في العقود الأخيرة، غيّرت زيادةُ توافر الغذاء الأنظمة الغذائية للكثير من الناس تغييرًا جذريًّا. ففي كل عام، بلايين الأطنان من الحبوب إمّا تُطْعَمُ للماشية، أو تُحوَّل إلى مكونات للأطعمة. واستهلاك البشر لمنتجات اللحوم والدهون والكربوهيدرات المُصنَّعة، الذي يرافقه انخفاض في تخلصهم من الطاقة، ولَّد حِملًا غذائيًّا زائدًا أدَّى إلى زيادة السمنة ...
في العقود الأخيرة، غيّرت زيادةُ توافر الغذاء الأنظمة الغذائية للكثير من الناس تغييرًا جذريًّا. ففي كل عام، بلايين الأطنان من الحبوب إمّا تُطْعَمُ للماشية، أو تُحوَّل إلى مكونات للأطعمة. واستهلاك البشر لمنتجات اللحوم والدهون والكربوهيدرات المُصنَّعة، الذي يرافقه انخفاض في تخلصهم من الطاقة، ولَّد حِملًا غذائيًّا زائدًا أدَّى إلى زيادة السمنة و الإصابة بالأمراض الناتجة عن ذلك في جميع أنحاء العالم. في دوريّة Nature، حدَّد كراوس وزملاؤه الجين NNMT، الذي يُرمِّز لإنزيم نيكوتيناميد إن- ناقل الميثيل NNMT (Nicotinamide N-Methyltransferase)، وهو جين يزداد نشاطه مع ازدياد الحِمل الغذائي، وقد وجد المؤلفون أن الجين NNMT مطلوب لتراكم الدهون.
إنّ تخزين الدهون أمر ضروري لنمو الحيوان والبقاء على قيد الحياة، خصوصًا في الفترات التي تشحُّ فيها المغذيات الكُبرى (البروتين والدهون والكربوهيدرات)، وهو الأمر الذي قاد تقريبًا خمسمئة مليون سنة من تطور الحيوان2، إذ يسمح نظام الإنسولين للحيوانات بتحويل الكربوهيدرات الزائدة إلى دهون - العنصر الأغنى بالطاقة في كتلة جسم الحيوان - ويحدث ذلك جزئيًّا عبر إصدار تعليمات إلى الأنسجة الدهنية لامتصاص الجلوكوز من مجرى الدم.
والقدرة على زيادة كتلة الجسم بالاعتماد على نظام غذائي عالي الدهون هي الصفة التي زادت من فرص بقاء الحيوان عبر مراحل التطور. فقط في ظروف الإفراط المُزمِن في التغذية نجد أن قدرتنا على تحويل السكر إلى دهون، وتخزين الدهون الزائدة، تجعلنا عرضة للمرض، بدلًا من تمكيننا من مقاومة الجوع.
عندما يُحذَف الجين GLUT4 ، الذي يُرمِّز للبروتين الناقل للجلوكوز الحسّاس للإنسولين، من الخلايا الدهنية لفأر، نجد أن الحيوان يُطوِّر مقاومة للإنسولين في عدة أنسجة، ولا يتمكن من امتصاص الجلوكوز من الدم بفعالية3. ولما كان الإنسولين يُحفِّز نشاط البروتين GLUT4، ولما كان GLUT4 ضروريًّا كذلك لحساسية الإنسولين، فإن تغيير دائرة تغذية " GLUT4 الإنسولين" سيكون ذا تأثيرات قوية على عملية الأيض، ويمكن أن يؤدي إلى داء السكري. ومن ثم، يمكن لمكونات دائرة التغذية أن تكون أهدافًا لتطوير عقاقير للتخفيف من آثار الإفراط في التغذية على صحة الإنسان.
وتستخدم الفئران التي تفتقر إلى البروتين GLUT4 كنموذج للبشر المعرَّضين لداء السكري، والفئران التي تُعبِّر عنه بالتخزين المفرط للدهون كنموذج للبشر المقاومين له4. ولتحديد الجزيئات المشاركة في حدوث داء السكري، استخدم كراوس وزملاؤه هذه الحيوانات للعثور على الجينات المُعبَّر عنها أكثر ما يكون عندما يُحذف GLUT4، والمُثبـَّطة عند الإنتاج المُفرِط لـ GLUT4. وكان الجين NNMT هو الجين الأكثر ارتباطًا بشكل عكسي. في الواقع، بيَّنت النتائج5 أن الإنتاج المفرط لـ NNMT مرتبط بمؤشر كتلة الجسم في مجموعة من الأفراد المعرَّضين للإصابة بداء السكري.
ورغم أنه ليس غريبًا أن يكون التعبير عن الجين NNMT نتيجة للإفراط في التغذية المزمن، عوضًا عن أن يكون هو المُتسبِّب في زيادة الوزن، إلّا أن كراوس وزملاءہ وجدوا أن التعبير عن NNMT في الأنسجة الدهنية يرتبط، ليس فقط مع نسبة الدهون في 20 سلالة من الفئران، ولكن أيضًا مع الحساسية الناجمة عن النظام الغذائي والسمنة في 25 سلالة أخرى. وهذه النتائج تؤهل NNMT ليكون الوسيط المحتمل لزيادة الوزن.
طوَّر كراوس وزملاؤه عقارًا لمنع التعبير عن الجين NNMT في سلالة من الفئران مُعرَّضة لزيادة الوزن عندما توضع على نظام غذائي عالي الدهون. وقد خفَّض هذا العقار التعبير عن NNMT في الأنسجة الدهنية وفي الكبد، ولكن ليس في أي موضع آخر بالجسم. ومن المدهش أن الباحثين وجدوا أن الفئران المُعالَجة أصبحت مُقاوِمة للسمنة المفرطة الناتجة عن النظام الغذائي، إلاّ أنه من المهم أن نلاحظ أن الأيض في الفئران أسرع بكثير منه في البشر، وأن التجربة كانت ذات طبيعة وقائية: فقد مَكَّن العلاجُ الفئرانَ الهزيلة من مقاومة زيادة الوزن والحفاظ على حساسية الإنسولين عند وضعها على نظام غذائي عالي الدهون، لكن لم تُفْحَص الفئران التي تعاني من السمنة المفرطة لمدى فقدان الدهون باستخدام هذا العلاج.
إذَن، ما الذي يقوم به الإنزيم NNMT، وكيف يؤدي تثبيطه إلى خفض تخزين الدهون الغذائية في الأنسجة الدهنية؟ لاحظ كراوس وزملاؤه أن الفئران المعالَجة بالعقار، والموضوعة على نظام غذائي عالي الدهون، عند مقارنتها بنظيرتها في مجموعة المقارنة، لم تأكل كميات أقل، أو تتحرك أكثر، أو تنتج المزيد من الحرارة، أو تفرز المزيد من الدهون. وبدلًا من ذلك.. زاد استهلاك هذه الحيوانات للأكسجين، مما يقترح زيادة مستويات أكسدة الدهون (العملية التي من خلالها تُحوَّل الدهون إلى طاقة)، وأنها أظهرت نشاطًا زائدًا في المسارات التي تُضعِف من قدرة الخلايا الدهنية على تخزين الدهون.
يُشارِك الإنزيم NNMT في تنظيم العامل المساعد نيكوتيناميد الأدينين ثنائي النيوكليوتيد (NAD (Nicotinamide Adenine Dinucleotide، وهو جزيء ضروري في التفاعلات التي تحول المغذيات الكبرى إلى طاقة، ويعمل أيضًا كركيزة مُستهلَكة للإنزيمات التي تؤدي عدة وظائف تنظيمية6. فاستهلاك العامل NAD يؤدي إلى إنتاج النيكوتيناميد، وهو الجزيء السابق لإنتاج NAD؛ وهذا يولّد الطلب على إعادة تخليق النيكوتيناميد إلى NAD، وهي العملية التي يُطلق عليها اسم الإنقاذ، فيقوم NNMT بإضافة مجموعة الميثيل إلى النيكوتيناميد؛ مما يمنع حدوث الإنقاذ7. وتأتي مجموعة الميثيل من عامل مساعد آخر، وهو إس-أدينوزين ميثيونين (SAM (S-Adenosine Methionine، والذي يشارك أيضًا في عمليات مختلفة لتنظيم الجينات والتمثيل الغذائي8. وقد وجد الباحثون أن التعبير عن الجين NNMT يميل إلى خفض مستويات العاملَين NAD وSAM في الدهون، مما يبين أن محاور العمليات التي تعتمد على أحد العاملين المساعدين أو كليهما تُعدَّل وظيفيًّا من قِبَل NNMT في الخلايا الدهنية.
ورغم أن عمليات مَيْثَلَة (إضافة مجموعة الميثيل) النيكوتيناميد تَحدُث بوفرة في حالات السمنة المفرطة وترتبط بالتعبير عن الجين NNMT، إلاّ أنه لا يبدو أنها تعمل على تعزيز الوزن وزيادته في حد ذاتها. في الواقع، وجد كراوس وزملاؤه أن في الجرعات العالية تُثبِّط مَيْثَلَة النيكوتيناميد الإنزيم NNMT، عبر عمليات مماثلة لتلك التي يقوم بها العقار المُستهدِف لـNNMT. وقد أظهر الباحثون أن تغيرات الأيض في الفئران المُعالجة بالعقار نشأت من تثبيط NNMT عبر تعزيز التعبير الجيني والأنشطة الإنزيمية المُعْتَمدة على العاملَين NAD وSAM. وذلك لأنه، عن طريق تثبيط NNMT، يكون هناك المزيد من إنقاذ النيكوتيناميد لـNAD، والحفاظ على مستويات العامل SAM. يُنظِّم كلا العاملين حالة الهستونات ـ بروتينات في النواة مسؤولة عن تعبئة وتغليف الكروموسومات وضبط التعبير الجيني ـ وهذا قد يفسر التغييرات في التعبير الجيني التي لاحظها المؤلفون في حالة الفئران المعالجة بالعقار.
في حالة الإنزيم NNMT المُثبَّط في الفأر، تمت أكسدة المزيد من الدهون، وتخزين قدر أقل منها. يؤدي العامل NAD دورين محتملين في هذه العملية. أولًا، أن وجوده ضروري لأكسدة الأحماض الدهنية (التي تحدث في عُضيًة توليد الطاقة، الميتوكوندريا). ففي الأنسجة الدهنية، قد يؤخر سوء إنقاذ NAD هذه العملية بشكل مباشر، مما يجعل المزيد من الدهون متوافرًا للتخزين. ثانيًا، تتم أكسدة الأحماض الدهنية عبر جزيء وسيط، الأسيتيل كو إيه، وتؤدي ظروف التغذية الزائدة إلى تراكم هذا الجزيء الوسيط، بما يؤدي إلى تثبيط إنزيمات الميتوكوندريا، نظرًا إلى نقل مجموعات الأسيستل من الأسيتيل كو إيه إلى الإنزيمات2. ورغم أن هذه التعديلات تجعل الميتوكوندريا بطيئة في عملها، إلا أن البعض جادل2 بأن القدرة على تحقيق أقصى قدر من زيادة الوزن في فترات من الإفراط في التغذية هي سمة مُنْتَخبة عبر التاريخ التطوري للحيوانات. ولما كانت إزالة مجموعات الأسيتيل في الميتوكوندريا تعتمد على العامل NAD، فإن تثبيط NNMT قد يُعيد تفعيل أنشطة إنزيمات الميتوكوندريا من خلال زيادة عمليات إزالة الأسيتيل Deacetylation، ومن ثم تحسين استهلاك الأكسجين.
وعلى الرغم من أن الآثار المُعتَمِدة على العامل NAD من جراء تثبيط الإنزيم NNMT في الميتوكوندريا لا تزال مجهولة إلى حد كبير، إلا أن كراوس وزملاءہ بيّنوا أنه في السيتوبلازم، تسارعت دورة الهدم الأيضي متعدد الأمينات PCC (Polyamine Catabolic Cycle)، التي تعتمد على SAM، بسبب تثبيط NNMT. وهذه الدورة تدفع إلى استهلاك الأكسجين، لأنها تستهلك الأسيتيل كو إيه acetyl-CoA والنيوكليوتيد ثلاثي فوسفات الأدينوزين ATP، ولذا.. تصبح الميتوكورندريا مُطالبَة بأكسدة الوقود؛ لإنتاج المزيد من هذه الجزيئات9،10. لم يكن مُرجحًا أن يتم تحديد المُنشِّط المُحتَمل لدائرة التغذية باستخدام الوسائل التقليدية، لكن يبدو أن تثبيط NNMT قام بالمطلوب.
إنّ إسـهام العمليات المُعتمِـدة على NAD وSAM في عملية الأيض للخلايا الدهنية يتطلب مزيدًا من الأبحاث الكمية. ولا شك أن الإنزيم NNMT، الذي لا تزداد كميته في حالات السمنة المفرطة فحسب بل يُعتبَر ضروريًّا لزيادة الوزن، سيتم اختباره كهدف لانقاص الوزن.
اضف تعليق