فكما أنّ اختلال عمل الجسد وعدم قيام البدن بوظائفه الطبيعية ينبعث من المرض البدني، كذلك ازدواجية شخصية المنافقين وانحرافهم السلوكي ينبعث من مرض كامن في قلوبهم، ونفسية ملتوية يحملها هؤلاء المنافقون، إنّهم أفراد معقّدون، وهذه العقد النفسية وراء سلوكهم الملتوي هذا. وهذا المرض في ازدياد مستمر فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا...
(وَمِنَ النَّاسِ مََن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) البقرة: 8-10.
ولكن: ما هو السبب الرئيسي للنفاق؟
يجيب القرآن الكريم على ذلك بقوله تعالى: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ).
فكما أنّ اختلال عمل الجسد وعدم قيام البدن بوظائفه الطبيعية ينبعث من المرض البدني، كذلك ازدواجية شخصية المنافقين وانحرافهم السلوكي ينبعث من مرض كامن في قلوبهم، ونفسية ملتوية يحملها هؤلاء المنافقون، إنّهم أفراد معقّدون، وهذه العقد النفسية وراء سلوكهم الملتوي هذا.
ازدياد المرض
وهذا المرض في ازدياد مستمر. (فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا).
فكما أنّ طبيعة الأمراض المادية الزيادة المستمرة إذا تركت وشأنها ولم تعالج ـ وفق معادلات القانون التكويني الذي قرره الله سبحانه في الكون ـ كذلك طبيعة الأمراض الروحية، إنّها سوف تتعمّق عندما تترك وشأنها وفق المعادلات التكوينية التي وضعها الله لشؤون (الروح) فنسبة زيادة المرض إلى الله سبحانه إنّما هو باعتبار أنه هو الذي جعل هذا القانون التكويني.
وهنالك احتمال آخر يتعلّق بمسألة (الكمون والبروز) في النفس الإنسانية.
فالإنسان قد يحمل في داخله (أمراضاً معيّنة) تكوّنت لديه على أثر عوامل شتّى، وهذه الأمراض ستبقى مضغوطة في داخله حتى يوجد (المثير) لها فتشتد عندئذ ويستفحل أمرها، وربما يكون (المثير) بذاته عاملاً حسناً، لكنّ النفس المريضة تتفاعل تفاعلاً سلبياً مع ذلك العامل، فتستفحل عنذئد أمراضها الروحية أكثر فأكثر.
إنّ الرجل السليم يهنأ بالطعام السليم، لكنّ هذا الطعام ذاته ربما يكون وبالاً على المريض.
والسكّريات مادة مفيدة للبدن السوي، إلاّ أنها شيء خطير للمصاب بمرض (السكّري).
وهؤلاء المنافقون كانت نفوسهم مريضة من أساسها، لكنّ مجيء الرسالة ونزول الوحي كان (مثيراً) لهذه الأمراض الكامنة، وعاملاً في استفحال أمرها وبروزها على السطح، في الوقت الذي كان رحمة وشفاءاً للنفوس السليمة.
ومن هنا يقول الله سبحانه: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا)(1).
ويقول سبحانه: (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ)(2).
ويقول سبحانه ـ حكاية عن النبي نوح (عليه السلام): (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَارًا)(3).
ويقول جلَّ وعلا: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلاَ تَفْتِنِّي)(4).
ويقول تعالى: (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْرًا)(5).
ويقول سبحانه: (فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُورًا)(6).
وعلى هذا الاحتمال تكون نسبة زيادة المرض إلى الله سبحانه باعتبار حصولها عند إنزاله تعالى الآيات، وبعثه الرسول (صلى الله عليه وآله) وما تمخّض عن ذلك من تفاعلات، فالسبب القريب لزيادة المرض سوء اختيارهم، والسبب البعيد إرسال الرسول (صلى الله عليه وآله) وإنزال الآيات، والكلّ ينتهي إلى الله تعالى في سلسلة الأسباب.
وهنالك وجه ثالث ذكره البعض وهو أنّ المراد من (فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا) أنَّ الله وكلهم إلى أنفسهم ومنع عنهم لطفه الخاص، وخذلهم، فزادهم بذلك مرضاً إلى مرضهم.
ووجه رابع وهو: أن يُحمل المرض على المرض الجسمي، وذلك أنَّ الإنسان إذا ابتُلي بالحسد والنفاق ومشاهدة ما يكره ودام ذلك به، فربّما سبّب ذلك مرض القلب واختلال عمله الطبيعي، وقد زاد الله سبحانه المنافقين مرضاً بما زاد المسلمين من القوّة وما أمدّهم به من النصرة.
قيل: وحمل اللفظ على هذا الوجه حمل له على حقيقته، فيكون أولى من سائر الوجوه.
لكنّ هذا الوجه خلاف الظاهر؛ إذ الظاهر تجانس المرضين وتوافقهما في النوع، فالأولى حمل المرض الثاني على ما لا يغاير معنى المرض الأوّل، فتأمّل.
وهنالك وجه خامس ذكره بعض المفسّرين وهو: أن يكون ذلك على سبيل الدعاء عليهم، فهو كقوله تعالى: (ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ)(7) إلاّ أن هذا الاحتمال خلاف الظاهر، فتأمّل.
نتيجة النفاق
أمّا نتيجة النفاق فيكشفها القرآن الكريم بقوله: (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ).
وهذا العذاب الأليم كما يشمل الآخرة يشمل الدنيا أيضاً؛ فلأنّهم يكذبون في دعواهم الإيمان بالله وباليوم الآخر، لذا يعيشون في خوف دائم. الخوف من الفضيحة وانكشاف أمرهم أمام الناس.
إنّ الشخص لو كذّب كذبة واحدة يعيش ألماً مستمرّاً خوف انكشاف أمره وافتضاحه أمام المجتمع، فكيف بمن بنى حياته كلَّها على الكذب والدجل والنفّاق؟(8).
هذا مضافاً إلى ما ذكرناه سابقاً من أنّ السعادة في هذه الحياة تترتّب على (واقع) الإيمان، وحيث لم يحمل هؤلاء واقع الإيمان في قلوبهم، خسروا السعادة في هذه الدنيا ـ قبل الآخرة ـ .
وقفات: دوافع حركة النفاق
ما هي منطلقات المنافقين في نفاقهم؟ ولماذا انضموا إلى صفوف الدعوة الجديدة التي لا يؤمنون بها؟ ولماذا حاولوا خداع المؤمنين؟
في الجواب على هذه الأسئلة نقول: إنّ هذه المنطلقات تتمثّل في (الخوف) و(الطمع) و(الأحقاد الدفينة) و(الظروف الطارئة) وتفصيل ذلك يتّضح ضمن النقاط التالية:
1 ـ الحفاظ على المكاسب الشخصية
هنالك فئة من الناس ترتبط مصالحهم بوضع اجتماعي معيّن، وعندما يأتي دين جديد ويعمل على تغيير ذلك الوضع الاجتماعي تتعرّض مصالح تلك الفئة للخطر، فتعلن الحرب على الدين الجديد وتحاول سحقه بكل الوسائل والسبل.
وعندما تفشل في مساعيها هذه ويثبّت الدين الجديد أقدامه في الأرض، ويصبح قوّة يحسب لها ألف حساب، تغيرِّ هذه الفئة ألوانها وتتظاهر بالانضواء تحت لواء الدين الجديد، للحفاظ على القدر الممكن من مصالحها المهدّدة، في الوقت الذي تتآمر ـ بشكل سرّي ـ على الدين الجديد، وتتربص الدوائر لتوجيه الضربة إليه.
ولنقرأ معاً النموذج التالي: يُنقل أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) أردف أُسامة على حماره يعود سعد بن عبادة قبل معركة بدر، فمرّ على مجلس فيه عبد الله بن أُبي قبل إسلامه، ومعه خليط من المسلمين والمشركين واليهود، فلمّا غشيت المجلس عجاجة الدابة خمر ابن أُبي أنفه بردائه وقال: لا تغبّروا علينا! فسلّم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ونزل ودعاهم إلى الله تعالى وقرأ عليهم القرآن، فقال عبد الله مقالة آذى بها رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فلمّا دخل (صلى الله عليه وآله) على سعد بن عبادة، قال: يا سعد، ألم تسمع إلى ما قال أبو الحباب (يريد ابن أ ُبي).
فقال: يا رسول الله اعف عنه واصفح فوالله لقد أعطاك الله الذي أعطاك، ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة(9) أن يعصّبوه بالعصابة(10) فلمّا ردّ الله ذلك بالحقّ الذي أعطاكه شرق(11) بذلك(12).
ويذكر بعض المؤرّخين أنّ عبد الله بن أُبيَ ظلّ مشركاً حتى كتب الله النصر للمسلمين في غزوة بدر، فقال: «هذا أمر قد توجّه» أي ظهر أمره وعلا. فأظهر الدخول في الإسلام مجاراة لأهل المدينة، وللحفاظ على ما تبقّى من زعامته المعرّضة للخطر.
2 ـ الاستفادة من الامتيازات التي يوفّرها الإيمان
وذلك مثل الغنائم الحربية والعطاء من بيت المال، ونحو ذلك.
وهنالك أفراد كانوا قد علموا من اليهود وأمثالهم أنّه سوف يُبعث هنالك نبي في آخر الزمان يصل المؤمنون به إلى مناصب رفيعة، فبادروا إلى الإيمان على أمل الوصول إلى هذا الهدف.
لاحظ الرواية التالية المروية عن سعد بن عبد الله القمّي الذي ابتُلي بأشد النواصب منازعة، وأطولهم مخاصمة، وأكثرهم جدلاً، وأشنعهم سؤالاً، وأثبتهم على الباطل قدماً ـ على حد تعبيره ـ .
وقد سأل الرجل الناصبي ذات يوم عن رجلين منافقين من الصحابة: أنهما أسلما في مكّة طوعاً أو كرهاً؟ يقول سعد: فاحتلتُ لدفع هذه المسألة عنّي، خوفاً من الالزام، وحذراً من إن أقررت لهما بطواعيتهما للإسلام احتجّ بأنّ بدء النفاق ونشوُّه في القلب لا يكون إلاّ عند هبوب روائح القهر والغلبة، وإظهار البأس الشديد في حمل المرء على من ليس ينقاد له قلبه، نحو قول الله عزَّ وجل: (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا).
وإن قلتُ: أسلما كرها كان يقصدني بالطعن؛ إذ لم يكن ثَمَّ سيوف منتضاة كانت تريهم البأس.
يقول سعد: فصدرت عنه مزوّراً قد انتفخت أحشائي من الغضب، وتقطّع كبدي من الكرب.
ويسوق سعد الحديث، إلى أن ينتهي إلى طرح هذا السؤال عن الإمام المنتظر عجّل الله تعالى فرجه، فأجابه (عليه السلام): لِمَ لَمْ تقل له: بل أسلما طمعا، لأنّهما كانا يجالسان اليهود ويستخبرانهم عمّا كانوا يجدون في التوراة وسائر الكتب المتقدّمة الناطقة بالملاحم من حال إلى حال من قصّة محمّد (صلى الله عليه وآله) ومن عواقب أمره، فكانت اليهود تذكر أن محمّداً (صلى الله عليه وآله) يُسلَّط على العرب كما كان بخت نصر سُلِّط على بني إسرائيل، ولا بدّ له من الظفر بالعرب كما ظفر بخت نصر ببني اسرائيل، غير أنه كاذب في دعواه.
فأتيا محمّداً ساعداه على شهادة أن لا إله إلاّ الله، وبايعاه طمعاً في أن ينال كلٌّ منهما من جهته ولاية بلد إذا استقامت أُموره، واستتبّت أحواله، فلمّا أيسا من ذلك تلثّما وصعدا العقبة مع أمثالهما من المنافقين، على أن يقتلوه، فدفع الله كيدهم، وردّهم بغيظهم لم ينالوا خيراً، كما أتى طلحة والزبير علياً (عليه السلام) فبايعاه وطمع كلُّ واحد منهما أن ينال من جهته ولاية بلد، فلمّا أيسا نكثا بيعته وخرجا عليه، فصرع الله كلَّ واحد منهما مصرع أشباههما من الناكثين(13).
ومن هذا الحديث ـ وغيره ـ يظهر أنّ ظاهرة (النفاق) لم تقتصر على (المرحلة المدنية) بل سبقتها في (المرحلة المكيّة) أيضاً، نعم، اتّسعت دائرة (النفاق) في المرحلة المدنية تبعأُ لقوّة الإسلام وبروز المتغيرّات الجديدة في الساحة.
فما ذكره بعض المفسّرين(14) من أنّ ظاهرة النفاق اقتصرت على (المرحلة المدنية) غير صحيح.
وكأنّ هؤلاء تصوروا أنّ (قوّة الدعوة) هي السبب الوحيد لبروز ظاهرة (النفاق) فانتفاء هذا السبب في (المرحلة المكّية) يستلزم انتفاء ظاهرة (النفاق) غافلين عن أن هنالك أسباباً أُخرى وراء الظاهرة، وقد توفّرت تلك الأسباب في (المرحلة المكّية).
قال في (الميزان): «ما القدرة والقوّة المخالفة المهيبة ورجاء الخير بالفعل والاستدرار المعجّل علّة منحصرة للنفاق حتى يُحكم بانتفاء النفاق لانتفائها، فكثيراً ما نجد في المجتمعات رجالاً يتّبعون كلّ داع، ويتجمّعون إلى كل ناعق، ولا يعبؤون بمخالفة القوى المخالفة القاهرة الطاحنة، ويعيشون على خطر مصرّين على ذلك رجاء أن يوفقّوا يوماً لإجراء مرامهم ويتحكمّوا على الناس باستقلالهم بإدارة رحى المجتمع والعلوّ في الأرض، وقد كان النبي (صلى الله عليه وآله) يذكر في دعوته لقومه أن لو آمنوا به واتبّعوه كانوا ملوك الأرض.
فمن الجائز عقلاً أن يكون بعض من آمن به يتّبعه في ظاهر دينه طمعاً في البلوغ بذلك إلى أُمنيته وهي التقدُّم والرئاسة والاستعلاء».
وأيضاً من الممكن أن يكون بعض المسلمين يرتاب في دينه فيرتدّ ويكتم ارتداده كما مرّت الإشارة إليه في قوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا) الآية.. وكما يظهر من لحن مثل قوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ)(15).
3 ـ الأحقاد الدفينة
لقد كان الكثير من الكفّار يحملون أحقاداً دفينة على هذا الدين ولمّا لم يستطيعوا أن يصلوا إلى أغراضهم في القضاء على الإسلام بالحرب العسكرية، تظاهروا بالانضواء تحت لواء هذا الدين للقضاء عليه من الداخل عبر إثارة الفتن والقلاقل بين المسلمين وإغراء بعضهم ببعض، والتجسُّس على المؤمنين، ونقل المعلومات إلى الأعداء، وغير ذلك. لقد غيروا المنهج والاُسلوب، ولكنّ الهدف بقي واحداً في الحالتين.. وهو القضاء على هذا الدين.
ويكفي نموذجاً لذلك قصّة مسجد ضرار التي قال الله تعالى عنها: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ...)(16).
ويذكر التاريخ عن المطرف بن المغيرة بن شعبة، قال: «دخلت مع أبي على معاوية، فكان أبي يأتيه فيتحدّث معه ثم ينصرف إليَّ ويذكر معاوية وعقله ويعجب بما يرى منه؛ إذ جاء ذات ليلة فأمسك عن العشاء ورأيته مغتمّاً، فانتظرته ساعة، وظننت أنه لأمرٍ حدث فينا، فقلت: ما لي أراك مغتمّاً منذ الليلة؟
فقال: يا بُني، جئتُ من عند أكفر الناس وأخبثهم! قلت: وما ذاك؟ قال: قلت له وقد خلوت به: إنّك قد بلغت سنّا يا أمير المؤمنين، فلو أظهرت عدلاً وبسطت خيراً، فقد كبرت، ولو نظرت إلى إخوتك من بني هاشم فوصلت أرحامهم، فوالله ما عندهم اليوم شيء تخافه، وإن ذلك ممّا يبقى لك ذكره وثوابه.
فقال: هيهات هيهات، أيّ ذكر أرجو بقاءه؟ ملك أخو تيم فعدل وفعل ما فعل فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره، إلاّ أن يقول قائل: أبو بكر، ثمّ ملك أخو عدي فاجتهد وشمرّ عشر سنين فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره، إلاّ أن يقول قائل: عمر. وإنّ ابن أبي كبشة [يعني رسول الله صلّى الله عليه وآله] ليُصاح به كل يوم خمس مرّات: أشهد أن محمّداً رسول الله، فأيّ عمل يبقى، وأيُّ ذكر يدوم بعد هذا لا أبا لك، لا والله إلاّ دفنا دفنا!(17).
4 ـ الظروف الطارئة
من الواضح أنّ إيمان الناس ليس بمستوى واحد؛ إذ الإيمان حقيقة تشكيكية ذات مراتب، فبعض المؤمنين يصل إلى مراتب رفيعة من الإيمان، وبعضهم يظلّ في الدرجات الأُولى منه.
أمّا الراسخون في الإيمان فلا تؤثر فيهم الظروف الطارئة، من خوف وفقر وجوع وحرب و..، بل هم كالمسمار المثبت في الأرض، كلّما ازدادت الطرقات على رأسه ازداد رسوخاً وثباتاً... يقول القرآن الكريم: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)(18).
ويقول عمّار بن ياسر: «والله لو هزمونا إلى سعفات هجر لعلمنا أنّنا على الحق وأنهم على الباطل».
ولكن هناك من المؤمنين (مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ)(19) فعندما تطرأ الظروف الاستثنائية يبدأ هؤلاء في التشكيك في دينهم وعقيدتهم، وقد ينتهي بهم الأمر إلى (الردة) ـ إذا تظاهروا بالكفر علنا ـ أو إلى (النفاق) ـ إذا أسرّوا كفرهم في صدورهم ـ.
يقول القرآن الكريم: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا *إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا *هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا *وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا)(20).
هذه بعض العوامل التي يمكن أن تفرز ظاهرة (النفاق) في المجتمع، وهنالك عوامل أُخرى قد تظهر بالتدُّبر، فتأمّل.
اضف تعليق