منذ الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 إلى الان لا زال العراق يعاني من انقسامات داخلية حادة بين مكوناته الرئيسية، ومن تدخلات دول الجوار المستمرة في شؤونه الداخلية، وأدت الانقسامات إلى حرب طائفية وقومية بين هذه المكونات، وأشدها الحرب الطائفية عام 2006-2007 التي كادت تصل إلى حرب أهلية شاملة، في مناطق حزام بغداد وشمال بابل وصلاح الدين الأنبار والموصل، كذلك إلى حافة الحرب بين قوات البيشمركة الكردية والقوات الاتحادية في المناطق المحاذية لإقليم كردستان العراق.
وأخرها دخول عصابات داعش الإرهابية وسيطرتها على أربع محافظات عراقية في حزيران عام 2014، وهي مدعومة من قوى إقليمية وعالمية، إضافة إلى الحواضن المحلية في هذه المدن، فقد سهل الاحتلال الأمريكي للعراق وما قام به من حل القوات العسكرية والأمنية، من ظهور العديد من المجموعات المسلحة في العراق بعضها نشأ من داخل العراق والبعض الأخر جاء وافدا للعراق من دول الجوار، والتي زاد من تدخلها التنافس فيما بينها إلى مراكز النفوذ في العراق.
كذلك إن العملية السياسية في العراق منذ نشأتها الأولى تأسست على أساس طائفي وقومي وديني، فتأسست الأحزاب على هذا الأساس، وأصبح كل حزب أو تكتل سياسي يمثل طيفا واحدا من أطياف الشعب العراقي، وبعضها شكل له قوة عسكرية أو حتى إن بعض الأحزاب كان لها تعاون مع المجموعات المسلحة التي تعمل في العراق، بالإضافة إلى إن هذه الأحزاب السياسية كانت لها أجندات خارجية، ودعم من دول الجوار مما زاد من حدة الانقسام الداخلي والتدخل الإقليمي المباشر وغير المباشر، وهنا تقسم العراق عمليا إلى عدة أجزاء، جزء منه تحت سيطرة تنظيم داعش الإرهابي، والجزء الآخر يعيش في حالة شبه مستقلة ولا يعترف بعراقيته، إلا عندما يتعلق الأمر بالمناصب وحصته من الميزانية، والنصف الثالث يموت أبناؤه دفاعا عن الإنصاف الأخرى من البلاد، وهو يعاني من مساوئ الفساد الاقتصادي والسياسي والهزات الأمنية.
فعلى الرغم من وجود شبه رفض لموضوع تقسيم العراق في الوقت الحاضر، إلا إن هناك عدد من الوقائع تؤشر إن هناك طرق واحتمالات لوضع العراق مستقبلا هو تشكيل الأقاليم، وهناك عدة أسباب لتعزيز هذا الاحتمال، منها:
أولا: على المستوى الداخلي
1- الانقسام الطائفي والقومي الحاد الذي يعيشه العراق منذ عام 2003، على مستوى القيادات السياسية أو على مستوى المجتمع، فقد أصبحت لغة الطائفة والقومية هي السائدة في كل الخطابات، فعند أي أزمة سياسية أو اقتصادية أو عسكرية نرى إن لغة الانفصال هي السائدة، والتهديد بها هو سيد الموقف، وأصبحت تطلق من كل الاطراف دون استثناء، إن ما حدث في العراق بعد الاحتلال الأمريكي 2003، من ويلات واقتتال، ونبذ الآخر، والمحاصصة في الحكم، وفساد مالي واداري، كان كافيا لتثبت إن بقاءنا متوحدين هو ضرب من الخيال وعدم التعامل مع هذه الحقيقة هي مجرد مزايدات سياسية تتكئ عليها القوى السياسية المتنافسة فكيف يمكن وصف وطن موحد و شماله بقوميته الكردية مجرد يحمل مسمى الانتماء لهذا الوطن لمصالح ومنافع على حساب بقية مكوناته، وأجزاء أخرى من الوطن لا تأمن بقية أبناءه السير في شوارعه أو المرور في مدنه، وأخرى تتحمل ويلات الدفاع عن الآخرين وتتحمل كل ويلات الوطن، فماذا بقي من الوطن الواحد يمكن إن نتغنى به وهل نتوقع بعد التجربة السياسية الديمقراطية إن تولد قوة سياسية تلتف حولها كل أطياف الشعب؟.
2- العراق ومنذ تأسيسه عبارة عن تجمع سكاني لمكونات قومية عرقية ودينية ومذهبية في غاية التعقيد، وهذه الحقيقة قد يرفضها الكثير لسبب واحد هو التثقيف القسري الذي فرض على الشعب طيلة عقود والتي لم يجني منها سوى الظلم والتهميش لغالبية السكان، منذ تأسيس الدولة العراقية 1921 إلى الان، والعراقيين مجبرين على التمسك بالوحدة، على حساب حياتهم وكرامتهم ودفع ثمنا باهظا بينما انتعشت بلدان وشعوب أخرى من هذه الشعارات، والداخل العراقي مقسم توحده قسوة وسطوة أنظمة سحقت أجيال منه دون إن تعرف معنى الحياة واليوم وبعد إن زالت سطوة النظام تكشفت حقيقة هذا التجمع السكاني وبدأ الصراع الذي أزهقت معه الأرواح وتبددت الثروات دون إن يكون في الأفق بصيص أمل لصورة مستقبلية افتراضية لما يحدث بأنه مرحلي وممكن إن يزول.
فالكثير من العراقيين إلى قناعة تفيد بأن تعايشهم تحت سيطرة حكومة مركزية قوية أمر غير ممكن، وأن حمايتهم من قبل جيش عراقي مركزي هو الآخر بات مستحيلا، إذ أصبحت سمة عدم ثقة بعضهم بالبعض الآخر امرأ واضحا للعيان، وبالتالي فلم يعد هناك من يرفض إقامة أقاليم جديدة في البلاد، ومهما كانت سمتها: طائفية، قومية، مناطقية، إدارية، جغرافية، فان الإدارة الكردية لم تلتزم بقوانين الحكومة الاتحادية في الكثير من الأمور، وهو وضع لا تشهده أية أنظمة فدرالية في العالم، فلديهم قوة مسلحة إقليمية وهي قوات البيشمركة؛ كما إن سلطة الإقليم أخذت تؤسس لعلاقات خارجية مستقلة عن المركز، وكأنها بذلك تؤسس لعلاقات خارجية لكيان مستقل في المستقبل، إضافة لذلك يتصرف رئيس الإقليم وكأنه رئيس دولة مستقلة وليس رئيس إقليم هو جزء من دولة اتحادية لها رئيس وزراء منتخب ديمقراطيا، وتتصرف سلطات الإقليم بمعزل عن السلطة الاتحادية وبشكل أصبح محزنا ومحرجا للسلطة الاتحادية، وأصبح الإقليم ملاذا للكثير من المطلوبين للعدالة وبخاصة عن تهم بالإرهاب موجهة لبعضهم، وهذا ما يخالف القانون.
ثانيا: على المستوى الإقليمي
ففي الوقت الذي لا تحبذ الدول المجاورة للعراق أن تراه مقسما إلى ثلاث دول خوفا من أن تقسيمه سيكون بداية لفعل الشيء نفسه معها، خاصة وان هناك امتداد سكاني (قومي وديني) للعراق مع هذه الدول، فإن هذه الدول ترفض أيضا أن تراه موحدا خوفا من أن عراقا قويا يعيد دوره العربي الإقليمي الذي كان يتمتع به سابقا، أو يحكم من قبل نظام معاد لها، فالدول العربية وتركيا تخشى من أن يُحكم العراق من قبل نظام سياسي شيعي، وإيران على العكس من ذلك تخشى من أن يُحكم العراق من قبل نظام سياسي سني، ولكن العرب وتركيا وإيران قد يرضون بأن يذهب العراق إلى تشكيل الأقاليم لأن السلطة السياسية فيه سوف تقسم على هذه الأقاليم، ولن تكون هناك سيطرة لمكون على أخر، وبالتالي ستضمن كل الأطراف الإقليمية حصة لها أو نفوذا في العراق قد لا يكون متساويا ولكنه مرض.
ثالثا: على المستوى الدولي
المجتمع الدولي وعلى رأسه أمريكا والذي كان السبب الأول فيما آلت إليه الظروف في المنطقة العربية، وعلى الأخص العراق، لأنه هو من قام بالتغيير في عام 2003، فأزاح نظاما سياسيا مركزيا، في الوقت الذي لم ينجح بأن يأتي بآخر يملأ فراغه، وترك العراق عرضة للتدخلات الإقليمية والدولية، فأمريكا لا زالت تفتقد إلى الرؤية الواضحة حول مستقبل هذه البلاد، ولكنها ومن خلال سلوكياتها وتصريحات البعض من الساسة فيها تعلن مرارا وتكرارا أن المركزية لم تعد تصلح للتطبيق في العراق، وأن البلاد من الممكن أن تصبح مقسمة في لحظة ما، ولكن هذا التقسيم سيتم بشكل تدريجي، بدءا من تشكيل الأقاليم ومن ثم الانتقال إلى المرحلة الأهم ألا وهي إقامة دول مستقلة بعد أن تكون قد استقرت ودبرت أمورها بنفسها لكي تسهل عملية التعامل معها، ولكي تضمن الولايات المتحدة عدم تحولها إلى بيئة رحبة للجماعات المتطرفة والمعادية لها ولحلفائها في المنطقة، فمن تصريحات نائب الرئيس الأمريكي (جو بايدن) الذي دعا فيها إلى تقسيم العراق إلى ثلاث أقاليم تحت حكومة اتحادية واحدة، كذلك دعوة الكونغرس الأمريكي إلى التصويت على قرار تقسيم العراق إلى أقاليم ثلاث، كل هذه تبين النظرة المستقبلية للإدارة الأمريكية تجاه العراق.
فمنحى العملية السياسية والاجتماعية يميل إلى الافتراق أكثر منه إلى الاقتران ولكن الإصرار على وحدة العراق المركزية مقابل الثمن الكبير الذي يدفعه السكان لاتجد له تبرير سوى إننا كنا عراقا واحدا عبر التاريخ، وان قوتنا في بقاءنا موحدين، رغم إن جيل جديد قد تربى من تجربة السنوات الاخيرة التي مضت على رفض قبول الآخر وهذا يجعلنا ندفع ثمن إلى زمن ستؤول الأمور فيها إلى التمزق شئنا أم أبينا، ولكن الإصرار على التمسك بهذه الوحدة دون التفكير بإيجاد حلول ولو بديلة عن حالة التقسيم كالفدرالية كمرحلة أولى يجعل المجتمع يستمر بدفع ثمن الشعارات التي يتمسك بها، وقد نجد الكثير من يرفض هذا الطرح ويعتبره إسناد للأجندات الخارجية التي تسعى إلى تمزيق العراق ووحدة شعبه، وهذا هو احد الأسباب التي يدعو الكثير من السياسيين إلى عدم الخوض في هذا الأمر رغم قناعتهم بالموضوع خشية على مستقبلهم السياسي، فالمقارنة كمصلحة اقتصادية واجتماعية وأمنية بين بقاءنا على هذا الحال وبين فيدرالية أو أقاليم يمكن إن تعطينا الجواب إلى أي حال نلجأ ولنكن صادقين مع أنفسنا بعيدا عن المزايدات الوطنية ونبحث عن مستقبل الناس وأمنهم فحتى العائلة الواحدة تنشطر عندما تطغى المنغصات على حياتهم، فما بالنا ونحن مجتمع عانينا عقود من الزمن ونحن ندفع ثمن بقاءنا على ارض واحدة باسم الوطن الواحد.
هذه المعطيات تجعلنا نطرح السؤال الآتي: هل سيبقى العراق دولة موحدة بعد الانتهاء من داعش الإرهابي؟ أي هل سيبقى دولة قائمة بحدوده الحالية؟ ام سوف يتقسم إلى ثلاث أقاليم؟ أم هناك احتمالات أخرى؟
اضف تعليق