شهر رمضان يضعه في ضيافة الله، عندما يصد عن اللهاث الدنيوي ويوقف الزمن الذي كان يعيش فيه الإنسان، ويبطئ سرعة حركة الزمن، ويدخله في زمن آخر خاص بالله سبحانه وتعالى، فيستعيد مشاعره ويستعيد نفسه ويبدأ ينظر من حوله، ويبدأ يحس بوجود الأشياء ويشعر بمتعتها ويتأمل بها ويستلذ بها...
الإنسان في هذه الحياة يرتبط بمجموعة من العلائق، تتمثل بالعلاقات المتعددة فيما بين مختلف الأشياء والأشكال والاطراف والأشخاص، وهذه العلائق هي التي تحدد شخصية هذا الإنسان، وغالبا ما تكون هذه العلائق هي أغلال وقيود للإنسان، فهذه الدنيا هي علائق مادية يكون الإنسان فيها مرتهنا ومحبوسا في السجن الدنيوي، إلا العلاقة مع الله سبحانه تعالى فهي تحرر للإنسان من القيود والاغلال.
لذلك يحتاج أن تكون له علاقة خاصة مع الله سبحانه وتعالى، فهي العلاقة الكبرى والعظمى والتي من خلالها يستطيع أن يبني علائق صحية مع كل الاشياء والأشخاص والأفكار والمعاني، وشهر رمضان هو شهر التحرر من العلائق المادية عبر الارتباط بالله سبحانه وتعالى، بالتواجد في بيئة جديدة وزمن آخر، والخروج من صندوق الذات وأصفاد الدنيا، والدخول في ضيافة الله سبحانه وتعالى، فعن رسول الله في الحديث المعروف في استقبال شهر مضان، حيث قال صلى الله عليه وآله: (هُوَ شَهْرٌ دُعِيتُمْ فِيهِ إِلَى ضِيَافَةِ اللهِ، وَجُعِلْتُمْ فِيهِ مِنْ أَهْلِ كَرَامَةِ اللهِ)(1). هذه دعوة لضيافة وسياحة إلى الله سبحانه وتعالى، في سفرة مجانية مدفوعة التكاليف بشكل كامل. مع سعادة عامرة وغامرة بالنعم والخيرات والغفران والصحة والسلامة والعافية والازدهار فهو شهر للتغيير التحرر، وكما يقول الرسول صلى الله عليه وآله: (إِنَّ أَبْوَابَ السَّمَاءِ تُفْتَحُ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَلَا تُغْلَقُ إِلَى آخِرِ لَيْلَةٍ مِنْهُ)(2).
وأيضا عنه صلى الله عليه وآله: (لَوْ يُعَلِّمَ الْعَبْدُ مَا فِي رَمَضَانَ لَوَدَّ أَنْ يَكُونَ رَمَضَانُ السنَة)(3)، لما فيه من بيئة خالصة محصنة جميلة، سفرة مجانية، حيث يتغير الإنسان، كأنه يعيش في كوكب آخر.
التحرر من الانحباس الدنيوي
ان شهر رمضان هو شهر المشاعر التي تنتقل من القلب الى الروح ومن أهمها الشعور بالتحرر من الانحباس الدنيوي الضيق نحو الرحابة الإلهية الواسعة في ضيافة يتمنى ان تدوم الى الابد.
كذلك هو شهر التحرر من الروتين الممل، الروتين المضجر والمتعب، حيث الرتابة الدنيوية تزرع الكآبة عند الإنسان، فيتحرر فيه لأنه يلجأ إلى ركن وثيق في زمن مفتوح يكسر الزمن الجامد، الذي يعيش فيه طول السنة، ويدخل زمنا جديدا كأنه دخل إلى كون آخر.
ففي أغلب الأيام يعيش معظم الناس حياة رتيبة وزمن متكرر، وفي نفس الوقت تجدهم في حالة عجلة وتعجّل، كأولئك الناس الذين يقودون سياراتهم بسرعة كبيرة، فسرعة هذا الإنسان تعبر عن حالة يريد من خلالها أن يلحق بالزمن، فهو لا يستطيع ان يشعر بالزمن فيشعر بالقلق من فوات الأمور عليه، لذا وبسبب ضيق تفكيره وضياعه في زحمة الحياة، تراه دائما في عجلة من أمره.
هذه السرعة في الحياة وخصوصا وكما يُقال نحن نعيش في زمن السرعة، بسبب التكنولوجيا الحادة مع ما تفرضه من تطور وتقدم شكلي، فزمن السرعة هذا يجعل الإنسان سطحيا غافلا، لا يشعر بمعنى الحياة، ولا يفهم معنى الوجود، فلا يرى الآخرين من حوله، لا يشاهد زوجته، ولا أولاده، ولا أباه وأمه، ولا أخوانه، يعيش في انحباس دنيوي ضيق. لذا يرتبط التعجل بالشر والسيئة والشيطان، حيث يستعجل الانسان حصد المكاسب والثمار قبل آوانه بدفع من شهواته ومزاجه بعيدا عن التعقل والتوكل والأناة، وقد تعالى عزوجل: (قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) النمل 46.
وعن الامام علي عنه (عليه السلام): (العجل قبل الإمكان يوجب الغصة)(4)، فالمستعجلون هم اللاهثون وراء الدنيا لايشعرون بمتعة الدنيا الحقيقية، وكلما تسارعوا من اجل تحصيلها ازدادوا بعدا عنها.
شهر رمضان وتوقف الزمن
لكن شهر رمضان يضعه في ضيافة الله، عندما يصد عن اللهاث الدنيوي ويوقف الزمن الذي كان يعيش فيه الإنسان، ويبطئ سرعة حركة الزمن، ويدخله في زمن آخر خاص بالله سبحانه وتعالى، فيستعيد مشاعره ويستعيد نفسه ويبدأ ينظر من حوله، ويبدأ يحس بوجود الأشياء ويشعر بمتعتها ويتأمل بها ويستلذ بها.
لنفترض انه لا يوجد لدينا شهر رمضان، وغير موجود في شهور السنة، فإننا سوف نعيش نفس الروتين، ونعيد تكرار نفس الزمن، ونعيش نفس الطريقة في الحياة، لا توجد لدينا محطة تحوَّل في حياتنا، تجعلنا نعيد التفكير في أنفسنا من أجل التغيير والإصلاح.
لذلك فإن شهر رمضان هو محطة نقف فيها، ثم ننطلق إلى التغيير، ولا يعقل أن الإنسان يستمر بلا تغيير، بل يحتاج الى ان ينطلق ويستعيد نفسه ويسترجع معنوياته ويعيد علاقته مع الله سبحانه وتعالى، فيتجدد ويتقدم تقدما إيجابيا معنويا. فشهر رمضان محطة وقوف في الحاضر لإيقاف تدفق الماضي، ثم بعدها ننطلق نحو المستقبل الى العلاقة الإلهية الخاصة في بقية شهور السنة.
شهر التجويع
الإنسان في شهر رمضان لابد أن يجوع حتى يحس بمعنى آخر ورؤية من زاوية أخرى، فتختلف النظرة وقد تتغير القناعات، لنفترض أنك الآن تنظر في زاوية أفقية، فتكون نظرتك مسطحة من بعدين الطول والعرض، ولكن إذا صعدت إلى مكان عال ونظرت إلى نفس الشيء ستكون نظرتك اعمق واشمل، لأنها تكون في ثلاثة أبعاد الطول والعرض والارتفاع.
كذلك بالنسبة للتجويع هو عملية خروج من بعد إلى بعد آخر أكبر، حيث يعيش الإنسان في حالة محاولة تطهير للذات بتجويع النفس وليس تجويع البطن، كلامنا هنا ليس عن البطن، التي تتعلق بالأكل والهضم، ولكن عن تجويع النفس التي تشتهي وتهوى وترغب ولاتشبع.
فالبطن تحتاج إلى قدر معين من الأكل، لكن الإنسان إذا تناول ضعف هذه الكمية من الطعام، فليس البطن هي التي طلبت ذلك، وإنما النفس هي التي طلبت ذلك واشتهته، لذلك نلاحظ أن البطن تتأذى وتتألم في حالة الزيادة، فالبطن قد تشبع لكن النفس لن تشبع، فالصوم هو عملية تجويع للنفس وعملية تطهير الإنسان من شهواته ومن أفكاره الخاصة التي تجعله مرتبطا مرضيا ومتعلقا بحرص بشهواته.
التحرر من الأغلال والشهوات
فهذه عملية تطهير حيث يقوم التجويع هنا بمعالجة بناء الذات، والتحرر من أغلال الشهوات والرغبات، هذا التحرر يعني أن الصائم يقوم بعملية (ترسيت-restart)، وهي كلمة تعني إعادة تشغيل من جديد لجهاز الكمبيوتر مثلا، حتى يبدأ يصحح نفسه في نظام جديد وأسلوب جديد.
وعملية إعادة التشغيل تعني إعادة ضبط الذات وإعادة تشغيل الشخصية عند الإنسان نحو الغايات السليمة، الشهوات تقود الإنسان دائما نحو الانحراف واتباع المزاج، والانقياد لرغباته الخاصة التي تقع خارج الانضباط خارج التعقل وخارج السياق المقبول فتؤدي به إلى الانحراف، سواء كان انحرافا جسديا أو نفسيا أو فكريا أو عقائديا.
لذلك يقول الإمام علي عليه السلام: (وَمُجَاهَدَةِ الصِّيَامِ فِي الْأَيَّامِ الْمَفْرُوضَاتِ تَسْكِيناً لِأَطْرَافِهِمْ وَتَخْشِيعاً لِأَبْصَارِهِمْ وَتَذْلِيلًا لِنُفُوسِهِمْ وَتَخْفِيضاً لِقُلُوبِهِمْ وَإِذْهَاباً لِلْخُيَلَاءِ عَنْهُمْ)(5)، فالصيام يعني تسكينا لأطراف الإنسان، فتحرك اطراف الانسان وتململها تعبر عن الارتباك والقلق والخوف الذي يعيشه، كذلك يمكن ان يكون تعبيرا عن الخوف من الفقدان الدنيوي، وشدة الحرص على الدنيا، وما فيها من الشهوات التي لاتشبع ولاتسمن، لذلك يعيش حالة من التوتر وعدم الاستقرار واللاثبات وبالتالي عدم سكون اطرافه، وهذا هو معنى تسكين الطرف أي تهدئته وجعله مستقرا وثابتا ومطمئنا، فتسكينا لأطرافهم هي إعادة عملية ضبط هذا الإنسان بمنحه السكينة والاطمئنان، هذا ما يقدمه الصيام للصائم، عندما نلاحظ الإنسان حينما يصوم وتمر خمس أو ست أو سبع أو عشر ساعات على صيامه، يعيش جسمه نوعا من الهدوء في صوته وبصره وكأن الصيام قام بعملية تهدئة للجسم.
الجهاز الهضمي هو العقل الثاني للإنسان
مشكلة الشراهة عند الناس، في تناول الأكل كثيرا، يؤدي إلى ارتباك الجسم، يقول العلماء في العلم الحديث، ان الجهاز الهضمي هو العقل الثاني، وإذا اختل فهذا يعني أن جسم الإنسان كله يتعرض للاختلال، (وتخشيعا لأبصارهم) يوجد للإنسان بصر وعليه أن يكون خاشعا ويتورع عن الحرام، وتذليل للنفس، فهذه النفس المتكبرة العاندة المتصارعة مع الآخرين أيضا يتم إذلالها من خلال الصيام، حيث يشعر الإنسان بمعنى الجوع، ويشعر بمشاكل الآخرين وأزماتهم، وهكذا تخفيضا لقلوبهم، فالقلب بعد ذلك لا يطلب أكثر من حاجته، لأنه هو فاهم وجائع ويشعر بالضبط والسيطرة على قلبه.
فهو يطلب الكثير ويشتهي المزيد ويأكل بتخمة ورغباته لاتنتهي وهكذا، فإن الصيام أيضا يؤدي إلى تواضع الإنسان، لأنه حسب الظاهر وحسب هذا الكلام في الرواية أن الكثير من المشكلات تتسبب بها البطن، المشكلات الجسدية، والنفسية والفكرية.
فالإنسان الذي لا يشبع سوف تكون أفكاره وعقائده تكون منحرفة، لأنه لا يشبع، يريد أموالا أكثر، بعضهم يذهب وراء المال الحرام، فالإنسان الذي لا يشبع من الأكل أو الطعام، عنده مشكلة فيتناول الطعام أكثر فأكثر إلى أن يتعرض للمرض.
لذلك فإن الصيام هو عملية تجويع للنفس، وإعادة ضبط اشتغال الجسم وتهدئة النفس واسترجاع الذات، حتى تكون متوازنة ومعتدلة وهذا التجويع يخرجها عن عملية التطرف الجسمي والنفسي، ويخرجه من التطرف في الأساليب والعادات ومختلف السلوكيات التي ترتبط بشهوات الإنسان ورغباته.
وعن الإمام الصادق عليه السلام: (أَمَّا الْعَلَّةَ فِي الصِّيَامِ لِيَسْتَوِي بِهِ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْغَنِيَّ لَمْ يَكْنِ لِيَجِدُ مَسَّ الْجُوعِ، فَيَرْحَمُ الْفَقِيرُ، لِأَنَّ الْغَنِيَّ كُلَّمَا أَرَادَ شَيْئًا قَدَّرَ عَلَيْهِ، فَأَرَادَ اللهُ عِزِّ وَجَلٍّ أَنَّ يُسَوِّي بَيْنَ خَلْقِهِ وَأَنْ يُذِيقَ الْغَنِيُّ مَسَّ الْجُوعُ وَالْألَمُ، لِيَرْقَ عَلَى الضَّعِيفِ وَيَرْحَمُ الْجَائِعُ)(6)، هذا الإحساس هو قضية مشاعر، لأن الإنسان الشبعان لا يدري بحال الإنسان الجائع، فلا يشعر بآلام الآخرين ومعاناتهم ويكون قلبه قاسيا، لا توجد عنده رقّة وتعاطف فيطغى، لذلك عندما تحدث عملية التجويع، سوف تتحرك المشاعر، ويشعر بأن هذا الفقير سواء كان جاره، أو أي إنسان فقير وجائع سوف يرقّ قلبه عليه، هذه علة جميلة وعظيمة لعملية مكافحة الشهوات التي يقولها أهل البيت عليهم السلام.
وعن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): (مِنْ مَنْعِهِ الصَّوْمَ مِنْ طَعَامٍ يَشْتَهِيهِ، كَانَ حَقَّا عَلَى اللهِ أَْنْ يَطْعَمُهُ مِنْ طَعَامِ الْجَنَّةِ وَيَسْقِيهِ مِنْ شَرَابِهَا)(7)، فهذه العملية التعويضية لجوع الانسان هي من باب المقدمة إلى بناء السلوك الصالح حيث يتعلم الإنسان في شهر رمضان كيفية قمع شهواته والتحكم برغباته. وهذا التعلم سيستمر إلى ما بعد شهر رمضان، مما يؤدي بالنتيجة الى استواء حياته واستقامته بالعمل الصالح والتفكير السوي وبناء الآخرة والوصول إلى الجنة والحصول على طعامها.
فعملية الإصلاح الذاتي تبدأ من خطوة واحدة التي تقود الى خطوات أخرى، فحين يجوّع الإنسان نفسه في شهر رمضان فقد سلك الخطوة الأولى التي قد تصل به إلى الجنة.
ما هو ربط الشهوات بالإرادة؟
وهذا الشيء يقودنا إلى تساؤل أساسي ومهم في سبب ان التجويع يقود الى الجنة؟
والجواب ان التجويع يؤدي الى بناء الإرادة القادرة على التحكم بالشهوات، والربط بين الاثنين يتم عبر المعرفة التي تنتج الحكمة، والأخيرة هي المعرفة المتعقلة، أو المعرفة المرتبطة بالواقع، فالحكمة هي القدرة على السيطرة على النفس، من خلال معرفة الغايات والعواقب، ومبادئ الأعمال، والإنسان يكون حكيما عندما يضع الاشياء في مواضعها، فالإنسان في شهر رمضان عندما يسيطر على شهواته، تبدأ عملية نمو الحكمة والمعرفة في داخله، فيستطيع أن يعرف ويفهم الحياة ويعرف العواقب المترتبة على سلوكياته، فيسيطر على نفسه ويتحكم بشهواته.
لذلك فإن تناول الطعام بطريقة واعية، وبناء عادات صحية في الاكل يؤدي الى بناء التفكير السليم، ويبني الحكمة فيه، ولكن التخمة تؤدي الى عكس ذلك، فالإنسان المنغمس بشراهة في تناول الطعام قد يحصل عنده نوع من الاستغباء أو الغباء وعدم الفهم، لأن هذه الشهوات توقف نمو المعرفة فيه، فيكون مستعبدا ويحدث لديه انفصال بين عقله وبين نفسه، لان الشهوات تصبح مسيطرة عليه ومتحكمة فيه، وبالنتيجة يفتقد للحكمة والتعقل في أفكاره وسلوكياته.
وعن الإمام علي (عليه السلام): (التخمة تفسد الحكمة، البطنة تحجب الفطنة)(8)، لذلك فالإنسان المشغول بتتخيم بطنه لا توجد عنده حكمة ولا فطنة بل يزداد غباء خصوصا ونحن نعيش في عصر التفاهة والاستهلاك المفرط، والدعاية الحادة التي تفرضها شبكات التواصل الاجتماعي في الترغيب الاعمى على الشهوات والانسياق اللاهث وراء الطعام والأكل واللذة مما طاب من الحلويات والسكريات والفاست فود.
وكلما ينساق الإنسان وراء اللذات البطنية، فإنه يعيش تدريجيا حالة من التفاهة والسطحية، وكلما ذهب بعيدا في شهواته يقل مستوى الحكمة والفطنة والذكاء عنده، حتى يصل إلى مستوى صفر، فأساس الموضوع هو المعرفة، فعندما تكون لديك معرفة حقيقية يكون منطلقك صحيحا تسيطر على شهواتك وتعمل على كبح جماح الذات والتحكم بالشهوات عبر التجويع الارادي الذي يقود تدريجيا الى ارتفاع المستوى المعرفي.
فالإنسان المعتدل مثلا يستجيب لشهواته وأهوائه ورغباته بقدر حاجته، فيصبح متوازنا، أما إذا افرط بأن تصاعدت شهواته وأصبحت أقوى من عقله وتعقله، سوف يفقد الحكمة، ويفقد المعرفة، ويفقد الرؤية التي يرى من خلالها الاشياء بأنها صحيحة.
يفتقد العمق ويصبح سطحيا في حياته، يبحث عن المظاهر الزائفة فقط، والتجمّل الكاذب، لذلك فإن فكرة تجويع النفس هي بناء للإنسان الحكيم.
وعن النبي صلى الله عليه وآله في حديث المعراج: (يَا رَبَّ مَا أَوَّلَ العِبادَةِ؟ قَالَ: أَوَّلُ العِبادَةِ الصَّمْتَ والصَّوْمُ، قَالَ: يَا رَبَّ وَمَا مِيرَاثُ الصَّوْمِ؟ قَالَ: يورِثُ الحِكْمَةَ، والْحِكْمَةُ تورِثُ المَعْرِفَةَ، والْمَعْرِفَةَ تورِثُ اليَقينَ، فَإِذَا اسْتَيْقَنَ العَبْدُ، لَا يُبَالِي كَيْفَ أَصْبَحَ، بِعُسْرٍ أَمْ بِيُسْرٍ... يَا أَحْمَدَ إِنَّ العَبْدَ إِذَا أَجَاعَ بَطَنُهُ وَحِفْظَ لِسانَهُ عَلِمْتُهُ الحِكْمَةُ..)(9)، فهذا الجوع هو بناء للمعرفة واليقين والحكمة للإنسان، حيث يتجاوز الإنسان الشهوات وتصبح عنده إرادة قوية في مواجهة الصعوبات والتحديات، لكن أغلب الناس لايستطيعون التحكم بإرادتهم، ولذلك تراهم مبتلين بأمراض كثيرة، أما بالفشل أو الكسل أو أمراض بدنية.
تصحيح الابدان
فالصيام وتجويع النفس كما هي عملية إصلاح للفكر والنفس هي كذلك تصحيح للجسم، ، وكما يقال العقل السليم في الجسم السليم، وصحة الأبدان في صحة النفوس، وفي الحديث (صوموا تصحّوا)، وعن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (لكل شيء زكاة وزكاة الأبدان الصيام)(10)، وأيضا عنه صلى الله عليه وآله: (صوم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر يذهبن وحر الصدر)، وعن الامام علي عليه السلام: (عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: صيام شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر يذهبن بلابل الصدر)(11)، ومعنى (وحر الصدر) هو الغيظ والحسد والحقد وهو ما يتسبب بالألم الجسدي كذلك، فالوحر هو الألم النفسي والجسدي، فالذي يوجد في قلبه ألم فقد يكون سببه جسدي أو نفسي، والجسدي قد يتسبب بالنفسي، والنفسي قد يتسبب بالجسدي في علاقة متبادلة بينهما، فالإنسان الذي يتناول طعام سيء غير صحي، تحدث عنده انسدادات في عروقه ويصبح سيلان الدم في عروقه ضعيفا ولذلك يتعرض للجلطات والسكتات. لكن الصوم وعملية التجويع تؤدي إلى تصحيح البدن وتصفية عروق جسم الإنسان من الترسبات، وتجنب امراض ضغط الدم وزيادة نسبة الدهون.
ولكن ذلك يحتاج إلى إرادة قوية لتجاوز التحديات وتعليم النفس على الجوع والاشباع، وعن الإمام علي عليه السلام: (صوم النفس عن لذات الدنيا أنفع الصيام)(12)، بعض الناس يصومون، ولكنهم يأكلون الكثير من الطعام في الفطور والسحور، ويتناولون وجبات زائدة بين الفطور والسحور، لذا فإن هذا الصيام لا ينفعهم في تجويع النفس.
الانقلاب على العادات السيئة
ان السيطرة على الشهوات ونجاح التجويع النفسي تبدأ من عملية الانقلاب على العادات السيئة، فنحن عبيد العادات السيئة التي تدمر حياتنا، وما أعظم ذلك الإنسان الذي يستطيع أن يتجاوز هذه العادات ويسيطر عليها، ويبني عادات جيدة تتناسب مع صحته الجسمية والنفسية.
التدخين مثلا مضرّ بالإنسان، لأنه يتسبب في قتله، هذه عادة سيئة لابد له أن يتركها، والإنسان الذي يأكل حلويات وسكريات كثيرة هذه عادة سيئة قد تصيبه بأمراض كثيرة، فلابد أن يترك مثل هذه العادات السيئة ويبني لنفسه عادات جيدة.
وعن الإمام علي عليه السلام: (العادة عدو متملك)(13)، بعض الناس يحب التدخين والشراهة في الاكل هو يستأنس بذلك، ولكن هذا الاستئناس هو نتيجة الإدمان وسيطرة العادات التي تتملكه وتستعبده، وتسيطر عليه وتقوم بتدميره.
وعن الإمام علي عليه السلام: (يَا أَسْرَى الرَّغْبَةِ أَقْصِرُوا فَإِنَّ الْمُعَرِّجَ عَلَى الدُّنْيَا لَا يَرُوعُهُ مِنْهَا إِلَّا صَرِيفُ أَنْيَابِ الْحِدْثَانِ أَيُّهَا النَّاسُ تَوَلَّوْا مِنْ أَنْفُسِكُمْ تَأْدِيبَهَا وَاعْدِلُوا بِهَا عَنْ ضَرَاوَةِ عَادَاتِهَا)(14)، أي انها عادات متوحشة وقاسية وعنيفة، تدمر الإنسان لذا لابد له أن يسيطر عليها، ولا يقول بأنه لا يستطيع، بل هو قادر أن يسيطر عليها من خلال التربية الذاتية والترويض النفسي ، وبناء الاقتناع بعدم الخشية من تركها.
أما الإنسان الذي يستطيع أن يبني عادات جديدة، في الواقع هو يستطيع أن يؤسس لنفسه حياة جديدة، وبالنتيجة هذه العادات الجديدة تمنحه معنى جديدا للحياة، فيلاحظ أن حياته قد تغيرت، فلنجرب هذا التحدي في مواجهة ضعف النفس.
وهذا التحدي في مواجهة اهوائه يبدأ بأن يُحصي ما هي العادات السيئة الموجودة عنده، ثم ينتقل الى عملية تصحيح تؤدي الى إيجاد تحول كبير في نفسه، وعندما يحررها من هذه العادات، ويوجد محلها عادات جديدة، يشعر بقوة شخصيته ونفسه، وازدياد ثقته بنفسه وتقديره لذاته، ذلك انه استطاع أن يتحكم بنفسه ويسيطر عليها.
شهر القرآن وربيع الحرية
عن الإمام الباقر عليه السلام: (لكل شيء ربيع وربيع القرآن شهر رمضان)(15)، وعن الإمام علي عليه السلام: (وَتَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ أَحْسَنُ الْحَدِيثِ وَتَفَقَّهُوا فِيهِ فَإِنَّهُ رَبِيعُ الْقُلُوبِ وَاسْتَشْفُوا بِنُورِهِ فَإِنَّهُ شِفَاءُ الصُّدُورِ، وَأَحْسِنُوا تِلَاوَتَهُ فَإِنَّهُ أَنْفَعُ الْقَصَصِ، وَإِنَّ الْعَالِمَ الْعَامِلَ بِغَيْرِ عِلْمِهِ كَالْجَاهِلِ الْحَائِرِ الَّذِي لَا يَسْتَفِيقُ مِنْ جَهْلِهِ بَلِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ أَعْظَمُ وَالْحَسْرَةُ لَهُ أَلْزَمُ وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ أَلْوَمُ)(16)، فهنا ربيعان: ربيع للقرآن في شهر رمضان، وربيع للقلوب وهو القرآن. وعندما يتحدان مع بعضهما يعيش الصائم في ربيعين، ويدخل في عالم آخر من الأفكار والمعتقدات تقوده الى المعرفة المنتجة للطمأنينة والاستقرار في قلبه، يقرأ أحسن القصص، ويأخذ العبر، يقرأ الآيات القرآنية، التي تقيه من العواقب السيئة، وتقوده نحو بناء التقوى، ونحو الإيمان ونحو تصحيح أفكاره السيئة، وتحرره من وساوس الشياطين.
فقراءة القرآن عملية بناء فكري وعقائدي وثقافي وأخلاقي للإنسان تقوده نحو الاستقامة والتقدم والنهضة والعمل الصالح، (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) القلم4، (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) الأحزاب21، (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) آل عمران159، (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) المطففين26، (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ) آل عمران110.
آيات قرآنية تقدم مناهج كاملة في عملية بناء كاملة للإنسان، بناء نفس واجتماعيا، وتشكل منظومة متكاملة نستطيع أن نستفيد منها في شهر رمضان لتصحيح طرقنا في الحياة ونفض ركام التخلف والجمود.
(إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا)الإسراء9.
فهو أحسن الحديث وليس مجرد كلمات نقرأها ونسمعها، بل لابد أن نتعلم ونتعرف بعمق وتفكر وتدبر على آياته ونتفقه فيها، وكأن الله سبحانه وتعالى يخاطبنا نحن، كل واحد منّا لكي نصحح حياتنا ونجعل منها ربيعا جميلا مزدهرا.
خلاصات ارشادية في بناء التحولات
ان شهر رمضان الكريم هو شهر التأمل والمراجعة لحساباتنا الدنيوية واستخلاص الأفكار النافعة التي تكون إرشاد لنا، فنحسن لأنفسنا ونطور أساليب حياتنا، من خلال الوصول الى خلاصة الامور التالية:
اولا: شهر رمضان شهر التحرر
فهذا الشهر يتحرر فيه الإنسان من كل القيود والأغلال الفكرية والنفسية، والجسدية، عبر معرفة مفهوم والوعي بمفهوم الحرية، وهذا المفهوم المتعلق بالحرية نفهمه بالارتقاء المعنوي، وهذا الارتقاء المعنوي يأتي بالتخلي عن الرغبات والشهوات والطموحات الضيقة التي تسيطر علينا في حياتنا. فهذه الشهوات تضعنا في حالة الانحباس الدنيوي، فلنكن أذكياء ونخرج من السجن الدنيوي إلى رحاب الله تعالى الواسعة، فهذه فرصة للتحرر من أوهام الدنيا.
ثانيا: شهر رمضان شهر الفرص الثمينة
وذلك بالتخلص من الاخطاء والذنوب والعيوب، عبر محاسبة النفس والذات، والتخلص من الترهل النفسي والكآبة والقلق، وإيقاف مسلسل الكسل الفكري وتعطيل العقول، وذلك بإعادة تجديد الذات عبر السياحة المجانية التي دعانا الله سبحانه وتعالى في ضيافته، فلنستثمرها ولا نضيعها في التوافه والانشغالات السيئة مثل المسلسلات التلفزيونية والمقاهي، بل نستثمرها في قراءة القرآن الكريم والتدبر في آياته، فهذه القراءة وهذا التدبر من أعظم السياحات والسفرات إلى الله سبحانه وتعالى.
ثالثا: شهر رمضان شهر التغيير الجذري
هو شهر يعطي فرصة لاتعوض لبناء العادات الجيدة، عندما يضطر الإنسان للتوقف عن العادات السيئة، مثل المدمن على تدخين السجائر، فيجعل من الصيام فرصة ويترك التدخين، بالاستفادة من تقوية الإرادة والنظر إلى العواقب التي تخلفها العادات السيئة، حيث تصنع العادات الجيدة حياة جديدة وعمرا متجددا وانطلاقة إيجابية لإنسان مفعم بالطاقة لمواجهة تحديات المستقبل.
رابعا: شهر رمضان شهر التربية على الاخلاق العظيمة
من خلال التواضع للفقراء والتخلي عن المظاهر والجماليات المزيفة، التي تنتجها أوهام الشيطان، هذه الأوهام التي تجعلنا نظن ان هذه المظاهر تمنحنا العظمة بينما هي اوهام زرعها الشيطان، ونجعل هذه التربية الرمضانية لأنفسنا قدوة لابنائنا فنصنع اجيالا صالحة تمتلئ بالخشوع الالهي، لتتجسد فيها عناوين العدل والانصاف والاحترام.
خامسا: شهر رمضان شهر الرحمة والمحبة
والمودة والتصالح والتعايش مع الاخرين، عبر نبذ النزاعات والصراعات والاحقاد وعبر بناء جسور التواصل مع الاخرين، لتحقيق السلام النفسي والتماسك الاجتماعي فلنبدأ بأنفسنا، اذا كنت متخاصما مع شخص فبادر لزيارته حتى نجعل من شهر رمضان تحول كبير لنا، فهذا التصالح وهذا التعايش والتفاهم وصلة الارحام سيكون بركة عظيمة لنا في حياتنا.
فيكون شهر رمضان لنا رحمة وخيرا وازدهارا ويكون فرصة لنا للتغيير والتحول نحو الحياة الجديدة العظيمة التي ارادها الله سبحانه وتعالى لنا.
ولتحقيق ذلك لابد من استثمار الدعاء في الشهر الكريم، فإن الدعاء يعطي زخما ودفعا إيجابيا لتحقيق التحولات الجذرية في حياتنا، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله:
(وَدُعَاؤُكُمْ فِيهِ مُسْتَجَابٌ، فَاسْأَلُوا اللهَ رَبَّكُمْ بِنِيَّاتٍ صَادِقَةٍ، وَقُلُوبٍ طَاهِرَةٍ، أَنْ يُوَفِّقَكُمْ لِصِيَامِهِ، وَتِلاوَةِ كِتَابِهِ).
اضف تعليق