المنافقون يخسرون ثقة الطرفين، أمّا المؤمنون فلأنّهم يشاهدون آثار النفاق فيهم، وأمّا الشياطين فلأنّهم كثيراً ما يشكّكون في حقيقة موقف المنافقين، فإنّ الإنسان اللامبدئي يشكّ فيه الجميع حتى أمثاله؛ إذ ما دام هذا الإنسان ينافق مع الآخرين، فربما ينافق مع زملائه أيضاً، وفي الحديث (من نمّ لك نم عليك)...
الآيتان (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ ِبهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ)(1)
المفردات
(لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا): التقوا بهم واجتمعوا معهم.
(خَلَوْا): اختلوا بهم وانفردوا معهم، والأصل في هذه الكلمة أن توصل بالباء بأن يقال: وإذا خلوا بشياطينهم، لكنّها حيث ضُمنِّت معنى (انصرفوا) عدّيت بـ(إلى) فالمعنى: وإذا انصرفوا (حال كونهم خالين) إلى شياطينهم. وفائدة التضمين أداء الكلمة الواحدة معنى كلمتين(2).
وقيل: إنّ (إلى) بمعنى (الباء).
شياطينهم: رؤسائهم، أو أشباههم من المنافقين الذين يماثلون الشياطين في تمرُّدهم وعتوِّهم وبُعدهم عن الخير والصلاح، والشيطان مشتق من (شطن) إذا بَعُدَ، لبعده عن الخير، أو من (شيط) إذا بَطُل، لكونه بعيداً عن الحقّ، فعلى الأوّل يكون وزنه (فيعال) وعلى الثاني (فعلان).
(مُسْتَهْزِئُونَ): ساخرون، مستخفّون.
(وَيَمُدُّهُمْ): يزيدهم.
(طُغْيَانِهِمْ): الطغيان مجاوزة الحدّ في العتوّ والتمرّد.
(يَعْمَهُونَ): العمه: عمى القلب والتخبُّط على غير هدى. أو هو التحيُّر والتردُّد.
الإعراب
معكم: منصوب على الظرفية متعلِّق بمحذوف هو خبر لـ(أنّ)، وتقديره: أنّا كائنون معكم، أو: أنّا استقررنا معكم.
قال ابن مالك:
وأخبروا بِظَرْفٍ أوْ بِحَرْفِ جَرْ --- ناوينَ معنى (كائنٍ) أو (استَقَرْ)
يعمهون: جملة مركّبة من الفعل والفاعل، في موضع نصب، حال من الضمير المنصوب في قوله تعالى (ويمدهم).
النزول
عن ابن عباس، قال: كان رجال من اليهود إذا لقوا أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) أو بعضهم قالوا: إنّا على دينكم، وإذا خلوا إلى شياطينهم وهم إخوانهم.
قالوا: (إِنَّا مَعَكُمْ) أي على مثل ما أنتم عليه (إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) ساخرون بأصحاب محمد (صلى الله عليه وآله)(3).
وعنه ـ أيضاً ـ أنه قال في الآية: وهم منافقو أهل الكتاب(4).
التفسير
في هاتين الآيتين الكريمتين إشارة إلى أُمور ثلاثة تتعلَّق بالمنافقين:
1 ـ للمنافقين أكثر من وجه وأكثر من لسان
المؤمن ذو وجه واحد وذو لسان واحد، فهو يبطن الإيمان، ويظهر الإيمان وليس له وجهان، ولا لسانان.
أمّا المنافق، فله أكثر من وجه، وأكثر من لسان، يلاقي المؤمنين بوجه، ويلاقي الكفّار بوجه آخر. يتحدّث مع المؤمنين بلغة الإيمان، ويتحدّث مع الكفّار والمنافقين بلغة الكفر، يظهر الخير للمؤمنين ويتآمر في الخفاء لإلحاق الأذى بهم.
(وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا) إذا التقى هؤلاء المنافقون بهم واجتمعوا معهم أخذوا يكذبون وينافقون و(قالوا: آمنّا) أي: أنّنا تركنا معسكر الكفر وانتقلنا إلى معسكر الإيمان، أو إنّنا آمنّا بقلوبنا إيماناً خالصاً لا يشوبه شكٌّ ولا ريب، وصدّقنا بما نزل على النبي (صلى الله عليه وآله) كما صدّقتم أنتم، ولكن عندما يختلون بشياطينهم ويأمنون انكشاف أمرهم يُظهرون كوامن قلوبهم، ويُطَمئنون أُولئك الشياطين بأنّهم معهم وعلى خطاهم ودينهم.
أجل: (قالوا: إنّا معكم).
أي إنّنا ثابتون على خطّكم، ولم نتحوّل منه إلى خطّ الإيمان، كما تقتضيه (الجملة الإسمية) فإنّها تفيد الثبات والاستمرار.. (وقد ذكروا نظير ذلك في قوله تعالى: (قَالُوا سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ)(5) حيث ذكروا أن عدوله (عليه السلام) إلى الجملة الاسمية في الجواب يفيد الثبات والاستمرار..).
ولعلّ التأكيد بـ(إنّ) في هذه الجملة (حيث أنّ كلمة (إنّا) مركبة من (إنّ) المؤكّدة وضمير الجمع (نا)، ثم حذفت النون الثانية، من أجل التخفيف، فصار (إنّا).
نابع من أن المنافقين يخسرون ـ عادة ـ ثقة الطرفين، أمّا المؤمنون فلأنّهم يشاهدون آثار النفاق فيهم، وأمّا الشياطين فلأنّهم كثيراً ما يشكّكون في حقيقة موقف المنافقين، فإنّ الإنسان اللامبدئي يشكّ فيه الجميع حتى أمثاله؛ إذ ما دام هذا الإنسان ينافق مع الآخرين، فربما ينافق مع زملائه أيضاً، ولذا ورد في الحديث الشريف (من نمّ لك نم عليك).
فإن الطبيعة الإنسانية طبيعة واحدة، والانسان إذا خان في مورد فمن السهل عليه أن يخون في مورد آخر، بينما الإنسان الأمين الصادق سوف يكسب ثقة الجميع حتى اعدائه.
لأن طبيعته الأمينة سوف تملي عليه أن يلتزم الأمانة حتى مع اعدائه.
وحيث إن المنافقين يشعرون بذلك ويدركون شكّ شياطينهم بهم؛ لذا يضطرون إلى التأكيد لهم بأنّهم ثابتون على خطّهم ومنهجهم في الحياة.
(قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ) .
2 ـ وجود عناصر ماكرة تحرّكهم من وراء السِّتار
وقد كان وراء المنافقين عناصر ماكرة تحرّكهم من وراء السِّتار، وتخطّط لضرب الإسلام والمسلمين بواسطتهم.
وربما أُطلق على هؤلاء كلمة (الشياطين) لأنّ مجموعة من الصفات تمثّلت فيهم، هي من أبرز صفات الشياطين:
1 ـ فالشيطان يتّصف بصفة (التخطيط الشرير) لتحقيق أهدافه، وهؤلاء كانوا يخطّطون دائماً لضرب الإسلام والمسلمين.
2 ـ والشيطان يتّصف بصفة (التحريك الشرّير) عبر إلقاءاته المستمرة في صدور الناس.
قال الله سبحانه وتعالى: (مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ)(6).
وقال سبحانه: (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ)(7).
وهؤلاء الشياطين كان دأبهم تحريك المنافقين بشكل مستمر لتحقيق أهدافهم اللامشروعة.
3 ـ الشيطان: لا يظهر، وإنّما يختفي وراء الكواليس وينفذ مؤامراته الشرّيرة في الظلام.
يقول سبحانه وتعالى: ( إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ)(8).
وقد اتّصف هؤلاء الشياطين بذلك أيضاً.
مَنْ هم (الشياطين)؟
أمّا تحديد هوية هؤلاء (الشياطين) ففي ذلك أقوال:
القول الأوّل: إنّ المراد بهم (رؤساء المنافقين) فالصغار من المنافقين كانوا (أدوات) بيد الكبار منهم، فكانوا يختلطون بالمؤمنين ويتظاهرون بأنهم منهم، ويحاولون من خلال ذلك تنفيذ مخطّطات (الأسياد) أمّا (الكبار) فكانوا يرون أنفسهم فوق ذلك، فكانوا يقبعون وراء الكواليس ويحرّكون هذه الأدوات في سبيل مطامعهم الشيطانية.
وحيث إنّ هؤلاء الكبار كانوا يخافون على (صغارهم) من الحقّ، ويشكّون في بقاء ولاءاتهم؛ لذا كانوا يحاولون استكشاف حقيقة مواقفهم، وكان الصغار يؤكّدون لهم دائماً بأنّهم معهم ولم ينضووا ـ بجدّ ـ تحت راية الإيمان أبداً.
القول الثاني: إنّ المراد بهم (الكفّار) الذين كانوا قد عقدوا حلفاً مع المنافقين في مواجهة الزحف الإسلامي المتنامي يوماً بعد آخر.
وكان كلا الطرفين يشعر بحاجته إلى الآخر. فالمشركون كانوا بحاجة إلى (طابور خامس) داخل الجسد الإسلامي، ليتجسّس على المسلمين، وينقل إليهم أخبارهم، ويدلّهم على الثغرات الموجودة فيهم، ويثير في المسلمين الخوف والرعب، وينشر فيهم الإشاعات الكاذبة.
والمنافقون كانوا بحاجة إلى مدد خارجي يسندهم، ويمدّهم بالقوّة الماديّة والمعنوية أمام (نور الله) الذي كانوا يحاولون إطفاءه.
وكان هذان الفريقان يلتقيان ـ سرّاً ـ بين حين وآخر ليتدارسو الأُمور، ويرسموا الخطط الهدّامة في مواجهة الإسلام، على ضوء المتغيّرات الجديدة.
القول الثالث: أنهم كُهّانهم، وقد روي ذلك عن الإمام الباقر (عليه السلام)(9).
القول الرابع: إنّ المراد بذلك أشباههم من المنافقين.
القول الخامس: أنهم اليهود الذين أمروهم بالتكذيب.
وكان اليهود يخوضون صراعاً مريراً ضد الإسلام، بسبب أنهم فقدوا الكثير من امتيازاتهم اللامشروعة عند مجيء الإسلام.
ومن هنا فقد كانوا يتآمرون باستمرار للقضاء على هذه الرسالة الجديدة، وقد وجدوا في (المنافقين) خير وسيلة لذلك.
3 ـ المنافقون يستهزئون بالمؤمنين
وحيث إن (رؤية) المنافقين للكون والحياة والإنسان رؤية تجزيئية، تتأطّر بإطار المادة المحدودة، ولا تنفذ إلى أعماق هذا الوجود لتدرك الحقيقة الكاملة ـ كما أوضحنا ذلك في الآية السابقة ـ لذا فقد كان المنافقون «يستهزئون» بالمؤمنين ويسخرون من مواقفهم وأعمالهم في الحياة؛ لأنهم لا يستطيعون فهم حقيقة هذه المواقف، ولا إدراك واقع هذه الأعمال، ورُبَّ عمل حكيم يبدو مثيراً للسخرية إذا جُرد عن ملابساته، وتركزت النظرة عليه بشكل منفرد.
ولا يخفى ما في قولهم (إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) من الحصر أي أنّ قولنا وعملنا هذا مع المؤمنين محصور في إطار (الاستهزاء) لا يتعدّاه إلى غيره، وقد مضى نظيره في قوله تعالى (إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) فراجع.
ويحتمل أن يكون قوله تعالى ـ حكاية عن المنافقين ـ (إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) تأكيداً لقولهم (إنّا معكم) أي أنّ إيماننا ليس إيماناً جاداً، فإن الإنسان قد يقول بالعمل وهو مؤمن به جادّ فيه، وقد يقوم به وهو غير مؤمن به، ولا جاد فيه، بل هو يظهر الموافقة، ويبطن المخالفة، للوصول إلى بعض المصالح والأغراض.
قال في التبيان: «(الاستهزاء): طلب الهزء بإيهام أمر ليس له حقيقة في من يُظَنّ فيه الغفلة، والهزء: ضد الجدّ»(10).
اضف تعليق