لدى المشاهدين والمستمعين".
مع ذلك.. تخفّ هذه الضحكات كثيرًا على أرض الواقع، كما يتضح في مسرحية "الغرفة" The Room وهي من أعمال السيرة الذاتية، وتقوم ببطولتها امرأة واحدة بمفردها، وتتناول مسألة اضطراب الوسواس القهري، وقد كتبتها وقامت بتمثيلها لورا جين دين. وتشير إيميلي هولمز في تحليلها النقدي لهذه المسرحية، بوصفها "حكاية مؤثرة وجادة تتناول حياة امرأة تتعرض لحالة من حالات الصحة النفسية، إضافة إلى المراحل التي تخوضها في طريق العلاج، ولكنها تنجح في تجاوز تلك الحالة".
إن وَصْف حالات الصحة النفسية والعقلية (أو لِنَكُن أقل حرصًا من الناحية الدلالية، ونطلق عليها اسم "حالات المرض النفسي") في وسائل الإعلام والثقافة الشعبية له تأثير بالغ على الطريقة التي ينظر بها كثير من الأشخاص إلى ذلك النوع من الأمراض، وكذلك إلى المصابين بها. فتجد الأطباء على رأس الشخصيات المهنية الأكثر تناولًا في الروايات والأعمال الأدبية، بعد المحامين، وضباط الشرطة، وكثيرًا ما يظهر الأطباء النفسيُّون في تلك الأعمال. وعلى الرغم من الإحصائية كثيرة الاقتباس، التي تقول إن واحدًا من بين كل أربعة أشخاص يتعرض لحالة من حالات المرض النفسي في مرحلة ما من حياته، ينظر كثيرون إلى الواقع الطبي عن بُعْد، ويكتفون بإلقاء نظرة خاطفة عبر الشاشة الفضية على الحياة البائسة التعيسة التي يعيشها شخص آخر. وعندما تكون هذه الصورة مشوهة أو محرَّفة، فإن النتيجة تكون مزيجًا من الخوف وعدم الثقة، ليس فقط تجاه الأشخاص المتخصصين في مجال الصحة النفسية، وإنما أيضًا تجاه المرضى أنفسهم.
لذا.. فإن السؤال المُلِحّ هو: لماذا نما لدى هوليوود وبقية مصادر الثقافة الشعبية فَهْم خاطئ للطب النفسي في أغلب الأحيان؟ لماذا ما زلنا حتى الآن نتحدث عن أريكة الطبيب النفسي، في حين أن معظم الأشخاص الذين يترددون على الطبيب النفسي لا يستلقون عليها مطلقًا؟
هناك حكايات كثيرة تَعْرِض المرض فحسب، أو ـ على الأقل ـ صورة نمطية بشعة للمرض، وليس للشخص المصاب به. الأمر الأكثر أهميةً أن تلك الأعمال لا تَعْرِض كيف يمكن للشخص ـ في أغلب الأحيان ـ التعافي باستخدام العلاج السليم. ففي الحقيقة، يندر وجود الأدوية التي يمكنها تحقيق المعجزات في الطب النفسي، كما هو الحال في الطب العضوي، لكن كثيرًا من الأشخاص الذين يعانون من مشكلات نفسية، إن لم يكن معظمهم، يمكن أن يشعروا بالتحسن إذا تَلَقّوا النوع الصحيح والمناسب من المساعدة. ومن المهم الإقرار والاعتراف بذلك الأمر، ووصفه.
«الطريقة المستخدَمة في تعطيل دورة المرض المدمرة، التي تتمثل ـ تحديدًا ـ في علاج اضطراب الوسواس القهري، تتلخص في مقاومة تلك الطقوس».
على سبيل المثال.. طرحت دراسة نُشرت في فبراير الماضي في دورية "سوشيال ساينس آند ميديسين" Social Science and Medicine (E. E McGinty et al. Soc. Sci. Med. http://doi.org/2v4; 2015) اقتراحًا يفيد بأن القصص والحكايات التي تتناول حياة الأشخاص الذين تم علاجهم بنجاح من الاكتئاب والفصام وإدمان المخدرات قد أسهمت في التقليل من المواقف والاتجاهات السلبية تجاه المرض النفسي لدى الأشخاص الذين سمعوا بها. أمّا القصص التي تتناول المشكلات نفسها، ولكن لم يتم علاجها بشكل ناجح، فقد نتج عنها مزيد من الاستعداد للتمييز بحق الأشخاص المصابين بتلك الأمراض. من المعروف أن ذلك التمييز والتحامل يكونان بمثابة عائق في طريق شفاء هؤلاء الأشخاص، لأنهم يمكن أن يجدوا أنفسهم منبوذين أو مرفوضين اجتماعيًّا، عندما تنتشر حولهم أخبار الحالة التي يعانون منها.
ربما تكون هناك طريقة ـ فيما نطرحه في السطور القادمة ـ لمواجهة وصمة العار التي تلتصق بالمرض النفسي. فلا يجب أن يكتفي العلماء والصحفيون وأفراد الحملات بمجرد "رفع درجة الوعي" من خلال إلقاء الضوء على حقيقة تلك الحالات، ومن خلال توجيه النقد العلني لأولئك الذين يسيئون استخدام المصطلحات والمفردات اللغوية الخاصة بالطب النفسي. ولا يكفي أيضًا توضيح أن عبارات مثل "سياسة خارجية مصابة بالفصام"، و"أنت موسوس إلى حد ما" تتضمن قدرًا من الإهانة والإساءة، لأنها تسيء التعبير عن المعاناة الحقيقية للمرضى، بل وتستخِفّ بها. ولا تكفي إضافة إلى كل ذلك التشديد على الأساس البيولوجي للمرض النفسي. فمن أجل إحداث تغيير حقيقي في المواقف والاتجاهات العامة، لا بد أن تصدر الرسالة مرارًا وتكرارًا، وتعلن للجميع أن هذه المعاناة يمكن تخفيفها والحدّ منها.
لكي ننجح في ذلك.. فإن أمامنا تحديًا كبيرًا يتمثل في مواجهة الأساطير الثقافية ذات التأثير القوي، التي من أهمها فكرة أن المرض النفسي نعمة ومنحة، ولا بد أن تصاحبه فوائد ومنافع كثيرة. فعادةً ما يصوِّر الناسُ حالات المرض النفسي بوصفها وسيلة مختلفة لرؤية العالم، بدءًا من افتراض أن الأشخاص المصابين بالفصام تتعزز لديهم القدرات الإبداعية والرؤى الدلالية المعبِّرة، وانتهاءً بزَعْم أن الأشخاص المصابين بالتوحُّد لديهم قدرات إدراكية ومعرفية متميزة، وبُعْد نظر متفرد. هذا الإحساس بالمصير المحتوم ربما يخفف من وَقْع الصدمة على الجمهور، بل وحتى على بعض المرضى، ولكنه يغذي الانطباع المؤذي بأن الأطباء النفسيين لا هَمّ لهم سوى تجريد أصحاب القدرات الخاصة من مواهبهم وإمكانياتهم الفريدة. ومن ثم، يكون من الصعب جدًّا على المرضى الذين يعانون من مشكلات تتعلق بالصحة النفسية أن يَنْشُدوا المساعدة بدون خوف من الأطباء الذين يُعتبَرون أنسب الأشخاص لتقديم هذه المساعدة.
أخيرًا، ما الذي يمكن أن يثير الضحك في اضطراب الوسواس القهري؟ الإجابة ـ كما يخلص إليها سيفالو ـ تتمثل في التباين والتناقض الذي يميز هذا النوع من المرض النفسي، فكلما اجتهد الشخص المصاب بدرجة أكبر في مساعدة نفسه، من خلال بعض الطقوس التي تبث الراحة في نفسه؛ ساءت معاناته وعظمت. أما الطريقة المستخدَمة في تعطيل دورة المرض المدمرة، التي تتمثل ـ تحديدًا ـ في علاج اضطراب الوسواس القهري، فتتلخص في مقاومة تلك الطقوس، أي في التوقف عن العمل بناءً على ما يطلبه الجمهور. وهذا بالتحديد هو ما تمكّنت لورا جين دين من القيام به، بل كان ذلك علاجها، وكانت تلك قصتها... فلا يُشترَط أن تكون القصة مضحكة، لكي تنتهي نهاية سعيدة.
اضف تعليق