إيران اليوم في لحظة تقليب خيارات حرجة، وهي تعلم أن كفّتي الحرب والسلام ليستا متوازنتين. الخطأ في تقدير المخاطر قد يؤدي إلى الانزلاق في أوهام قاتلة أو مراهنات خاسرة، كما أن سوء تقدير المخاطر في استراتيجية وحدة الساحات قد تمخّض سابقًا عن خسارة استراتيجية كبرى...
من جديد، عادت العاصمة العُمانية مسقط إلى واجهة الاهتمام السياسي والإعلامي، بعدما اختيرت ميدانًا للتفاوض الجديد بين الجمهورية الإسلامية والولايات المتحدة الأمريكية. البيئة الجيوسياسية لمفاوضات عام 2025 تختلف عن سابقاتها، رغم ثبات الوسيط العُماني المعروف بوثاقته وصبره وحكمته.
الولايات المتحدة في العهدة الثانية للرئيس دونالد ترامب تبدو مستعجلة ومتحمسة لإنجاز صفقة شاملة مع إيران، تحقق هدفًا محوريًا يتمثل في منع طهران من التحول إلى دولة نووية، وتجريدها من القدرة على صنع سلاح نووي خلال فترة قصيرة إذا قررت ذلك.
إدارة ترامب تسعى للحصول على تنازل كبير من إيران في المجال النووي، يقود إلى إنجاز دبلوماسي وهدف استراتيجي يخدم الأمن القومي الأمريكي، ويمنع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من التورط في هجوم عسكري قد يجر الولايات المتحدة إلى مواجهة لا ترغب بها. يحاول ترامب أن يسجل نصرًا سياسيًا جديدًا، من خلال دفع طهران إلى الاستجابة لضغوطه القصوى والموافقة على اتفاق نووي جديد، يختلف نوعيًا عن الاتفاق الذي أبرمه الرئيس الديمقراطي الأسبق باراك أوباما، والذي ألغاه ترامب في 2018 بدعوى ضعفه وعدم تلبيته لمصالح الأمن القومي الأمريكي.
ترى الإدارة الأمريكية أن انتزاع اتفاق جديد من طهران، يتضمن تغييرات جوهرية، سيسهم في كبح خطط نتنياهو لتدمير البرنامج النووي الإيراني، ويقلل من احتمالات اندلاع أزمة جديدة في منطقة الشرق الأوسط، المنطقة التي يريد ترامب تقليص انشغاله بها ليتفرغ لمعركة النفوذ الكبرى مع الصين. الوصول إلى اتفاق نووي جديد بات مصلحة أمريكية - إسرائيلية - أوروبية - شرق أوسطية (عربية تحديدًا)، فالجميع يشعر بالخوف والقلق من إيران نووية، أو حتى على أعتاب امتلاك السلاح النووي. فإذا قررت طهران التحول من استراتيجية الاقتراب إلى العتبة النووية إلى تصنيع السلاح لأغراض دفاعية، سيكون العالم أمام تحدٍ خطير يتمثل في سباق تسلح نووي جديد، تعارضه بشدة معظم دول المنطقة، فضلًا عن الغرب والشرق.
طهران ما زالت تؤكد عدم نيتها تصنيع الأسلحة النووية، مستندة إلى فتوى دينية، لكنها ترفض التخلي عن حقها المشروع في تخصيب اليورانيوم. ومع ذلك، يدرك الجميع أن استمرار التخصيب بنسبة تفوق 60 بالمئة يعني أن إيران باتت قاب قوسين أو أدنى من دخول النادي النووي. ترسل طهران رسائل ضمنية، فقد صرّح المستشار علي لاريجاني بأن إيران قد تغير استراتيجيتها إذا تعرضت لهجوم عسكري، وقد تبدأ التفكير في خيار نووي دفاعي. بينما هدد علي شمخاني بنقل اليورانيوم المخصب إلى أماكن غير معروفة للمفتشين الدوليين، وقد تلوّح طهران بالانسحاب من معاهدة حظر الانتشار النووي إذا استمرت التهديدات ضدها. على لسان نوابها في البرلمان، تدعو القوى الأصولية في إيران إلى الشروع بصناعة القنبلة النووية، كخيار دفاعي مقابل التهديدات الأمريكية والإسرائيلية المتصاعدة. ولكن، ما حاجة إيران الحقيقية إلى المفاوضات؟ ولماذا ترفض التفاوض المباشر وتصر على غير المباشر، كما أراد المرشد الأعلى السيد علي خامنئي؟
إيران بحاجة ماسّة إلى حل سلمي لأزمتها النووية، يجنّبها ضربة عسكرية مدمّرة كما يهدد ترامب وركائز إدارته من الصقور (روبيو، وولتز، هيغست). لكنها، في الوقت ذاته، لا تريد أن تبدو وكأنها خضعت للضغوط وتنازلت عن كرامتها الوطنية. تدرك طهران أن سياسة العقوبات والضغوط القصوى ستدمّر البلاد ببطء، خاصة بعد تعهد واشنطن بمنعها من الحصول على إيرادات دولارية من بيع النفط والغاز وصادرات الفولاذ والمعادن والبتروكيمياويات. تشعر إيران بثقل الحصار، مع انهيار عملتها الوطنية، وتراجع مستوى المعيشة، وارتفاع معدلات البطالة، وتفشي الفقر والسخط الاجتماعي. وهي عوامل كافية لقلق صانع القرار الإيراني، إذ تشكّل وصفة خطيرة لاندلاع احتجاجات قد تتحول إلى حركات تغيير سياسي، يصعب التصدي لها سوى من قبل الكتلة الصلبة المؤمنة بالنظام وأهدافه الثورية.
المشكلة لا تقتصر على الملف النووي، الذي قد تحرسه مشاعر وطنية وإرث ثوري. فالغرب عمومًا، والولايات المتحدة تحديدًا، يريدون إعادة هندسة السلوك السياسي والأمني الإيراني، وتعديل سياساتها الإقليمية.
الغرب يطالب بالتفاوض حول الصواريخ الباليستية الإيرانية، و"أذرعها" الخارجية، أي ما يُسمى بالسلوك المزعزع للاستقرار في المنطقة. أمريكا وإسرائيل لا تريدان لإيران أن تبقى لاعبًا إقليميًا نشطًا ومؤثرًا، بل يريدانها دولة منكمشة، تضع سياساتها الدفاعية داخل حدودها، لا في ساحات خارجية قريبة من خصومها. إيران ترفض إدراج هذه الملفات في المفاوضات، وتصر على حصر التفاوض في البرنامج النووي فقط، وترى أن التفاوض على الصواريخ والوكلاء في هذه المرحلة يحرجها ويُفقدها الكثير دون مكاسب مقابلة. التفاوض المباشر وفق أجندة متعددة كما تطالب إدارة ترامب، يحمل مخاطر كبيرة، خاصة في ظل ضعف موقف إيران مقارنة بما كانت عليه في الفترة 2013-2015، حيث تمكّنت من تحقيق اتفاق نووي لصالحها، قبل أن يلغيه ترامب.
اليوم، لا تمتلك إيران الكثير من أوراق القوة، التي تخولها الدخول في مفاوضات مباشرة، لذلك تصر على المفاوضات غير المباشرة وبجدول أعمال محدد، وتختبر جدية واشنطن التي ردت بإرسال رجل الحلول الوسط، رجل الأعمال ستيف ويتكوف، للتفاوض مع عباس عراقجي، أحد أبرز المفاوضين الإيرانيين سابقًا مع إدارة بايدن.
الخوف كل الخوف أن لا تؤدي المفاوضات إلى بناء ثقة متبادلة، أو تمهيد طريق آمن نحو اتفاق مُرضٍ للطرفين. الإيرانيون يقترحون اتفاقًا نوويًا مؤقتًا يلبّي مهلة الشهرين التي حدّدها ترامب، بينما يريدون من جهة أخرى اتفاقًا شاملًا يرفع عن كاهلهم العقوبات، وهو اتفاق يتطلب شهورًا وربما سنوات من التفاوض.
طهران تدرك أن خياراتها محدودة، وأن التهديدات تحاصرها، لكنها في ذات الوقت لا تريد أن تتخذ قرارًا موجعًا يبدو وكأنه تجرّع للسم، لأنه قد يطيح بمعادلة “الثورة - الدولة” التي حكمت إيران منذ انتصار ثورتها، وأبقتها في خصومة دائمة مع النظامين الإقليمي والدولي. إيران اليوم في لحظة تقليب خيارات حرجة، وهي تعلم أن كفّتي الحرب والسلام ليستا متوازنتين. الخطأ في تقدير المخاطر قد يؤدي إلى الانزلاق في أوهام قاتلة أو مراهنات خاسرة، كما أن سوء تقدير المخاطر في استراتيجية “وحدة الساحات” قد تمخّض سابقًا عن خسارة استراتيجية كبرى.
اضف تعليق