رأس المال الحقيقي هو العمر، والذي يقف أمام فقدان العمر بقوة هو العمل حيث يستطيع أن يعطي للعمر قيمة، لأن قيمة عمر الإنسان يُقاس بقيمة العمل الذي يُنجزه في حياته، فيمكن أن يمرض الإنسان فهو قابل للمرض والمرض يحبس الإنسان عن أداء أعماله، لذلك عليه العمل في أي وقت...
فَاعْمَلُوا وَالْعَمَلُ يُرْفَعُ وَالتَّوْبَةُ تَنْفَعُ وَالدُّعَاءُ يُسْمَعُ
في مقالنا هذا نستكمل البحث في مفهوم العمل وفق نهج الامام علي أمير المؤمنين (عليه السلام)، وكيفية تطبيق هذا المنهج تطبيقا عمليا. وقد كنّا في مقالات سابقة قد تطرقنا إلى العمل ومفهومه وكيفيته وأخلاقياته، وما يجب على المسلم أن يعمل به، ثم عرّفنا أنواع العمل وأوضحنا التباين بين العمل الصالح والطالح.
في هذا المقال سوف نبحث في ماهيّة العناصر المرتبطة بالعمل، والتي تؤدي إلى تطوره، فما هي هذه العناصر؟
أولا: عنصر الذكاء
إن منهج الغدير منهج لبناء الحياة الصالحة، وتأسيس العمل الصالح، انطلاقا إلى وجود اجتماعي ومجتمعي قوي، يعيشه الإنسان بسلام وإيمان وعقيدة وصلاح، وصولا من الدنيا القصيرة إلى الآخرة المديدة، وهذا هو جوهر منهج الامام علي (عليه السلام)، فالدنيا زائلة وقصيرة، والإنسان الذي يتصور أن الدنيا طويلة ومديدة فهو خاطئ، وهذا هو التفكير الذي يجعل الإنسان يتخلف وينكسر في الحياة.
فأراد (عليه السلام) أن ينبّه وقد نبّه كثيرا إلى هذه القضية، وإلى هذه الكارثة والمأساة التي يعيشها الإنسان في حياته، وهو يعتبر الدنيا جوهرا ومحورا وغاية وهدفا، فالعمل ثم العمل ثم العمل، والمقصود هنا العمل الصالح، والعمل الجيد، والعمل المستمر، والعمل هو الذي يؤدي بالإنسان للارتقاء والوصول إلى الآخرة.
إن الإنسان الذي يفهم ما هي الدنيا وما هي الآخرة، ويعمل على ضوء هذا الفهم، فهو إنسان ذكي، وهو ينتمي إلى أمة ذكية، ومجتمع ذكي، وذلك ما قاله (عليه السلام) في الكلام الذي ذكرناه سابقا: (أَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ وَهَفْوَةٍ عَنِ الْعَمَلِ وَغَبَاوَةٍ مِنَ الْأُمَمِ)، لأن الكسل وحب الدنيا والحرص عليها، يؤدي إلى الغباء حيث ينسلخ الإنسان عن غاياته الأساسية، ويبتعد عن الجوهر الذي لابد أن يلمسه، وأن يمارسه.
فمن أهم عناصر الأمة الذكية هي أن تكون عاملة عملا جيدا ومجتهدا، حتى تصل إلى قدرتها على النمو وترتقي بصورة صحيحة. هذا هو العنصر الأول من عناصر نهضة الأمم، وهو أن العمل يؤدي إلى الذكاء، وأن الكسل يؤدي إلى الغباء.
ثانيا: عنصر القوة
من عناصر العمل الصالح والجيد، القوة، حيث يعطي العمل قوة للمجتمع وقوة للإنسان فينمو نموّا جيدا، وهذا من عوامل تقدم الأمم، وقد ذكرنا سابقا كلامه (عليه السلام): (من يعمل يزدد قوة، من يقصر في العمل يزدد فترة) بمعنى يزدد فتورا وضعفا، وقد تطرقنا إلى القوة الاقتصادية للأمم العاملة، وأن رأس المال الحقيقي لا يُقاس بالأموال، وليس بالموارد الطبيعية، وإنما يُقاس بالرأسمال البشري، أي كم هناك من أناس يعملون بمهارة وتفكّر وتعقّل، فكلما ازدادت المهارات الفكرية والعلمية والحرفية عند المجتمع ازداد تقدما، وهذا يسمى بالرأسمال البشري والمعرفي.
يقول الإمام علي (عليه السلام): (مَنِ اسْتَبَدَّ بِرَأْيِهِ هَلَكَ، وَمَنْ شَاوَرَ الرِّجَالَ شَارَكَهَا فِي عُقُولِهَا)، فجمع العقول والمهارات والكفاءات، يؤدي إلى عملية بناء قوة عمل كبيرة، فقوة الأمة تنبع من قوة العمل، والعمل يعطي للأمة قوة هائلة.
ثالثا: عنصر الارتقاء
العمل هو طريق للارتقاء والتسامي، للوصول إلى الغايات الكبرى، ففي داخل الإنسان توجد طاقة هائلة، وكلما استثمر هذا الانسان تلك الطاقات الموجودة في نفسه، في باطنه، في فكره، في عقله، في روحه واستثمرها استثمارا جيدا، فإنه يرتقي ارتقاءً كبيرا.
توجد في داخل الإنسان كنوز هائلة، ولذلك كلّما عمل الإنسان أكثر، استطاع أن يُخرِج وأن يستفز الطاقات الكامنة في داخله، فبالعمل يستفز الإنسان الطاقات الكامنة في داخله، وبالعمل يرتقي الإنسان.
وعن الإمام علي (عليه السلام): (فَاعْمَلُوا وَالْعَمَلُ يُرْفَعُ وَالتَّوْبَةُ تَنْفَعُ وَالدُّعَاءُ يُسْمَعُ وَالْحَالُ هَادِئَةٌ وَالْأَقْلَامُ جَارِيَةٌ وَبَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ عُمُراً نَاكِساً أَوْ مَرَضاً حَابِساً أَوْ مَوْتاً خَالِساً)، إن طاقات الإنسان تموت بسبب الكسل والتراخي، والآمال الزائفة، فعندما يكون الإنسان كسولا ومتراخيا يكون معتمدا ومتّكلا عليهم، وينتظر الآخرين أن يوفروا له الفرصة ولا يعمل بنفسه، ويحاول أن يبرر كسله لنفسه بالأماني الزائفة، والتصوّرات الوهمية.
استفزاز الطاقات الكامنة في الإنسان
لكنه إذا عمل واجتهد ودأبَ وتحرك حركة جيدة، عندئذ سوف تتحرك طاقاته الداخلية وتظهر، ولا يصح أن ننتظر ظهورها دون أن نتحرك ونبادر بالعمل، كيف تخرج هذه الطاقات إذا لم يتحرك الإنسان، فالعمل يعطي الإنسان قوة في التفكير وفي الابتكار والإبداع، وقدرة في إيجاد الحلول، لذلك فإن العمل يرفع من قدرات الإنسان ومهاراته ويعطيه التجارب ويستطيع في هذه الحالة أن يلمس الأشياء المختلفة.
لا يمكن للإنسان أن يستكشف الأشياء دون أن يعمل، ولا يمكن أن يتقدم في عمله ومهاراته، فالمهندس الذي يشرف على بناء بيت فهو يدرس الهندسة في الجامعة علميا، لكنه يبقى لا يعرف طاقاته الداخلية وابتكاره وإبداعه في عملية التصميم الهندسي قبل أن يعمل، لابد له أن يجرب العمل فيشرف على بناء البيت الأول والثاني والثالث وهكذا، حتى يرتقي وتتطور مهاراته من خلال العمل المستمر والمستقيم.
أما إذا بقي الإنسان روتينيا تقليديا في حياته، وظلّ يسير على الطريقة العادية لعمله الموجود، ويترك عملية تنمية وتطوير العمل فإنه لا ينجح، لأن العمل لن يتقدَّم لوحده، فينطبق عليه الحديث (من استوى يوماه فهو مغبون)، إذّا لابد للإنسان أن يعمل عملا متقدما، وفي كل يوم يصعد درجة في عمله، سواء كان صعودا معنويا أو صعودا مادّيا، فيطور عمله لكي يستطيع أن يتطور أكثر في أفكاره وفي تعقلّه.
(والعمل يرفع)، لأن الله سبحانه وتعالى ينظر إلى الإنسان الذي يعمل، (أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم)، وهذه قاعدة أو سنة كونية في الحياة، فيرتقي الإنسان ويحصل على الثواب.
التوبة والارتقاء
(والتوبة تنفعُ) لأن الإنسان يستدرك أخطاءه، فعندما يعمل الإنسان يُخطئ، ويُذنب، فالعمل بالنتيجة يحتاج إلى مكمل معه وهو التوبة وهي تعني تصحيح الأخطاء والذنوب.
لأن الإنسان الذي يعمل ولا يصحح أخطاءه ولا يتوب، فإن عمله يكون فاشلا، ويكون فاقدا للارتقاء والتقدم في الحياة، فالتوبة تنفع الإنسان وهذه قاعدة أو سنّة كونية في الحياة، والتوبة ترفع مقام الإنسان في الحياة، وترفع روحه وإمكانياته في الحياة، لذلك فإن التوبة تنفع الإنسان.
فلسفة التوفيق
(والدعاء يُسمَع) فالدعاء يُسمَع من الله سبحانه وتعالى عندما يرى هذا الإنسان عاملا، ويراه تائبا، وبالنتيجة هذا هو معنى التوفيق، فالتوفيق لا يتحقق بمجرد أن يطلبه الإنسان، وإنما هناك مقدمات يجب أن تسبق طلبه، ومنها العمل والتوبة، فعندما يعمل الإنسان ويدعو الله فإنه سبحانه سوف يعطيه.
مثال على ذلك هناك مدير عنده موظف، وقد لاحظ المدير أن هذا الموظف جيد وجدّي ودائما يقدم النتائج الجيدة في عمله، فإذا ذهب هذا الموظف إلى المدير وطلب منه حاجة معينة، فإن المدير إذا كان منصفا وذكيا فسوف يعطيه حاجته، لأنه يعرف بأن هذا الموظف قدير ويستحق التقدير والثناء والثواب، هذا هو واقع الحال فيما يخص العمل والتوبة التي تعطي للإنسان قوة هائلة في عملية الارتقاء والتقدم.
عندما يعيش الإنسان في عمل جيد، وفي مراجعة ومحاسبة دائمة لنفسه، ويكون في توفيق من الله سبحانه وتعالى فإنه يعيش الاستقرار، والهدوء والاطمئنان النفسي في حياته، فلا يكدّره شيء لأنه هو الذي اختار هذا العمل بنفسه، لذلك يتحقق الاستقرار من خلال العمل ويتم في كل النواحي المادية والنفسية والأخلاقية.
العمل وتصحيح المشكلات
أما الإنسان الذي لا يعمل فهو بشكل عام ينحرف، لذلك يُقال إن الإنسان الذي يعاني من مشاكل ومنها المشاكل النفسية، فإنه يتّجه للعمل ويغوص فيه لكي يخفف من مشاكله.
إن الإنسان الذي لا يعمل يصبح بالنتيجة في حالة سلبية، أما العمل فإنه يؤدي كما ذكرنا إلى الحالة الإيجابية لدى الإنسان، بينما البطالة تكون عكس ذلك، والحالة السلبية تؤدي به إلى الضجر والملل، وهذه تؤدي به حتى إلى الفسوق والفجور، فيضمحل الإنسان في ذاته نتيجة لذلك، فأهم نقطة في قضية بناء الأمة وقوتها أن تذهب هذه الأمة بقوة وشدة نحو ترسيخ ثقافة العمل في المجتمع، وهذا بمثابة علاج لكل المشكلات الاجتماعية.
لا ثواب بلا عمل ولا عمل بلا ثواب
ونقصد بالعمل، هو العمل الحقيقي المنتِج، فالإنسان عندما يُنتج فهو يشعر بهويته في الحياة، ويشعر بوجوده في الحياة، وعندما لا ينتج يشعر بأنه لا قيمة له في الحياة، لذلك يقول الإمام علي (عليه السلام): (الحال هادئة) مستقرة (والأقلام جارية) بمعنى هناك من يكتب للتاريخ باستمرار، وكتابة للمجتمع وللثواب، فهناك تأسيس لعملية الثواب في العمل، فلا ثواب بلا عمل ولا عمل بلا ثواب.
فيُسجَل للإنسان وللمجتمع، ويُدوَّن لهذه الأمة بأنها تنتج وتتقدم وتعطي من خلال العمل المغروس في داخلها، كالإنسان الذي يمتلك أرضا واسعة فيزرعها بالأشجار والفواكه والنباتات الأخرى، فتكون مثمرة، وعندما يأتي وقت الحصاد وجني الثمار فإنه سوف يربح، أما الذي لديه أرض كبيرة ولا يعمل كونه متكاسلا ولا يزرعها ولا يرويها ماء عذبا طيبا لكي تنمو، كما ذكرنا في الحديث سابقا إن العمل كالنبات يحتاج إلى ماء.
لذلك فإن هذا الإنسان عندما يحين وقت الحصاد، فإن الذي زرع نباتا طيبا يحصد ما زرعه، والذي لم يزرع ولم يُسقِ لا يحصدُ إلا الهباء، وهذه هي سنة الحياة.
العمر يتآكل والعمل ينمو
(عمرا ناكسا) فالعمر ينتكس بمعنى يرجع إلى الوراء، فكلما يمر يوم يتقدم الإنسان في العمر، وحين تمر عشرون سنة من عمر الإنسان فإنه يشعر كأنها يوم أو يومان، فالعمر يتآكل لكن العمل ينمو.
إن المعادلة الموجودة بالحياة في رؤية الإمام علي (عليه السلام) مهمة جدا، وهذه المعادلة تكون بين العمر والعمل، فالعمر ينتكس ويتضاءل والعمل ينمو ويكبر، هذه المعادلة المتناقضة إذا فهمها الإنسان في حياته فهو ناجح، وإذا لم يفهمها في الحياة فهو خاسر، وهذا هو جوهر كلمات الإمام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة وفي كتبه الأخرى.
فالإمام (عليه السلام) يتكلم عن هذه المعادلة، لأن مشكلة الإنسان غافل ويعيش سكرة الدنيا بلذّاته وحرصه على الدنيا والمال، فلا يعرف أو لا ينتبه لهذه المعادلة، وعندما ينتهي العمر سوف يعرف الإنسان ماذا حصد من الزرع الذي أنبته في حياته، الجواب لا شيء، لأنه لم يستثمر عمره.
إن رأس المال الحقيقي كما يقول الإمام علي (عليه السلام) هو العمر، والذي يقف أمام فقدان العمر بقوة هو العمل حيث يستطيع أن يعطي للعمر قيمة، لأن قيمة عمر الإنسان يُقاس بقيمة العمل الذي يُنجزه في حياته، فيمكن أن يمرض الإنسان فهو قابل للمرض والمرض يحبس الإنسان عن أداء أعماله، لذلك عليه العمل في أي وقت كان ولا ينتظر وقتا معينا.
العمل في مواجهة الموت
(أو موتا خالسا) هذه العبارة لطيفة جدا حين يتأملها الإنسان، فالموت يأتي ويختلس الإنسان، فيأخذه بغتة، هناك مشكلة تواجه الإنسان عندما لا يفهم وجوده في الحياة، ولا يفهم قيمة عمره ولا يستثمره في الحياة، كالإنسان الذي يبني بيتا، فإن شعر رأسه يشيب من كثرة التعب والارهاق ومعاناة توفير المال.
فالإنسان الذي يبني بيتا مدّته قصيرة مع كل هذه المشكلات التي يواجهها، فلماذا لا يبني بيتا في الآخرة من خلال أعماله؟، فالعمل الحقيقي هو الذي يعطي للإنسان بيتا في الآخرة.
لا بأس في أن تكون حياة الإنسان جيدة في الدنيا، ولكن الدنيا وسيلة وليست غاية، هذا هو الفرق بين الوسيلة والغاية، فالغاية هي الآخرة، والدنيا وسيلة، فلابد أن يكون جوهر عمل الإنسان الآخرة، والدنيا هي مجرد وسيلة، فلا يضيّع عمره في الدنيا بل عليه كسب الآخرة.
العمل واستدامة النمو
إن العلاقة بين الإنسان والمجتمع متبادَلة، المجتمع يبني الإنسان، يعطي الإنسان ويسنده، لكن المجتمع الجيد لا يتحقق إلا من خلال المبادرات الفردية، بعض الناس ينتظرون المجتمع هو الذي يدلّهم على الأشياء والأهداف في الحياة، وهذا شيء جيد، ولكن كل مجتمع يحتاج إلى مبادرات فردية، فهو عمل مشترك بين الأفراد وبين المجتمع.
فأهم نقطة في فلسفة العمل هي استدامة النمو، حيث يعبر عنها الإمام علي (عليه السلام): (بركة العمر في حسن العمل)، أي العمل الجيد والصالح يعطي البركة للإنسان، وقد تطرقنا سابقا للبرَكة، فالبركة هي الشيء الثابت وليس الشيء المتغيّر، بمعنى الشيء الذي يثبت في الأرض، برَك الجمل اي ثبت في الأرض، فالعمر الثابت والقوي يأتي من خلال حسن العمل، وهذه نفس المعادلة التي تطرقنا لها في قضية العمر والعمل.
بركة العمر تعني أن يعيش الإنسان عيشا طيّبا سعيدا لذيذا هانئا في حياته، مع عائلته ومجتمعه والأفراد الذين يعمل ويعيش معهم، كل هذا يأتي من حسن العمل الذي تؤديه بمختلف أشكاله، العمل المادي، العمل المعنوي، العمل الأخلاقي، العمل العقائدي، العمل الاجتماعي، كل هذا يؤدي إلى أن يعيش الإنسان حياة مباركة وهانئة فيها المزيد من الخيرات.
فالبركة في العمر والحياة تأتي من حسن العمل الذي يقوم به الإنسان، فهو الذي يصنع عمله، وعليه أن لا ينتظر أحدا يصنع له عمله وحياته أو عمره، بل عليه أن يبادر بنفسه للعمل، ويعرف أن هناك تركيبة معينة في الحياة، لابد أن يسير بها، ويثق بها لكي يحصل على حياة جيدة، وهي تركيبة متنوعة ولا تقتصر على جانب واحد.
اذا ظهر الفساد ضاعت البركة
بعض الناس يفكرون أن الجانب المادي هو الذي يصنع الحياة، وهذا تفكير خاطئ، لأنه هناك جوانب أخرى تصنع الحياة السعيدة والمباركة في حياة الإنسان.
إذا كان العمل مستمرا يكون الإنسان مستقر، فاذا فُقِد العمل نسبيا في المجتمع، فهذا يعني فقدان البركة وظهور المفاسد في المجتمع، لأن بركة الحياة وبركة العمر تزول، أنا شخصيا سمعتُ أناسا في المجتمع يقولون، نحن لم نهنأ كثيرا في حياتنا، فعشنا مشاكل كثيرة وأزمات كبيرة، بالطبع هذا أمر متوقَّع، فعندما لا تكون هناك مقدمات صحيحة لهذه الحياة ولا أعمال جيدة وحسنة، وكل شخص يرمي باللوم على الآخر، ويعيشون في صراعات ونزاعات، فماذا يحصل؟
سوف تذهب بركة العمر، ولا يشعر الإنسان بالراحة والهناء، وإنما يعيش حياته كلها في مشكلات وأزمات، وعُقَد في الحياة، كل هذا بسبب المقدّمات، فالعمل يحتاج إلى استدامة، وإلى مداومة، مثل الأرض التي تزرعها، فهذه الأرض تحتاج تسقيها يوميا، فإذا لم تسْقِها سوى مرة واحدة في الأسبوع، سوف يفسد الحصاد.
بالنتيجة فالعمل يحتاج إلى استدامة وإدامة وإلى سقي وإلى رعاية وإلى مداومة، إن مشكلة المجتمعات المتخلفة هي أن أحد العناصر الأساسية في تخلفها، هو فقدان الصبر، وفقدان المداومة، مثلا هناك شخص مثلا يعمل لمدة أسبوع ويترك عمله، ثم يعمل في مهنة أخرى، وبعد أسبوع يتركها أيضا، لكن العمل يحتاج إلى استدامة ونمو وتطور وهو ليس قضية مزاجية، يجب أن لا يكون العمل رهن العجز والكسل.
مداومة العمل تكشف الطاقات الكامنة
أمر جيد أن يجرب الإنسان أعمالا أخرى، لكن هذا لا يعني أن يجرّب أسبوعا ثم يترك العمل، لابد أن يستمر في العمل، وهناك رواية في ذلك تؤكد على ان الإنسان إذا كان عنده عمل خير وتعلّم على الخير، فعليه أن يداوم في هذا الخير ولا يتركه، وإذا استطاع أن يستمر أكثر من سنة فهذا أفضل، لأن الخير ينفع والعمل ينفع، فلابد للإنسان أن يعمل حتى يتعلم ويكتشف كوامنه، فالاستدامة في العمل تكشف كوامن وطاقات الإنسان.
فعن الامام جعفر الصادق (عليه السلام): (إذا كان الرجل على عمل فليدم عليه سنة، ثم يتحول عنه إن شاء إلى غيره...).
وعن الإمام علي (عليه السلام): (المداومة المداومة! فإن الله لم يجعل لعمل المؤمنين غاية إلا الموت) غاية تعني هنا نهاية، فلابد أن يعمل الإنسان حتى نهاية عمره، فلا يوجد (تقاعد) في الإسلام، فلابد للإنسان أن يبقى عاملا، في حين أن التقاعد يفرض على الإنسان ترك العمل، بحجة التقدم في السن.
يمكن أن يتغير نوع العمل بما يتناسب مع عمر الإنسان لا أن يتقاعد عن العمل، فالإنسان يكتسب خبرات كبيرة في الحياة وتجربة غنية، فيمكن أن نقلل ساعات العمل بدلا من التقاعد، ونغيّر نوع العمل، لكي يبقى الإنسان عاملا مداوما منتجا ويعلّم الطاقات الجديدة وينقل لهم خبراته وتجاربه في الحياة، وقد يُفرَض التقاعد على الإنسان وهو في قمة نضجه وهو عمر الازدهار والنضج والخبرات التي لابد أن يعطيها للآخرين. لكن مناهج اليوم لا تعطي قيمة للعمل، فهي مناهج بيروقراطية روتينية تقوم على سوء الإدارة في عملية إدارة الموارد البشرية.
الاستقامة حتى النهاية
عن الامام علي (عليه السلام): (الْعَمَلَ الْعَمَلَ ثُمَّ النِّهَايَةَ النِّهَايَةَ وَالِاسْتِقَامَةَ الِاسْتِقَامَةَ ثُمَّ الصَّبْرَ الصَّبْرَ والْوَرَعَ الْوَرَعَ إِنَّ لَكُمْ نِهَايَةً فَانْتَهُوا إِلَى نِهَايَتِكُمْ وَإِنَّ لَكُمْ عَلَماً فَاهْتَدُوا بِعَلَمِكُمْ وَإِنَّ لِلْإِسْلَامِ غَايَةً فَانْتَهُوا إِلَى غَايَتِهِ وَاخْرُجُوا إِلَى اللَّهِ بِمَا افْتَرَضَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَقِّهِ وَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ وَظَائِفِهِ أَنَا شَاهِدٌ لَكُمْ وَحَجِيجٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْكُمْ).
إن القصد من المداومة على العمل هو تقسيم العمل، فلا يمكن التركيز على العمل وترك الجوانب الأخرى، مثال عن ذلك حول العمل العبادي، فالعبادة عمل بالنسبة للإنسان، فلا يمكن للإنسان أن يترك العبادة لأنها تمثل جانبا مهما في حياة الإنسان، فهي عمل ينظم علاقات الفرد بالمجتمع، وتقع على الفرد مجموعة واجبات في الحياة، وهو لا يعمل لنفسه فقط، وإنما يعمل لمجتمعه، وعندما يعمل لمجتمعه يعمل لنفسه، لأن المجتمع الصالح يؤثر فيه وفي أبنائه.
لذلك على الإنسان أن لا يترك عمله، ويستقيم في عمله، ولا ينهار ولا ينحرف، ولكن أحيانا يبقى الإنسان يعمل ويواصل العمل، وبعد خمسين سنة من المداومة على العمل بجهاد وتدبير يصل إلى السلطة، فماذا يحصل عند البعض؟، تأخذه السلطة وتهيمن عليه، تأكله السلطة فينحرف، وتصبح السلطة هي الغاية والهدف.
وقد يعمل أحدهم في التجارة وهو إنسان مؤمن طيب وصالح، فيواصل عمله بشكل مستمر ودؤوب ويحصل على ثروة هائلة من خلال تجارته، وعندما يحين وقت الحقوق الشرعية لا يلتزم بذلك، هنا يكمن معنى الاستقامة وهذا هو معنى (النهاية النهاية، الورع الورع، الصبر الصبر)، هذا يعني إن الإنسان لابد أن يستمر ويداوم في عمله، ولا تأخذه الانحرافات ولا المغريات الدنيوية، لأن غاية الإنسان هي الآخرة، وعمره قصير.
بماذا تفيده السلطة، وماذا يفيده المال في عمره؟، الأموال لا تفيد إلا في قضاء حوائج الناس وخدمة آخرة الإنسان، هذا هو معنى الاستمرار والمداومة والاستقامة الاستقامة (فاستقم كما أُمِرْتَ) على (الصراط المستقيم)، ولابد للإنسان أن يبقى مداوما على عمله الصالح الذي يؤدي به إلى غاية أساسية هي الآخرة (فإن له عمرا ناكسا).
جودة المخرجات من جودة العمل
عن الإمام علي (عليه السلام): (مَنْ أَبْطَأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ). جودة العمل والعمل الصالح يقيّم من خلال مخرجات العمل، فلا يقيّم الإنسان بنسبه أو بالوساطات الموجودة عنده، فالصحيح هو أن تقيّم الإنسان بعمله. فعنه (عليه السلام): (قِيمَةُ كُلِّ امْرِئٍ مَا يُحْسِنُهُ).
إن الإنسان الذي يستفيد من نسبه ومن مقامه ومن علاقاته الاجتماعية لتحقيق الغايات هو إنسان فاشل، ولا أعلم لماذا يفكر الإنسان بهذه الطريقة، فكيف تحقق وجودك وهويتك في الحياة، إذا كانت هويتك قائمة على نسبك؟، أو على الآخرين أو على الواسطة الموجودة عندك؟
إن أهم برمجة ذاتية للإنسان في حياته أن يجعل عمله هو المحور، وهو القيمة الأساسية في حياته، إذًا توصلنا إلى أن الغاية الأساسية لمشروعية العمل في الإسلام هي بناء الإنسان من خلال التكامل الفردي والمجتمعي والأسري، وأن يكون الإنسان فاعلا ومحورا في تقدم هذه الأمة، والوصول الى الغايات الكبرى.
اضف تعليق