q

لعل أهم إشكالية تواجه فهم مصطلح النهضة هي في عملية الدخول إلى قيمة المعنى الذي يمكن له صياغة وإنتاج الثقافة والسياسة والإقتصاد، وهكذا طبعاً بالنسبة للتأريخ وقيم الحضارة والرقي.

والحكم على النجاح أو الفشل في عملية فهم المصطلح يعتمد بالدرجة الأساس على إدراك معطياته، ومايمكن أن يحدثه من تغييرات وتحولات في الخط العام بكل مالها من تداعيات، وكذلك إدراك اشتراطات هذا الفهم، وما عملية الإنقسام حولها اتفاقاً واختلافاً ماهي إلا دليل أكيد على على المأزق الكبير الذي يواجه عملية الفهم. كما أن ارتباط نهضة الإنسان بحريته يحيلنا إلى انشطار الآراء والأفكار حول مفهوم الحرية بين كونها فطرة أصلية وغريزة متجذرة، وبين ما إذا كانت مكتسبة عن طريق الجهد والإشتغال بميادين مختلفة تؤدي إلى كسر القيود وتغيير المسارات الخاطئة.

ومفهوم النهضة - بحسب المعاجم العربية - يشير إلى نوعين من المعنى يكمل أحدهما الآخر، يمثل المعنى الأول الحركة التي تنتج عقب حالة ساكنة، بتعبير آخر هي تحريك الساكن تحريكاً يمثل مفاجأة في سرعته، بينما يكون في المعنى الثاني إصراراً وعزيمة على إتمام الحركة في المعنى الأول بكل قوة وحيوية. أما استخدمات المفهوم بماهو كمفهوم فقد تنقسم لعدة استخدامات، فقد يستخدم في عملية فهرسة تأريخية وتصنيف لأحداث زمنية، ومنها : التأريخ القديم والتأريخ الوسيط وعصر النهضة كما عند العرب في فترة نهاية القرن الثامن عشر. هذه الرؤية مستوردة - كغيرها - من الغرب، وتلقفها المفكرون والمثقفون العرب كما هي وجعلوها أيقونة يقيسون عليها تأريخهم، ومعياراً لتحرك أو ثبات الحقب الزمنية، غير مبالين باختلاف القيم والمتبنيات بين جهتين من الكرة الأرضية.

والمقاربة النهضوية بين الشرق والغرب بهذه الصيغة على أساس الحقبة التأريخية تبدو غير متجانسة، خصوصاً في عملية التحول و الإنتقال من حالة لأخرى كما حدث مثلاً في اوروبا من عصر التسلط الكنيسي وسيطرة النبلاء في فرنسا إلى بناء الدولة التي أنتجت (البرجوازية الجديدة). بينما مثلت التحولات عربياً مجموعة من التساؤلات بين اتجاه يمثل الإصلاح الديني وآخر يمثل تياراً علمانياً، وكانت النقطة المشتركة بين هذين الإتجاهين رغم مساحة التباين الكبير بينهما هي في تبني قيم العلم والتجدد.

وهناك استخدامات أخرى لمفهوم النهضة تتقسم على المجالات الحياتية الأخرى، فنقرأ مثلاً عن عصر النهضة الأدبية والعلمية والصناعية والفكرية وغيرها من المجالات.

المنطق الإسلامي

إذا كانت المشكلة الإجتماعية أس المشاكل بحسب منظري الفكر الإسلامي، فإن عملية فهم النهضة وتلازمها المنطقي مع الحرية يعد الأس الأكبر للمشكلة الإجتماعية. وفي هذا الإطار نعتقد أن النص الإسلامي قدم آليات في التعامل الواقعي مع كينونة الحرية كمعطى فطري وحق إنساني بل هو من أهم الحقوق التي منحها الله تعالى لعبده فيما لو تمت قراءة هذه النصوص قراءة واعية متأملة تبتعد عن الشطحات والتغريب. ولو أردنا إحصاء النصوص الإسلامية المركزة على مبدأ حرية الإنسان فإننا سنحتاج لمجلدات تستوعب الكم الهائل لهذا التركيز من نصوص القرآن الكريم إلى الأحاديث النبوية الشريفة، فضلاً عن الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام وأقوال العلماء والمراجع والمفكرين بهذا الصدد ؛ لذلك سنكتفي بالإستشهاد ببعض النماذج من هذه النصوص:

1/ الحرية في القرآن الكريم: قال الله تعالى " قل ياأهلَ الكتاب تَعالَوا إلى كلمةٍ سواء بيننا وبينكم ألاّ نعبدَ إلاّ اللهَ ولانشرك به شيئاً ولايتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله - آل عمران 64".

في هذه الآية المباركة يؤصل القرآن الكريم حرية الإنسان ويربطها بالفحوى المعمق للعلاقة بين بين الإنسان وخالقه العظيم؛ لأن هذه العلاقة الرائعة تعبد الطريق لعلاقة الإنسان الحر مع الحياة الكريمة التي لاتشوبها شائبة، وهذه من أعلى قيم فهم الحرية التي تنهض بالفرد الإنساني من ركوده المتشظي معرفياً وقيمياً واجتماعياً.

ونجد كذلك في النص القرآني الشريف دعوة للذات الإنسانية لخوض صراع الإنعتاق من القيد الغريزي ومن الشهوات، دعوة لتربية الذات على هجر اللذة المرحلية المؤقتة، ومن ثم ترتبط بالخلود الفردوسي فتكون ذاتاً متحررة من الداخل، ومهيأة لاستلام الجائزة الإلهية الكبرى المتمثلة بالرضوان وهي لاشك أعظم الجوائز، وهذا مايشير إليه قوله تعالى " زُيِّنَ للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب 14 قل أؤنبئكم بخيرٍ من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله واللهُ بصير بالعباد 15 - آل عمران ".

2/ يقول الإمام علي عليه السلام: " لاتكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً "، تمثل هذه الجملة الرائعة أنموذجاً صريحاً في الثورة على كل ماهو استبدادي، وكانت هذه العبارة منطلقاً لكثير من الدول التي تبنت الحرية وإن كانت بنموذج غير إسلامي ؛ والسبب في ذلك هو عمق منطق أمير المؤمنين سلام الله عليه ودقته وبلاغته وتكثيفه للعبارة التي ألهمت بمدلولاتها الآخرين من الأحرار على اختلاف توجهاتهم ومشاربهم، فعلى هذا النص بنت الوثيقة الفرنسية قولها : " الناس يولدون ويظلون أحراراً ومتساوين في الحقوق ".

وفي نطاق الحرية من بعدها التربوي نجده عليه السلام يأخذ بنظر الإعتبار تطور المفاهيم والمراحل الزمنية مخاطباً الآباء بقوله : " لاتفسروا أولادكم على أخلاقكم فإنهم مولودون لغير زمانكم ".

3/ فشل القمع: يقول سماحة المرجع الديني السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) : " لو أن الحكام اليوم يتأملون في تأريخ من قضى من الحكام أمثالهم لأعادوا النظر في تصرفاتهم وأفعالهم مع شعوبهم ولما أقدموا على حرق تأريخهم بأيديهم ".

هذه الرؤية الواقعية تؤكد أن القمع وسيلة مآلها الفشل الذريع، ودوننا امثولة تساقط الطغاة تباعاً في العراق وتونس ومصر وليبيا، وهو مايؤكد أن الوعي بالحرية جذوة لايمكن أن تطفأ، فالعالم اليوم بتعبير السيد الشيرازي عالم حرية وانفتاح واتساع في الوسائل الإتصالية وانحسار كل ماله علاقة بمصادرة الرأي الآخر وقمعه ونفيه كما في التجارب السابقة، والإنفتاح لايمكن أن يكون بصيغته الحقيقية مالم تكن هناك نهضة تتمخض عن حرية بمعنى مكتمل وعدالة تنهل من شمولها.

الحاجة لتأصيل التجاور

عوداً على ما بدأناه في موضوعة ارتباط النهضة بالحرية وتجاور المفهومين، صارت الحاجة ضرورية لتأصيل هذا التجاور عبر الآليات التي تضمن عدم والوقوع في أخطاء الأولين في مقاربتهم غير المنطقية تأريخياً وجغرافياً، آليات لاتتجاوز ممكنات العقل والمعطيات الواقعية، فتكون النهضة ممارسة حية نابضة بكل ماهو متغير ومتجدد، بحيث يضمن الرابط القوي بين بين الحرية الفردية والعقلانية ؛ حتى لانصل إلى مرحلة الإنفلات ومايترتب عليها من تبعات سلبية، من دون هذا التأصيل الذي نتحدث عنه تكون النهضة نتاج حرية مطلقة تصطدم بالآخر فتنتج تفسخاً مفاهيمياً.

وحدها القراءة الواعية لمفاهيمنا الإسلامية القادرة على تحرير الفرد الإنساني من الداخل، وترسم له الأبعاد التي تهدم كل عبودية ماخلا عبوديته وتوحيده لله عز وجل، فتتحول القراءة الواعية إلى سلوكيات عملية لها نتائجها المستقبلية.

اضف تعليق