يعيشون ضلالاً مزدوجاً: ضلالاً سلوكياً يتمثّل في إفسادهم في الأرض، وإهلاكهم للحرث والنسل، وتفريقهم بين المؤمنين. وضلالاً فكرياً يتمثّل في انقلاب المقاييس عندهم، ورؤية الصالح طالحاً، والطالح صالحاً، والخير شرّاً، والشرّ خيراً. وهذا الضلال المزدوج أسوأ أنواع الضلال؛ إذ لو كان الإنسان يعيش الضلال وهو (يشعر) أنه يعيش...
الآيتان (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ)(1)
المفردات
(لاَ تُفْسِدُوا): الإفساد إخراج الشيء عن حدّ الاعتدال، وتغييره عن سلامة الحال، أو إخراج الشيء عن كونه منتفَعاً به.
(مُصْلِحُونَ): الإصلاح ضدّ الإفساد.
(لاَ يَشْعُرُونَ): الشعور الإحساس بالشيء من جهة تدقّ، أو هو العلم بالشيء إذا حصل عن طريق الحس، أو كان المعلوم بمنزلة ما حصل عن هذا الطريق(2).
الإعراب
(إنّما) مركّبة من (إنّ) و(ما).
و(إنّ) حرف يفيد تأكيد مدلول الجملة التي تليه، وهو ينصب الاسم ويرفع الخبر.
و(ما) كافّة له عن العمل، وهذه الكلمة بمجموعها تفيد الحصر ـ كما هو المتبادر منها(3).
و(إلاّ) حرف يدلُّ على التنبيه ـ قيل: وأصله (لا) دخلت عليه همزة الاستفهام الإنكارية، فأخرجته من معنى النفي إلى معنى التقرير والتحقيق، فإن إنكار النفي تحقيق للإثبات، كقوله تعالى (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا)(4) وكقوله تعالى (أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى)(5).
وذهب بعضٌ إلى أنّها كلمة احدة غير مركّبة.
و(هم) فيه وجهان.
1 ـ أن يكون ضمير فصل بين اسم إنّ (هُمْ) وخبرها (المفسدون) وفائدة ضمير الفصل: التوكيد.
2 ـ أن يكون مبتدأً خبره (المفسدون) ومجموع الجملة المركَّبة من المبتدأ والخبر خبر لـ (إنّ).
التفسير
هاتان الآيتان الكريمتان تشيران إلى صفات ثلاث يتّسم بها المنافقون عادة:
الصفة الأولى: الإفساد في الأرض
ويتّضح ذلك من خلال النقاط التالية:
النقطة الأُولى: إن طبيعة رسالات السماء هي طبيعة (الإصلاح)، فهي تستهدف إصلاح الفكر، وإصلاح القلب، وإصلاح الروح، وإصلاح العمل، وإصلاح الحياة.
والمنافقون حيث يقفون ضدّ رسالات السماء بفكرهم وموقفهم وعملهم، ويؤلّبون الناس عليها، فهم إذاً يقفون ضد عملية (الإصلاح)، وهذا يعني من الناحية العملية أنّهم يقفون موقف (الإفساد) تجاه العملية الإصلاحية.
مثلاً: إذا فرضنا أنّ شخصاً حاول الإصلاح بين زوجين، فوقف أحد ضدّه وهدم المحاولات الإصلاحية التي يقوم بها، فإنّه يصحّ لنا أن نقول: إنه (مفسد) باعتبار أنه أفسد (المحاولة الإصلاحية) التي قام بها الشخص المصلح وأحبطها.
النقطة الثانية: إنّ ذلك باعتبار (مآل) أعمالهم والنتائج التي تتمخَّض عنها هذه الأعمال، فإنّ هؤلاء كانوا يقومون بالتجسُّس على المسلمين، وينقلون أسرارهم إلى الأعداء، ويدلونهم عن مكامن ضعفهم، ويحرّضون عليهم، ويغرونهم بهم، ومن الواضح أنّ مآل ذلك كلّه هو نشوب الفتن، واشتعال الحروب، وسفك الدماء، وهلاك الحرث والنسل، وتحطيم الاقتصاد، وفساد الأخلاق إلى آخر المفاسد الاجتماعية التي تتركها الفتن الإجتماعية والحروب الطاحنة، وبهذا الاعتبار كانوا (مفسدين في الأرض) وقيل لهم: (لا تفسدوا في الأرض)، فإنّ الشيء كما ينسب إلى (المباشر) ينسب إلى (السبب)، وكما ينسب إلى العلل القريبة ينسب إلى العلل البعيدة، فتأمّل.
النقطة الثالثة: إنّ طبيعة النفس البشرية غير المهذبة هي طبيعة (الافساد)، فإنّ نفس الإنسان تميل إلى الظلم والتعدّي وسلب حقوق الآخرين، وهذه الطبيعة لا تعالج إلاّ بالإيمان بالله واليوم الآخر، فإنّه يخلق وازعا داخلياً يمنع الإنسان عن الظلم والجور والتعدّي على حقوق الآخرين.
ومن هنا يقول الشاعر أبو الطيّب المتنبّي:
والظلمُ من شيمِ النُّفوسِ فإنْ تجد --- ذا عِفَّةٍ فَلِعِلَّةٍ لا يَظْلِمُ
أمّا (القانون) و(السوط) و(العصا) و(السجون)، ... و... فهي لا تكفي في الردع ـ كما سبق البحث في ذلك.
والمنافق حيث لا يؤمن ـ حقيقة ـ بالله ولا باليوم الآخر لا يملك هذا (الوازع) فلماذا لا يُفسد؟ عندما يجد المنافق أمامه مالاً يمكنه استلابه، فلماذا لا يسلبه؟ وعندما يزاحمه شخص على طموحاته الشخصية فلماذا لا يقوم بتصفيته؟ و... و... وهكذا يتحوّل المنافق إلى (آلة) للإفساد الإجتماعي في كل مكان، يقول الله تعالى:
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ *وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ)(6).
وإفساد المنافقين ليس إفساداً خفياً، بل هو إفساد جليّ، بحيث يراه الناس ويشعرون بوجوده؛ إذ الإنسان قد يُبتلى بالإفساد لغفلة عارضة، أو زلّة طارئة، ثم يثوب إلى رشده، وفي هذه الحالة قد يخفى ما عمله على الآخرين.
أمّا المنافق فإنّه حيث تلازمه الطبيعة الإفسادية دائماً؛ لذا يكون إفساده إفساداً مستمراً؛ لأنّ علَّة الإفساد عنده علَّة مستمرة، وهكذا يتبيّن للناس أنه شخص مفسد، ويرفعون صوتهم مطالبين إيّاه بالوقوف عن حركة الإفساد: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ) .
تموجَّات الإفساد
وحيث إنّ الإفساد له (تموّجات) اجتماعية، والإفساد يولِّد الإفساد؛ لذا لا تمضي فترة إلاّ ويستشري الفساد في المجتمع وتمتلئ الأرض بالظلم والجور والتعدّي والفساد.
ولعلّ هذا هو المعنيّ بقوله تعالى (فِي الأَرْضِ...).
فكأنّ الفساد لم يختصّ ببقعة جغرافية، أو ببلد معيّن، وإنّما شمل (الأرض) كلّها، وإلاّ لأمكن أن يكتفي في الآية بقوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ). فتأمّل.
معنى آخر لـ (الإفساد)
ثم إنّ هنا رأياً آخر يرى أنّ (الإفساد في الأرض) عبارة عن (مخالفة الشرع) وارتكاب المعاصي مطلقاً، ويندرج ضمن ذلك الأخلاق المذمومة، فإن الأفعال على ثلاثة أنواع:
1 ـ الأفعال الموافقة للشرع.
2 ـ الأفعال الموافقة للموازين الإجتماعية، وإن كانت مخالفة للشرع.
3 ـ الأفعال الموافقة لمعتقدات الشخص، وإن كانت مخالفة للشرع أو المجتمع.
فكل ما خرج عن النوع الأوّل يعتبر إفساداً في الأرض(7).
فإن سألت: المأخوذ في الآية (الإفساد) لا (الفساد) ومخالفة الشرع لا تستلزم (الإفساد) دائما وإن استلزمت (الفساد).
كان الجواب: إنّ كل مخالفة للشرع تسبّب إفساداً إمّا في المجتمع، وإمّا في البدن، وإمّا في الروح، فالمخالفة وإن فرض أنه لا يترتّب عليها إفساد في الخارج، إلاّ أنها تسبّب تلوث الروح، وتدرُّن النفس وكفى بذلك إفساداً.
وعلى هذا يكون المراد بقولهم (إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ): إننّا على طريق الاستقامة والصلاح.
وقد حكي عن بعض المفسِّرين أنه قال في الآية الكريمة: إنهم إذا ركبوا معصية الله قيل لهم: لا تفعلوا هذا، قالوا: (إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) أي إنّما نحن على الهدى(8)، فتأمّل.
الصفة الثانية: التبجُّحات الفارغة
وحيث إنّ المنافق يتّصف بالخواء النفسي، والفراغ الداخلي، ولا يستند إلى (القوّة المطلقة) التي تهيمن على الكون كلّه، وتمدّ الإنسان بالقوّة والطمأنينة، لذا يكون دأبه التبجّح والادّعاء، إنه يريد أن يملأ فراغه النفسي، ويظهر أمام الآخرين بمظهر القويّ، الذي يحبّ الخير، ويضمر الرحمة للجميع، ويسعى في عملية الإصلاح الاجتماعي!
ومن هنا لا يكتفي المنافقون ـ أمام نصائح الناصحين الذين يقولون لهم: (لا تفسدوا في الأرض) ـ لا يكتفون بنفي صفة الإفساد عن أنفسهم، بل يتعدّون ذلك ليقولوا بكل صلافة: (إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) .
وها نحن نرى القوى الكبرى الظالمة على مرّ التاريخ ـ والتي يمثّل سلوكها نوعاً من أنواع النفاق ـ تتبجّح ـ باستمرار ـ بأنّها هي المصلحة، وأنّها هي المدافعة عن المستضعفين، وأنّها هي الضامنة لحريات الشعوب و.. و.. في الوقت الذي تلعب من وراء الستار لإذلال الشعوب، وسلب خيراتها ومصادرة حرّياتها، وإفساد البلاد والعباد.
وقد يقول فريق من هؤلاء المنافقين: (إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) وهم يعتقدون ذلك حقيقة في قرارة أنفسهم؛ لأنّهم يعتبرون: (أنّ الدعوة إفساد، وأنهم بوقوفهم ضدّها يصلحون في الأرض)(9).
أو أنّهم بموقفهم النفاقي يعملون على التقريب بين جبهة الكفر وجبهة الإيمان والصلاح فيما بينهما، كما حكى الله تعالى عنهم ذلك بقوله: (فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقًا)(10) وبذلك يضمنون مصالحهم الشخصية، ويستفيدون من جميع الأطراف في سبيل تأمين هذه المصالح.
ثم لا يخفى أن كلمة (إنّما) في المقام لقصر الذات على الحكم لا لقصر الحكم على الذات، فإنّ القصر قد يأتي لحصر الذات في صفة معينّة كما تقول (إنّما زيد تاجر) في جواب من قال: (إنّ زيداً عالم) وقد يأتي لحصر الصفة في ذات معينّة، كما في قوله تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) أي أنّ صفة الولاية منحصرة في هؤلاء، والمقام من قبيل الأوّل، أي حصر الذات في صفة معينّة، فإنّ المنافقين في صدد نفي صفة الإفساد عن أنفسهم وحصر ذواتهم في إطار (الإصلاح) لا في صدد حصر صفة (الإصلاح) في (أنفسهم).
ومن هنا كان التعبير: (إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) . أي: إنّ ذواتنا وتحركاتنا وأعمالنا محصورة في نطاق الإصلاح. ولم يكن التعبير: (إنّما المصلحون نحن)؛ إذ لم يكن هؤلاء في صدد إثبات انحصار صفة الإصلاح بهم بحيث لا تتعداهم إلى غيرهم، فتدبّر.
الصفة الثالثة: اختلاط المقاييس
إنّ المعرفة الموضوعية للأُمور التي تقع ضمن نطاق (الإحساس) إنّما تتم فيما لو كانت (الحواس) سليمة، ففي هذه الحالة يشاهد الإنسان الأُمور كما هي عليه، ويتطابق (المعلوم بالعرض) مع (المعلوم بالذات) ويتوافق الوجود الذهني مع الوجود العيني.
أمّا عندما تمرض الحواس، فربّما يتخيّل الإنسانُ البعيدَ قريباً، والقريبَ بعيداً، والكبير صغيراً، والصغير كبيراً، والحار بارداً، والبارد حاراً.. و..
وهكذا الأمر في الأُمور التي لا تقع ضمن نطاق (الإحساس)، فإنّ التقييم الموضوعي لهذه الأُمور يتوقّف على سلامة الفكر، واستقامة الروح.
والمنافقون حيث كان (في قلوبهم مرض).
وحيث (زادهم الله مرضاً) وحيث أصبحت قلوبهم منكوسة وعقولهم مدخولة؛ لذا انقلبت عندهم المقاييس واختلطت عليهم الأُمور، فلم يعودوا يميّزون الخير من الشرّ، ولا الإصلاح من الفساد فهم يعملون الشرّ ويظنون أنه هو الخير، ويفسدونن في الأرض وهم يظنون أنّهم مصلحون، ويقفون ضدّ الدعوة الإصلاحية وهم يرون أنهم يحسنون صنعاً، ومن هنا يقول الله تعالى عنهم.
(أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ) إنّهم يعيشون ضلالاً مزدوجاً:
ضلالاً سلوكياً يتمثّل في إفسادهم في الأرض، وإهلاكهم للحرث والنسل، وتفريقهم بين المؤمنين.
وضلالاً فكرياً يتمثّل في انقلاب المقاييس عندهم، ورؤية الصالح طالحاً، والطالح صالحاً، والخير شرّاً، والشرّ خيراً.
وهذا الضلال المزدوج أسوأ أنواع الضلال؛ إذ لو كان الإنسان يعيش الضلال وهو (يشعر) أنه يعيش فيه، فلعلّ ضميره يستيقظ يوماً ما. ليردعه عن الاستمرار في ضلاله، وينهي بذلك مأساة التناقض بين الفكر والسلوك.
أمّا عندما يكون الضلال مزدوجاً، ويستوعب السلوك والفكر معاً، ففي هذه الحالة يكون الاهتداء إلى طريق الله بعيد المنال؛ إذ الفكر المنكوس سيقوم بإضفاء (الشرعية) على كلّ الأعمال الخاطئة التي يقوم بها الشخص المنافق، ويقوم بتبرير كلّ التصرُّفات الضالَّة التي تصدر منه، فمن أين يأتي الهدى، ومن أين يشرق النور؟.
نماذج تاريخية
وقد ذكرنا فيما مضى(11) بعض النماذج عن الضلال المزدوج، وعن الدعاوى الكاذبة التي يتشبّث بها الضالون لتبرير انحرافهم عن خط الله، وعن طريق الهدى والرشاد.
ونشير هنا إلى بعض النماذج الأُخرى:
1 ـ يُذكر أن أحد القادة الأمريكيين وُجّه إليه سؤال حول سبب إلقاء القنبلة الذريّة على مدينتي (هيروشيما) و(ناجازاكي) اليابانيتين، ممّا أدى إلى مقتل مئتي ألف إنسان أو إصابتهم بالعاهات؟
فقال: نحن فعلنا ذلك من أجل السلام! ولو لم نفعل ذلك لطالت الحرب أكثرّ، ولذهب ضحيّتها عدد أكبر من القتلى!(12).
2 ـ عن عمرو بن قيس المشرقي، قال: دخلت على الحسين صلوات الله عليه أنا وابن عمّ لي، وهو في قصر (بني مقاتل) فسلّمنا عليه، فقال له ابن عمي: يا أبا عبد الله هذا الذي أرى خضاب أو شعرك؟
فقال: خضاب، والشيب إلينا بني هاشم يعجل.
ثم أقبل علينا فقال: جئتما لنصرتي؟
فقلت: إني رجل كبير في السن، كثير الدين، كثير العيال، وفي يدي بضائع للناس، ولا أدري ما يكون، وأكره أن أُضيِّع أمانتي!
وقال له ابن عمّي مثل ذلك.
فقال لنا: فانطلقا، فلا تسمعا لي واعية، ولا تريا لي سواداً، فإنّه من سمع واعيتنا أو رأى سوادنا فلم يجبنا ولم يغثنا كان حقّاً على الله عزَّ وجل أن يكبّه على منخريه في النار(13).
3 ـ نقل أنّ عابداً كان في بني إسرائيل وكان من أعبد أهل زمانه، وكان في زمانه ثلاثة إخوة لهم أُخت وكانت بكراً ليس لهم أُخت غيرها. فخرج البعث على ثلاثتهم فلم يدروا عند من يخلّفون أُختهم، ولا من يأمنون عليها، ولا عند من يضعونها. فأجمع رأيهم على أن يخلّفوها عند عابد بني إسرائيل، وكان ثقة في أنفسهم. فأتوه فسألوه أن يخلّفوها عنده فتكون في كنفه وجواره إلى أن يرجعوا من غزاتهم، فأبى ذلك وتعوّذ بالله عزَّ وجلَّ منهم ومن أُختهم، فلم يزالوا به حتى أطاعهم، فقال: أنزلوها في بيت حذاء صومعتي، فأنزلوها في ذلك البيت ثمّ انطلقوا وتركوها تمكث في جوار ذلك العابد زماناً، ينزل إليها بالطعام من صومعته فيضعه عند باب الصومعة، ثمّ يغلق بابه ويصعد إلى صومعته، ثم يأمرها فتخرج من بيتها فتأخذ ما وضع لها من الطعام. فتلطّف له الشيطان فلم يزل يرغّبه في الخير ويعظّم عليه خروج الجارية من بيتها نهاراً، ويخوّفه أن يراها أحد فيُعلَّقُها(14) فلو مشيت بطعامها حتى تضعه على باب بيتها كان أعظم لأجرك! فلم يزل به حتى مشى إليها بطعامها، ووضعه على باب بيتها ولم يكلِّمها، فلبث على هذه الحالة زماناً.
ثم جاءه إبليس فرغّبه في الخير والأجر وحضّه عليه، وقال: لو كنت تمشي إليها بطعامها حتى تضعه في بيتها كان أعظم لأجرك! فلم يزل به حتى مشى إليها بالطعام ثمّ وضعه في بيتها فلبث على ذلك زماناً. ثم جاءه إبليس فرغّبه في الخير وحضّه عليه، فقال: لو كنت تكلِّمها وتحدّثها فتأنس بحديثك فإنّها قد استوحشت وحشة شديدة! فلم يزل به حتى حدّثها زماناً يطلّع إليها من فوق صومعته. ثمّ أتاه إبليس بعد ذلك، فقال: لو كنت تنزل إليها فتقعد على باب صومعتك وتحدّثها وتقعد هي على باب بيتها فتحدِّثك كان آنس لها! فلم يزل به حتّى أنزله وأجلسه على باب صومعته يحدِّثها وتحدِّثه وتخرج الجارية من بيتها حتى تقعد على باب بيتها، فلبثا زماناً يتحدَّثان. ثم جاءه إبليس فرغّبه في الخير والثواب فيما يصنع بها، وقال: لو خرجت من باب صومعتك ثم جلست قريباً من باب بيتها فحدّثتها كان آنس لها، فلم يزل به حتّى فعل، فلبثا زماناً. ثم جاءه إبليس فرغّبه في الخير وفيما له عند الله سبحانه وتعالى من حسن الثواب فيما يصنع بها، وقال له: لو دنوت منها وجلست عند باب بيتها فحدّثتها ولم تخرج من بيتها ففعل، فكان يزل من صومعته فيقف على باب بيتها فيحدِّثها. فلبثا على ذلك حيناً. ثم جاءه إبليس، فقال: لو دخلت البيت معها فحدّثتها ولم تتركها تبرز وجهها لأحد كان أحسن بك، فلم يزل به حتى دخل البيت فجعل يحدِّثها نهارها كلَّه، فإذا مضى النهار صعد إلى صومعته، ثم أتاه إبليس بعد ذلك فلم يزل يزِّينها له حتّى ضرب العابد على فخذها وقبّلها. فلم يزل به إبليس يحسنّها في عينه ويسوّل له حتّى وقع عليها فأحبلها، فولدت له غلاماً، فجاء إبليس فقال: أرأيت إن جاء إخوة الجارية وقد ولدت منك، كيف تصنع لا آمن أن تفتضح أو يفضحوك فاعمد إلى ابنها فاذبحه وادفنه، فإنّها ستكتم ذلك عليك مخافة إخوتها أن يطلّعوا على ما صنعت بها. ففعل، فقال له: أتراها تكتم إخوتها ما صنعت بها وقتلت ابنها، فخذها واذبحها وادفنها مع ابنها: فلم يزل به حتى ذبحها وألقاها في الحفرة مع ابنها وأطبق عليهما صخرة عظيمة وسوى عليهما وصعد إلى صومعته يتعبّد، فيّها فمكث بذلك ما شاء الله أن يمكث حتى أقبل إخوتها من الغزو، فجاؤوا فسألوه عنها فنعاها لهم وترحّم عليها وبكاها، وقال: كانت خير امرأة وهذا قبرها فانظروا إليها، فأتى إخوتها القبر فبكوا اُختهم وترحّموا عليها، فأقاموا على قبرها أيامّاً ثمّ انصرفوا إلى أهاليهم. فلمّا جنّ عليهم الليل وأخذوا مضاجعهم جاءهم الشيطان في النوم على صورة رجل مسافر فبدأ بأكبرهم فسأله عن أُختهم فأخبره بقول العابد وموتها وترحُّمه عليها، وكيف أراهم موضع قبرها فكذّبه الشيطان، وقال: لم يصدقكم أمر أُختكم إنّه قد أحبل أُختكم وولدت منه غلاماً فذبحه وذبحها معه فزعاً منكم، وألقاهما في حفيرة احتفرها خلف باب البيت الذي كانت فيه عن يمين من دخله، فانطلقوا فادخلوا البيت الذي كانت فيه عن يمين من دخله، فإنّكم ستجدونهما ـ كما أخبرتكم ـ هناك جميعاً. وأتى الأوسط في منامه فقال له مثل ذلك، ثم أتى أصغرهم فقال له مثل ذلك فلمّا استيقظ القوم أصبحوا متعجّبين ممّا رأى كلُّ واحد منهم، فأقبل بعضهم على بعض، يقول كلّ واحد منهم: لقد رأيت الليلة عجباً، فأخبر بعضهم بعضاً بما رأى، فقال كبيرهم: هذا حلم ليس بشيء فامضوا بنا ودعوا هذا عنكم، قال أصغرهم: والله لا أمضي حتى آتي إلى هذا المكان فأنظر فيه، فانطلقوا جميعاً حتى أتوا البيت الذي كانت فيه اُختهم ففتحوا الباب وبحثوا الموضع الذي وصف لهم في منامهم، فوجدوا اُختهم وابنها مذبوحين في الحفيرة كما قيل لهم. فسألوا عنها العابد فصدَّق قول ابليس فيما صنع بهما، فاستعدَوا عليه ملكهم فأُنزل من صومعته وقدِّم ليُصلب، فلّما أوثقوه على الخشبة أتاه الشيطان فقال له: قد علمت أني صاحبك الذي فتنتك بالمرأة حتى أحبلتها وذبحتها وابنها، فإن أنت أطعتني اليوم وكفرت بالله الذي خلقك وصورّك خلصت ممّا أنت فيه، فكفر العابد، فلمّا كفر بالله تعالى خلّى الشيطان بينه وبين أصحابه فصلبوه، وفيه نزلت هذه الآية: (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ)(15).
4 ـ قبل نشوب الحرب بين الخوارج والإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) أراد الإمام (عليه السلام) أن يتمّ الحجة عليهم. فتقدم (عليه السلام) وقال: أيها الناس أنا علي بن أبي طالب، فتكلَّموا بما نقمتم عليَّ. قالوا: نقمنا عليك أوّلاً: إنّا قاتلنا بين يديك بالبصرة، فلمّا أظفرك الله بهم أبحتنا ما في عسكرهم ومنعتنا النساء والذرِّية، فكيف حلّ لنا ما في العسكر، ولم يحلّ لنا النساء؟
فقال (عليه السلام): يا هؤلاء، إنّ أهل البصرة قاتلونا بالقتال، فلمّا ظفرتم بهم قسّمتم سلب من قاتلكم، ومنعتكم من النساء والذرِّية، فإن النساء لم يقاتلن، والذرية ولدوا على الفطرة، ولم ينكثوا ولا ذنب لهم، ولقد رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) منّ على المشركين، فلا تعجبوا إن مننت على المسلمين، فلم أسلب نساءهم ولا ذرّيتهم.
قالوا: نقمنا عليك يوم صفّين كونك محوت اسمك من إمرة المؤمنين فإذن لم تكن أميرنا، ولست أميراً لنا!!
قال (عليه السلام) يا هؤلاء: إنّما اقتديت برسول الله (صلى الله عليه وآله) حين صالح سهيل بن عمرو، وقد تقدّمت عنهم في ذلك الوقت.
قالوا: نقمنا عليك أنك قلت للحكمين: انظروا كتاب الله، فإن كنتُ أفضل من معاوية فأثبتاني في الخلافة. فإذا كنت شاكّاً في نفسك، فنحن فيك أشدّ وأعظم شكّاً!
قال (عليه السلام): إنما أردت بذلك النصفة ـ الإنصاف ـ فإنّي لو قلتُ: احكما لي دون معاوية لم يرض ولم يقبل، ولو قال النبي (صلى الله عليه وآله) لنصارى نجران لمّا قدموا عليه: تعالوا نبتهل فأجعل لعنة الله عليكم، لم يرضوا، ولكن أنصفهم من نفسه كما أمره الله فقال: «فنجعل لعنة الله على الكاذبين» فأنصفهم من نفسه، فكذلك فعلت أنا.
قالوا: فإنّا نقمنا عليك أنك حكَّمتَ حَكَماً في حقّ هو لك.
فقال (عليه السلام): إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) حكم سعد بن معاذ في بني قريظة ولو شاء لم يفعل، وأنا اقتديت به، فهل بقي عندكم شيء؟ فسكتوا وصاح جماعة منهم من كل جانب: التوبة التوبة يا أمير المؤمنين.
فأعطاه أمير المؤمنين راية أمان مع أبي أيوب الأنصاري، فناداهم أبو أيوب: من جاء إلى هذه الراية أو خرج من الجماعة فهو آمن.
فرجع منهم ثمانية آلاف، فأمر (عليه السلام) المستأمنين بالاعتزال وبقي أربعة آلاف منهم مستعدّين للقتال، فخطبهم الإمام ووعظهم فلم يرتدعوا، وصاح مناديهم فيهم: دعوا مخاطبة عليّ وأصحابه، وبادروا إلى الجنّة. وصاحوا: الرَّواح إلى الجنة!!.
وتقدّم حرقوص ذو الثديّة، وعبد الله بن وهب، وقالا: ما نريد بقتالنا إيّاك إلاّ وجه الله والدار الآخرة.
فقال (عليه السلام): (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرَينِ أَعْمَالاً *الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا)(16)؟؟
5 ـ عن الإمام العسكري (عليه السلام) عن آبائه، عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: قوله عزَّ وجلّ: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)(17) يقول: أرشدنا الصراط المستقيم، أرشدنا للزوم الطريق المؤدّي إلى محبّتك، والمبلّغ إلى جنّتك من أن نتَّبع أهواءنا فنعطب، أو نأخذ بآرائنا فنهلك، فإنّ من اتّبع هواه واُعجب برأيه كان كرجل سمعتُ غُثاءَ الناس تعظِّمه وتصفه فأحببتُ لقاءه من حيث لا يعرفني؛ لأنظر مقداره ومحلّه، فرأيته في موضع قد أحدق به خلق من غُثاء العامّة فوقفت منتبذاً عنهم مغشياً بلثام أنظر إليه وإليهم، فما زال يراوغهم حتى خالف طريقهم وفارقهم، ولم يقرّ، فتفرقت العوام عنه لحوائجهم، وتبعته أقتفي أثره فلم يلبث أن مرّ بخباز فتغّفله، فأخذ من دكّانه رغيفين مسارقة، فتعجبت منه، ثم قلت في نفسي: لعلّه معاملة، ثم مرّ من بعده بصاحب رمّان فمازال به حتى تغّفله فأخذ من عنده رّمانتين مسارقة، فتعجبتُ منه ثم قلت في نفسي: لعلّه معاملة.
ثم أقول: وما حاجته إذاً إلى المسارقة؟! ثم لم أزل أتّبعه حتى مرّ بمريض فوضع الرغيفين والرّمانتين بين يديه، ومضى وتبعته حتى استقّر في بقعة من صحراء، فقلت له: يا عبد الله لقد سمعت بك وأحببت لقاءك، فلقيتك، لكني رأيت منك ما شغل قلبي، وإنّي سائلك عنه ليزول به شغل قلبي.
قال: ما هو؟ قلتُ: رأيتك مررت بخبّاز وسرقت منه رغيفين، ثم بصاحب الرمّان فسرقت منه رّمانتين، فقال لي: قبل كلّ شيء: حدّثني من أنت؟ قلت: رجل من ولد آدم من أُمّة محمّد (صلى الله عليه وآله)، قال: حدثني ممَّن أنت؟ قلت: رجل من أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال؛ أين بلدك؟ قلت: المدينة قال: لعلك جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب؟ قلت: بلى، قال لي: فما ينفعك شرف أصلك مع جهلك بما شُرفَت به، وتركك علم جدك وأبيك، لأن لا تنكر ما يجب أن يحمد ويمدح فاعله!.
قلت: وما هو؟ قال: القرآن كتاب الله: قلت: وما الذي جهلت؟ قال: قول الله عزَّ وجلَّ (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا)(18) وأنّي لمّا سرقت الرغيفين كانت سيئتّين، ولما سرقت الرّمانتين كانت سيئتين فهذه أربع سيّئات، فلمّا تصدقت بكلّ واحد منها كانت أربعين حسنة، فانتقص من أربعين حسنة أربع سيئات بقي لي ست وثلاثون، قلت: ثكلتك أُمُّك أنت الجاهل بكتاب الله، أما سمعت الله عزَّ وجل يقول (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)(19).
إنّك لمّا سرقتَ الرغيفين كانت سيئتين، ولمّا سرقتَ الرّمانتين كانت سيئتين، ولمّا دفعتهما إلى غير صاحبهما، بغير أمر صاحبهما، كنت إنّما أضفت أربع سيّئات إلى أربع سيّئات، ولم تضف أربعين حسنة إلى أربع سيّئات، فجعل يلاحيني فانصرفتُ وتركته(20).
اضف تعليق