q
منوعات - بيئة

وجـبـات عَشاء قاتلة

ترسم أحدث البيانات الصحية صورة قاسية لتأثير الطهو باستخدام الكتل الحيوية. فقد قدّرت منظمة الصحة العالمية أن 4.3 مليون شخص يموتون سنويًّا بسبب تلوث هواء البيوت الناجم عن الطهو باستخدام الكتل الحيوية والفحم. وهو يمثل من أعظم المخاطر الصحية في العالم...

بعد العودة من وردية عملها التي استمرت تسع ساعات ونصف كحارس أمن، شرعت «ساويتا ساتيش داداس» في قطف أوراق الحلبة عن سوقها؛ لإعداد العَشاء. تتجمع هي وطفلاها ـ إلى جانب ثلاثة من أبناء عمومتهم ـ فيما يشبه سقيفة بجانب منزلهم، الموجود في مقاطعة ساتارا في مهاراشترا بالهند. ومع دخول الماعز والأبقار إلى السقيفة لقضاء الليل على بعد أمتار قليلة منهم، تجلس «ساويتا» والأطفال على الأرضية الترابية المرصوصة حول موقد البيت.

ترتفع أعمدة الدخان من الموقد الهندي التقليدي (تشولها)، الذي يعمل بالحطب والمواد العضوية الأخرى التي غالبًا ما تُجمع من الريف. وموقد «ساويتا» ـ مثل مواقد عديد من جيرانها ـ مصنوع من الصلصال، إلا أن الكثيرين يشعلون مواقد بدائية ثلاثية الأحجار - باستخدام مثلث من نقاط مرتفعة لإسناد الوعاء، كالتي استخدمها البشر لآلاف السنين. تُدْخِل ساويتا جذوعًا خشبية خشنة القطع في الموقد، وتشكِّل يداها الدقيقَ المرطَّب؛ لتصنع خبز «الباكري»، بحركة إيقاعية يؤججها تراقص اللهب.

بهذا العمل اليومي البسيط، تشترك ساويتا في رابطة تضم أكثر من ثلث سكان العالم، وهي المليارات الثلاثة من البشر التي تعتمد على وقود الكتل الحيوية الصلبة، كالخشب وروث الحيوانات والمخلّفات الزراعية والفحم النباتي، أو الفحم، لتلبية احتياجات طهو الطعام. في الهند، تلك البلاد التي سلكت طريق التطور السريع في عديد من المجالات، لا تزال 160 مليون أسرة ـ حوالي ثلثي الأسر ـ تعتمد على مثل هذه الأنواع من الوقود كمصدر أوّلي للطاقة لأغراض الطبخ. على الصعيد العالمي، انخفضت نسبة الأُسَر التي تستخدم الكتل الحيوية باطِّراد وبطء على مدى العقود الثلاثة الماضية. ونظرًا إلى الزيادة السريعة في عدد سكان العالم، فإن عدد الأفراد الذين يستخدمون الوقود الصلب لا يتناقص، حسب قول كيرك سميث، عالِم الصحة البيئية في جامعة كاليفورنيا، بيركلي، الذي درس الآثار الصحية الناجمة عن مثل هذه المواقد للطبخ لمدة 30 عامًا. وقال سميث: «لن يزول هذا قريبًا».

لم تكن الحاجة إلى انتقال مليارات الناس في جميع أنحاء العالم إلى أشكال أكثر نظافة للطبخ أكثر إلحاحًا مما هي عليه اليوم، في ضوء البحوث التي أجريت مؤخرًا وكشفت عن أن الانبعاثات الناتجة عن الطهو في مواقد تقليدية تشكل تهديدًا أكبر مما كان يُعتقد سابقًا. تُبرِز النتائج التي نُشرت ـ في وقت سابق من هذا العام ـ عن دراسة عالمية للصحة أن تلوث الهواء المنزلي بسبب هذه المواقد يسبِّب أكثر من أربعة ملايين حالة وفاة مبكرة سنويًّا، وأكثر من ربعهم في الهند وحدها. كما أن مناخ الأرض هو أيضًا في خطر بسبب الدخان الذي يحتوي على جسيمات داكنة تمتص أشعة الشمس، وتغيِّر أنماط الغلاف الجوي، وتسرِّع ذوبان مساحات المثلجات بالقُطبَين.

سعت المنظمات البيئية، ومجموعات التنمية، وهيئات أخرى على حل لغز مواقد الطبخ لعقود، ولكن الزخم تَزَايَدَ بفضل تشكُّل «التحالف العالمي من أجل مواقد الطهو النظيفة». تم إطلاق هذه المشاركة بعيدة المدى بين القطاعين العام والخاص في عام 2010 من قِبَل وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك، هيلاري كلينتون. وقد وضع هذا التحالف العالمي هدفًا ساميًا، غرضه إقناع 100 مليون أسرة باعتماد مواقد الطهو النظيفة بحلول في القريب الاجل، وهدفًا أبعد.. هو عدم وجود وفيات ناجمة عن مواقد الطهو بحلول عام 2030.

إنّ هذا الجهد الهائل ـ والأكثر طموحًا حتى الآن ـ يجمع اختصاصيين في مجالات متنوعة، مثل علم الأوبئة، وعلم المناخ، والتمويل العالمي، والمساواة بين الجنسين، وهو جزء من جهد عالمي متزايد يصل ما بين شركات الطاقة متعددة الجنسيات، والمنظمات غير الحكومية، ومختبرات التصميم الجامعية، والحكومات، والمخترعين الشباب الناشطين اجتماعيًّا. في الوقت نفسه، يتدفق تمويل جديد من تعاون مبادرات المسؤولية الاجتماعية، وقروض التمويل الصغيرة التي تُمنَح للفقراء، وبيع مخزون الكربون، إلا أن كافة الجهود المكرَّسة لحل المشكلة لا تزال بلا أثر واضح. وخلال جولة دامت ثلاثة أشهر في ولايتي مهاراشترا، قابلتُ عشرات النساء في بيوتهن، ووجدت أن مواقد الطهو المتطورة كثيرًا ما تقبع في الزوايا، دون أن تُستخدَم، فهي إما مكسورة أو ـ ببساطة ـ مستبعَدة. وتنسجم ملاحظاتي مع تلك التي توصَّلت إليها الدراسات الميدانية، والتي تُظْهِر أنّ معدّلات اعتماد التقنيات الحديثة لا تزال منخفضة، مثلما كانت لعقود. يكفي حجم الصراع الدائر لجعل عديد من الباحثين يشككون فيما إذا كان من الممكن حقًّا تحسين مواقد الطهو التي تعتمد على وقود الكتل الحيوية، وما إذا كان من الأفضل توجيه الجهود نحو توسيع فرص الحصول على التقنيات المتطورة، مثل مواقد الغاز، والمواقد الكهربية المعتمَدة فعلًا في العالم المتقدِّم.

لقد حان الوقت لتجاوُز الأساليب القديمة التي تسبِّب الكثير من التلوث داخل البيوت وخارجها على حدٍّ سواء، كما تقول كالبَنا بالَكريشنان، المتخصصة في علم الأوبئة، ومديرة مركز التعاون للصحة المهنية والبيئية التابع لمنظمة الصحة العالمية (WHO) في جامعة شري راماتشَندره في تشيناي بالهند: «إذا كنا نريد هواءً نقيًّا في أي مكان، فحَرِيٌّ بنا ألا نحرق الكتل الحيوية في العراء هكذا».

حساب التكلفة

ترسم أحدث البيانات الصحية صورة قاسية لتأثير الطهو باستخدام الكتل الحيوية. ففي مارس الماضي، قدّرت منظمة الصحة العالمية أن 4.3 مليون شخص يموتون سنويًّا بسبب تلوث هواء البيوت الناجم عن الطهو باستخدام الكتل الحيوية والفحم. وهو يمثل أعظم المخاطر الصحية في العالم، بعد ارتفاع ضغط الدم، والتبغ، والكحول4، مع ارتفاع عدد الوفيات بسبب الاستنشاق المتزايد والمستمر للدخان المتصاعد من النيران التي يوقدونها في منازلهم أكثر من الوفيات الحادثة بسبب الملاريا، والسل، وفيروس الإيدز مجتمعةً.

تتجاوز البيانات الجديدة أكثر من ضعف تقديرات منظمة الصحة العالمية في عام 2004 لمعدّل الوفيات الناجمة عن تلوث الهواء المنزلي. يرى «سميث» أن المسألة ليست مسألة طاقة، بل هي مسألة صحية في الأساس.

تشير البيانات إلى أن تلوث الهواء المنزلي من هذه النيران يسبِّب حالات العدوى الحادة في القسم السفلي من الجهاز التنفسي، وداء الانسداد الرئوي المزمن، وأمراض القلب والأوعية الدموية، وسرطان الرئة. وكثيرًا ما تكون النساء والأطفال ـ بشكل خاص ـ عرضة لكميات كبيرة من الجزيئات الصغيرة التي يقلّ قطرها عن 2.5 ميكرومتر، المعروفة باسم PM2.5، والتي تُعتبر الأكثر خطورة على صحة الإنسان. فقد أشارت دراسة1 نَشَرَها سميث وزملاؤه هذا العام ـ وأسهمت في تقرير منظمة الصحة العالمية3 ـ إلى أن النساء الهنديات اللاتي يطهين باستخدام الأدوات المنزلية التي تعتمد على الوقود الصلب يتعرضن لـPM2.5 بتركيز يبلغ يوميًّا في المتوسط 337 ميكروجرامًا لكل متر مكعب، أي أكثر من عشرة أضعاف المقدار الذي أوصت به منظمة الصحة العالمية لجودة الهواء في الأماكن المغلقة.

وحتى قبل إشعالها، تجعل هذه المواقد النساء والفتيات معرضات للخطر، لأنهن مكلَّفات عادةً بجَمْع الأحمال الثقيلة من الحطب أو غيره من المواد. كما يتعيَّن عليهن أيضًا السفر ـ في كثير من الأحيان ـ إلى مواقع نائية لإيجاد الوقود، مما يجعلهن عرضة لاعتداءات جنسية. لقد رأيت علامات على جمع الوقود بامتداد المناظر الطبيعية في جنوب آسيا، إذ تتكدس أكوام عالية منسَّقة من الفروع الدقيقة خارج البيوت في ولاية كَرناتَكا، وتلتصق على الجدران في ولاية بيهار أقراص من روث البقر المجفَّف، وعليها طبعات أيدٍ صغيرة. وفي البَنجاب يتدافع أطفال نحيلو الأجسام فوق شجرة، مقتطعين فروعها بالمنجل، في حين تسحب امرأة بمفردها جذع شجرة طوله 6 أمتار على مسار رملي في تاميل نادو. كل هؤلاء يجدون الوقود، فالكتل الحيوية أكثر توافرًا في الهند، إذا ما قورنت بأماكن كثيرة في أفريقيا، حيث الوضع أكثر سوءًا.

في الجوار

تقول لاتا كيسان كَارِي ـ التي تعيش بالقرب من «داداس» ـ إنها لا تبدي الكثير من القلق بسبب الدخان الذي ينبعث من الموقد الموضوع خارج الباب الأمامي لبيتها. فالتلوث لا يزعجها، وتضيف شارِحَةً: « إنه يصعد عاليًا ويبتعد».

في الواقع، يشكِّل الدخان المتصاعد من نيران موقد «لاتا» إضافةً إلى التلوث في قريتها وخارجها. وفي الهند ـ التي تنافس الصين حاليًا في مستويات تلوث الهواء ـ تنشأ ربع الجسيمات الدقيقة المعلقّة في الهواء المحيط من مواقد الطهو المنزلية. وحتى أفراد الأُسَر التي انتقلت إلى استعمال الغاز المُسال (LPG)، وغيره من مصادر الوقود الأنظف، ستبقى عرضة لمخاطر رئوية عالية، إذا استمر جيرانهم في طهو الطعام باستعمال الوقود الصلب، كما تقول بالاكريشنان.

إنّ تأثير مثل هذه النيران يصل إلى كل أنحاء العالم، إذ تشير الدلائل إلى أن الكربون الأسود ـ الجزيئات التي تمتص أشعة الشمس، والتي تنشأ عن نار الطهو وغيرها ـ يساعد على إضعاف الرياح الموسمية الآسيوية، وإذابة الأنهار الجليدية الجبلية، وتسريع احترار القطب الشمالي5. ففي عام 2013، وجد تقييم جوهري أن الفحم الأسود المنبعث من مصادر كمواقد الطهو، ومحركات الديزل، وحرق المخلفات الزراعية، هو السبب الرئيس الثاني لاحترار المناخ، بعد انبعاثات ثاني أكسيد الكربون. وفي أفريقيا وآسيا، يسهم حرق الوقود الصلب ـ الذي يشمل الكتل الحيوية والفحم في المناطق السكنية ـ بنسبة تتراوح بين 60 - %80 من انبعاثات الفحم الأسود.

يحاول التحالف العالمي معالجة هذه المشكلات المتعلقة بالبشر والجوّ عن طريق مجموعة من الأنشطة، من بينها تحسين رصد وتقييم برامج مواقد الطهو، وزيادة التنسيق بين المئات من الهيئات العامة والخاصة والمستقلة وغير الحكومية وجهات التمويل في 43 بلدًا شريكًا تنضوي الآن تحت مظلة التحالف. في عام 2012، وهو آخر عام تتوفر بيانات عنه، وزّع الشركاء 8.2 مليون موقد طهو نظيف.

إنّ التوزيع هو خطوة واحدة فقط على طريق الابتعاد عن دخان النيران، إذ تُظْهِر الأُسَر المشابهة لأسرة «لاتا» مدى التحدي الذي سيواجهه التحالف للوصول إلى أهدافه، وخاصة إذا كان التركيز ينصبّ بشكل أساسي على تحسين مواقد الكتل الحيوية. وباعتبارها جزءًا من مبادرة الشركاء المحليين للمسؤولية الاجتماعية، تلقّت «لاتا» قبل عدة سنوات موقد طهو محسَّنًا مجّانًا من «كَمِنْز» Cummins، وهي شركة متعددة الجنسيات، تشغّل موقعًا صناعيًّا ضخمًا في المنطقة. وقد تم تركيب خمسمئة موقد ـ كلفة كل منها أقل من 15 دولارًا أمريكيًّا ـ في منازل القرية من قِبَل منظمة غير حكومية. ومثل موقد «لاتا» تمامًا، لم يُستَعمل الكثير من هذه المواقد. والموقد الطيني يعتمد تكنولوجيا بسيطة، وهو مصمَّم لإحراق أنظف، وغرفة الاحتراق فيه مصنوعة من إسمنت مقاوم للحرارة، وفتحة لسحب الهواء، ولتحسين جريانه. وكعشرات المواقد التي رأيتها في مقاطعة ساتارا، كان هذا الموقد مزوَّدًا بلَبِنة مثبتة في فتحة الهواء، خشية أن تخطئها الثعابين أو العقارب، وتعتبرها مخبئًا لها.

وجد الأفراد الذين اختاروا استخدام مواقدهم أن التصميم كان معيبًا. فقد احترق السلك الذي كان يجمع الطوب في غرفة الاحتراق بسرعة، مما تَسبَّب في انهيار المواقد تحت تأثير وزن أوعية الطهو، ووجد الكثيرون أن النيران لا تزال تسبِّب الكثير من الدخان.

طَوَّرَ المهندسون تصميمات أكثر تطورًا وثباتًا، وكثير منها قابل للحمل؛ لتفادي المشكلات المماثلة لتلك التي شوهدت في قرية «لاتا». وهناك مواقد تعمل بالغاز عالية التقنية، كالموقد الذي تنتجه فيليبس، ويعتمد على عبوة بطارية قابلة لإعادة الشحن لتشغيل مروحة من أجل احتراق أنظف. ومواقد «أورجا» أيضًا مزوّدة بمروحة، وتحرق نفايات الحقل المكوَّرة. هناك خيار آخر، «بايولايت»، الذي يستخدم مُوَلِّد كهرباء حرارية لتشغيل مروحة (فضلًا عن منفذ لشاحن USB، وهو ما قد يشجِّع الأزواج المعجبين بالهاتف المحمول لشراء مواقد محسَّنة لزوجاتهم). وتستخدم الوحدات الأنيقة ـ مثل مواقد «إنفايروفيت» Envirofit، و«براكتي» Prakti ـ تيارًا طبيعيًّا، في محاولة للوصول إلى إيقاد نار دون دخان.

ويبدو أن المستخدمين رأوا الكثير من القصور في كل هذه النماذج، فهُم غالبًا ما يرفضونها. قالت لي النساء إن هذه المواقد أصغر جدًّا من أن تدعم وعاء تسخين ماء الاستحمام، أو إنها ليست ساخنة بما يكفي لطهو «روتي»، أو الخبز الرقيق. واشتكى عدد كبير منهن من أنه يتعين عليهن الجلوس إلى جانب المواقد المحسَّنة وتغذيتها باستمرار، على عكس المواقد التقليدية، حيث يمكنهن الاكتفاء بإلقاء جذع كبير فيها. وحتى اللواتي يستخدمن المواقد الجديدة يواجهن مشكلات عندما تُكسر الأجهزة؛ ففي الوقت الحاضر هناك نظام إمدادات محدود جدًّا، مجهَّز لتأمين قطع الغيار أو الإصلاح. ويسعى التحالف العالمي ـ إلى جانب شركات مثل «أورجا»، و«إنفايروفيت»، و«براكتي» ـ إلى تجهيز البنية التحتية الضرورية، لكن الطريق أمامهم لا يزال شاقًّا، إذ تتراوح كلفة المواقد الأفضل أداءً بين 50 و80 دولارًا، وهو مبلغ أعلى بكثير من إمكانية العديد ممن هم في أشد الحاجة إليها.

تعرضت جهود تحسين المواقد لكثير من المشكلات المشابهة على مدى عقود، إذ يذكر تقرير برنامج مواقد الطهو الحكومي الهندي توزيع أكثر من 30 مليون موقد محسَّن بين عامي 1983 و2002، لكنَّ البنك الدولي وعددًا كبيرًا من الباحثين وجَّهُوا انتقادًا إلى هذا البرنامج، مثلما إلى العديد غيره من مبادرات المواقد على مرّ السنين، لسوء تصميم المواقد، وتكاليف البرنامج العالية، وانخفاض معدلات اعتماد المواقد بالفعل، وانعدام صيانتها. يبدو أن فكرة توزيع الأجهزة مجانًا لا تنجح، فقد أخبرني العديد من مصممي المواقد أن البرامج المدعومة بقوة تتجاهل نمو السوق المحلية للمواقد وقطع الغيار، التي يمكن أن تساعد على دعم استخدامها على المدى الطويل.

التقليدي يكسب

في أواخر عام 2013، استعدّ سميث لزيارة ثانية لبعض القرى التي كان قد درسها لأول مرة في أوائل ثمانينات القرن العشرين. عندما التقينا في دلهي قبل رحلته، قال: «أخشى أن أذهب لأرى أن شيئًا لم يتغير»، لكنه كان مخطئًا. ففي القرى، كان الناس يتجاذبون أطراف الحديث على الهواتف المحمولة، وكانت هناك منازل عديدة مزوّدة بالكهرباء، وأطباق أقمار صناعية، ومياه جارية، لكن شيئًا واحدًا لم يتغير، ألا وهو أنّ جميع الأسر تقريبًا لا تزال تستخدم المواقد التقليدية، على الأقل لإعداد بعض الوجبات. يقول سميث: «أصبحت التنمية غير ذات صلة بالطهو».

و«أدراج الرياح» هي دراسة أجريت عام 2012 من قِبَل باحثين في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في كمبريدج، لتسليط الضوء على بعض التحديات المستمرة6. لم تعثر دراسة عشوائية مُراقَبة ـ في أوديشا بالهند ـ على أي تحسُّن طويل الأجل في مجالات الصحة واستهلاك الوقود، أو – كما استدل الباحثون ـ انبعاثات غازات الدفيئة لدى الأسر التي مُنِحت مواقد طهو نظيفة. ويرجع هذا بشكل رئيس إلى أن المواقد لم تكن تُستخدَم. فرغم توزيع الأجهزة من قِبَل منظمة «جرام فيكاس» غير الحكومية، فإنها سرعان ما توقَّف استعمالُها، أو لم يُحافَظ عليها بطريقة تُبْقِي الانبعاثات منخفضة.

ينتقد سميث دراسة أدراج الرياح، قائلًا إن المواقد التي كانت موضع البحث كانت معروفة بسوء نوعيتها. ويسلط هجومه الضوءَ على حقيقة مفادها أن أحدًا لا يعرف ما هو تعريف موقد الطهو «النظيف»، نظرًا إلى عدم وجود معايير متفَق عليها لانبعاث الجسيمات من المواقد.

يوافق جوتَم ياداما، أستاذ العمل الاجتماعي في جامعة واشنطن في سانت لويس بولاية ميسوري، ومؤلف كتاب «النيران والوقود، ومصير 3 مليار إنسان»، (مطبعة جامعة أكسفورد، 2013)، على أن «نظيف» تعبير غامض، ويقول: «ما هي المقاييس؟ مَنْ الذي يدعوها محسَّنة، وهل هي محسَّنة بالفعل؟». هناك جهود تجري على قدم وساق لمعالجة هذه المسألة. فقد اجتمعت اللجنة الفنية للمنظمة الدولية لتوحيد القياس في شهر فبراير في نَيروبي؛ لبدء تطوير طرق موحدة لاختبار مواقد الطهو، كما كانت الحكومة الهندية أيضًا منهمكة في تطوير مختبرات يمكنها الموافقة على مواقد طهو معيّنة على أساس الكفاءة الحرارية، بالإضافة إلى مدى إنتاج أول أكسيد الكربون، وإجمالي الجسيمات، لكن أيًّا من التصميمات لم يتناول بعض المشكلات الأساسية لإحراق الكتل الحيوية. فمثل هذه الأنواع من الوقود تختلف بشكل كبير من حيث محتواها من الرطوبة وتكوينها الكيميائي، مما يجعل تصميم موقد رخيص الثمن ذي احتراق نظيف أمرًا صعبًا في كثير من الحالات. وإضافة إلى ذلك.. سيكون تشغيل مستخدمي الموقد مختلفًا بشكل ثابت عن تشغيل فنِّيِّي المختبر له. وبغضّ النظر عن الموقد، لا يمكن للكتل الحيوية بأي حال أنْ تختزن طاقة تعادل الطاقة التي يختزنها الوقود الأحفوري. تقول بالَكريشنان: «لم ينجح البحث الذي دام ثلاثين عامًا في التوصل إلى طريقة مجدية اقتصاديًّا لحرق الخشب، فالخشب ليس وقودًا حراريًّا بما يكفي لاحتراق نظيف جدًّا».

في بعض الأماكن، تساعد التنمية على فتح باب النقاش حول اعتماد المواقد، وتشير إلى مستقبل بدون نيران مفتوحة. فهناك أُسَر كثيرة الآن تستخدم أنواعًا متعددة من أجهزة الطهو، وهو نهج يُدعى «تكديس المواقد»، يجمع بين الطريقتين.. التقليدية والحديثة. ويتجليّ هذا خاصة في ولاية تاميل نادو الجنوبية، وهي واحدة من أكثر المناطق تطورًا في الهند.

عندما دخلت إلى منزل إميلي تريزا، الذي يعلو محل خياطة للسيدات والرجال في مقاطعة كريشناجيري، صباح يوم سبت، كان هناك وعاء ضغط يصفِّر على موقد غاز مسال في المطبخ، في حين كان موقد الكيروسين موضوعًا تحت الطاولة. تفضِّل إيميلي الغاز المُسال، ولكنها تحدّ من استخدامه، أمّا موقد الكيروسين، فحسب دوام مخصَّصها من الوقود المدعوم. ولتسخين مياه الاستحمام، تستخدم إيميلي الموقد التقليدي في الخارج. وفي غرفة أخرى، تحتفظ بموقد الكتل الحيوية «إنفايروفيت» الذي اشترته من خلال جمعية النساء التعاونية التي تنتمي إليها. لقد ساعد مشروع «تنمية القرية المتكاملة» الذي ترعاه منظمة غير حكومية في جلب 25،000 من تلك المواقد إلى منطقتها. وشقيقة زوجها التي تقطن أسفل الطريق لديها هي الأخرى عدة مواقد، بما في ذلك موقد الحث، وهو وحدة كهربية مبسطة، يزداد انتشارها، تستخدم الحث الكهرومغناطيسي لنقل الحرارة إلى أواني الطهو. وفي الأماكن التي يمكن الاعتماد فيها على الكهرباء، يوفّر الحث موقدًا أكثر نظافة وكفاءة، بتكلفة يمكن مقارنتها بمواقد الكتل الحيوية المحسَّنة متوسطة المستوى.

يُذَكِّرنا تجميع المواقد بهذه الطريقة ـ من قِبَل أولئك الموجودين في أسفل سلم الطاقة ـ بالطريقة التي ينتقل فيها الموجودون في طبقات اجتماعية أعلى بسلاسة بين الغاز وأفران الميكروويف والغلايّات الكهربية، بينما يؤدي سخان الماء عمله بهدوء دون أن يلاحظه أحد، ولكن وسط مجموعة كبيرة من الخيارات، كثيرًا ما يكون موقد «إنفايروفيت» هو آخر خيار تبحث عنه «إيميلي» وشقيقة زوجها.

بعد عقود من الصراع لحمل الناس على استخدام مواقد الطبخ المحسَّنة، يخشى عديد من الباحثين من عدم رضا المستهلكين عن هذه الأجهزة مطلقًا، وبالتالي لن تحقق المكاسب الصحية والمناخية المرغوب فيها. يقول سميث: «بيت القصيد عندي هو أنه لا شيء يجدي.. الشيء الوحيد الذي نعرف أنه يعمل منذ الأزل هو الغاز والكهرباء».

تجادل بالَكريشنان ـ من الناحية الأخلاقية ـ ضد مواقد الطهو المحسّنة، التي لا تزال تنتج كميات ضارة من الملوثات، مقارنةً بمواقد الغاز المسال، أو المواقد الكهربية، وتدعمها محطات طاقة بعيدة تَستخدِم عادةً الوقود الأحفوري: «هل هناك تبرير لأنْ نقول إنه لا بأس من الوصول إلى وضع أفضل قليلًا؟ إذا كان لا بأس من استخدام %40 من الناس للوقود الأحفوري، فما الذي يجعل استخدامه من قبل الـ%60 الباقية غير مناسب؟ لماذا نستخدم معايير مزدوجة؟»

تغيير الطاقة

يعتقد سميث، وبالَكريشنان، وغيرهما أن الجواب قد يكون في القفز عدة درجات على سلم الطاقة مرة واحدة، وتَجَاوُز مواقد الكتل الحيوية المحسَّنة. سيكون من الأفضل ـ كما يقترحون ـ أن يوجِّه المصمِّمون وصُنّاع السياسات جهودهم نحو مساعدة المزيد من الناس على الانتقال مباشرةً إلى مواقد الغاز أو الكهرباء.

لقد قامت إحدى جارات «لَتا» بفعل هذا لتوّها، إذ جمعت مالًا يكفي لشراء موقد الحث، وموقد الغاز المسال، وهي تنفق على إعادة ملء أسطوانات الغاز المدعومة ـ التي تكفيها لمدة ثلاثة أشهر ـ المبلغ نفسه الذي تنفقه «لاتا» لشراء خشب للوقود يكفيها ثلاثة أسابيع فقط. ترغب «لَتا» كذلك في الحصول على مواقد أنظف، ولكن التكاليف الأولية باهظة جدًّا بالنسبة لها.

إنّ مجال الطاقة المتغيِّر بسرعة فَتَحَ آفاقًا جديدة.. فرغم أن الهنود قلقون بشأن مستقبل دعم الغاز المُسال، الذي يتباين بشدة، إلا أن الكثيرين يتمكنون الآن من الحصول على مصادر جديدة للطاقة البديلة والمتجددة. ففي الهند وغيرها من البلدان النامية، يقوم روّاد الأعمال بتأسيس نظم غير مركزية؛ لتوزيع الطاقة الكهربية، تغذِّيها الطاقة الشمسية، أو الطاقة المائية، أو الغاز الحيوي المشتق من المخلفات الزراعية (، والأخير متوفر بغزارة في مناطق العالَم الريفية الفقيرة. ويمكن للشبكات الكهربية الصغيرة ـ بالاشتراك مع مواقد الحث ـ أن توفّر وسيلة للملايين، تمكِّنهم من الابتعاد عن مواقد الكتل الحيوية الملوّثة.

وحتى التحالف العالمي لمواقد الطهو النظيف يقرّ بمزايا التخلِّي عن مواقد الكتل الحيوية بجميع أنواعها. تقول «سومي مِهتا»، مديرة البرامج في التحالف: «إذا كان الناس يستطيعون دفع نفقات، وبإمكانهم الحصول على تكنولوجيا أنظف للطهو، بما في ذلك المواقد الكهربية ومواقد الغاز المسال، فإن ذلك أمر رائع من وجهة نظرنا.. لكننا نعرف أيضًا أنه لن يكون بوسع الجميع ـ على المدى القصير ـ أن يحققوا تلك القفزة». ومن بين الذين يستعملون الكتل الحيوية كمصدر للطاقة، البالغ عددهم 3 مليار، نجد أنّ ثُلثهم ـ على الأقل ـ لديه أمل كبير في ارتقاء سلم الطاقة في أي وقت قريب. وبالنسبة لهم، كما تقول «سومي»، سيستمر التحالف في الاستثمار في ابتكار موقد أنظف للكتل الحيوية، مهما كانت تحديات هذه المهمة.

مع وَضْعها للمسات الأخيرة على طعام العشاء والأطفال يجلسون بصبر بجانبها، ليس لدى «ساويتا» سوى القليل من الوقت للقلق بشأن قضايا كهذه، إذ تغمس ملعقة في إناء الڤيكس المليء بالملح وتضيف التوابل إلى أوراق الحلبة الخضراء التي سترافق العدس مع قطعة واحدة من خبز الباكري لكل من أفراد الأسرة الستة الذين ستطعمهم الليلة. غدًا هو عيد الميلاد، وهو ما يعني يوم عطلة ثمينًا بعيدًا عن المصنع. وباعتبارها من الهندوس، لا تحتفل «ساويتا» بهذا العيد. وحين سألتها عما تعتزم القيام به؛ ضحكت بأسى وقالت إنها ستستخدم الوقت الإضافي لتحمل فأسها وتخرج لجَمْع الحطب.

اضف تعليق