منذ اللحظة الاولى كان واضحاً ان تنصيب علي بن ابي طالب خليفة من بعد رسول الله، لن يمر بسلام بين نفوس ضاقت بالايمان الحقيقي، بل أن رسول الله نفسه سجّل مرات عدة مواقف غير حسنة من المقربين، تعارض مجرد التفكير بأن يكون أمير المؤمنين هو الحاكم يوماً ما...
{وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ}
منذ اللحظة الاولى كان واضحاً ان تنصيب علي بن ابي طالب خليفة من بعد رسول الله، لن يمر بسلام بين نفوس ضاقت بالايمان الحقيقي، بل أن رسول الله نفسه سجّل مرات عدة مواقف غير حسنة من المقربين، تعارض مجرد التفكير بأن يكون أمير المؤمنين هو الحاكم يوماً ما، هذا من جهة؛ ومن جهة ثانية، وأكثر خطورة، علم النبي اليقيني بنفاق العديد من المقربين وعامة المسلمين، وعدم نضوج الايمان في قلوبهم ونفوسهم، فكيف بهم في ظروف زمانية ومكانية غاية في الصعوبة أن يتقبلوا ما يكرهوه في ظروف طبيعية؟!
وقبل الخوض في الاسباب النفسية لرفض بيعة الغدير، أرى من المفيد للقارئ الاطلاع على حادثة غريبة اصطدم بها رسول الله خلال أدائه مناسك الحج (حج الوداع الذي تخللته بيعة الغدير في طريق العودة)، عندما أمر رسول الله المسلمين بمن ساق الهدي (الذبيحة) معه من المدينة بأن يحتفظ بإحرامه من فترة العمرة الى أيام مناسك الحج، وهو "حج القِران"، من أنواع الحج المعروفة في الاحكام، وهذا يعني التزام الناس لفترة طويلة بالمحرمات على المحرم، ومنها؛ الاقتراب من النساء والتضليل وغيرها، وأطلق عليها رسول الله "حج التمتع"، وهو ما لم يرُق للبعض، فحصلت المخالفة، كما رواه المحدثون والمؤرخون جميعاً، ومنهم؛ صحيح مسلم، يروي عن عائشة أن رسول الله دخل عليها وهو غضبان خلال مناسك الحج، وقال لها: "أ وشعرت أني أمرت الناس بأمر فاذا هم يترددون لو أني استُقبِلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي معي حتى اشتريه وأحلّ كما أحلّوا"، بمعنى؛ أنني لو كنت أعلم بهذا المستوى الضحل من الايمان لدى عامة المسلمين لما جئت بالهدي (الذبيحة) حتى لا أجبرهم على ما يكرهون، ومنه كان تحريم مُتعة الحج من قبل عمر بن الخطاب، كما يتفق عليه جميع المؤرخين والمحدثين.
في مثل هذه الظروف النفسية، علاوة على قساوة المناخ، كان على رسول الله أن يصدع بالأمر الإلهي بشجاعته المعهودة لا يخاف في الله لومة لائم، مسدداً من السماء بـ {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ}، وهو الدعم المرافق للأمر بأن {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}، لتكون بيعة الغدير امتداداً لرسالات السماء التي تمرد عليها الناس على مر التاريخ، ولكن؛ لماذا الرفض والتمرد ياترى؟!
انه سؤال عريض وجوهري في قضية الولاية الإلهية، فهل استدلّ الانسان يوماً انها تلحق به الضرر في نفسه وأمواله وأهله؟! أو هل لديه ما يثبت بطلانها وصحة ما يقتنع به هو؟!
حتى الفلاسفة في تاريخ المعرفة لم يتعرضوا أبداً لرسالات الانبياء مباشرة، انما عكفوا على بحوثهم ومناقشاتهم لبلورة رؤاهم الخاصة إزاء الحياة والوجود والانسان، وأراهم بنفس درجة ذكاء سحرة فرعون عندما أيقنوا بصحة دعوة نبي الله موسى، وأنه ليس بساحر مثلهم، وأن عصاه الخشبية تحولت الى ثعبان حقيقي، مثل أي ثعبان رأوه من قبل، فآمنوا بالله، وكفروا بفرعون في لحظة صحوة تاريخية فاصلة، بينما فلاسفة اليونان وغيرهم لم يكونوا في ظروف مماثلة.
بين العقل والهوى
القرآن الكريم يبين لنا واحدة من الاسباب الجوهرية الكامنة في النفس تمنع صاحبها من بلوغ الحقيقة واليقين، وهي؛ تغليب الرغبات النفسية على العقل، وجاء الاصطلاح البلاغي الرائع في القرآن الكريم بـ "الهوى"، كناية عن المزاج والرغبة والميول العاطفية المتقلبة في كل آن مثل أوراق الشجر التي تحركها الريح، ولو راجعنا اسباب تنكّر الأمم للرسالات الإلهية وجدناها تافهة وغير منطقية بالمرة: {قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ}، في جواب قوم ابراهيم على نهيه عبادة الأوثان، أو التساؤل السطحي لفرعون: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى}، فهو غير مصدق أن يكون من سبقه على باطل، علماً أن السماء حاججتهم بعقولهم بأن {أولو كان آباكم لا يعقلون شيئاً...}، والامثال كثيرة من الكتاب المجيد لمن يريد الاستزادة، وأبرزها؛ محاججة نبي الله ابراهيم بعد تحطيم الاصنام وتركه الصنم الكبير ليسألوه عمن حطم الاصنام الصغيرة؟! وقد قالها أمير المؤمنين لأبناء زمانه وإلينا عن الغاية من بعث الرسل والانبياء بأنها: "ليثيروا دفائن العقول"، بمعنى أن يعيش الانسان في حياته بنور عقله لا بسياقات هواه المتمايلة والمتغيرة في كل لحظة.
ولعل سلسلة الاحاديث النبوية في حق وفضائل أمير المؤمنين، غايتها تحفيز العقول لاختيار الاحسن، وما يضمن للمسلمين على مر الزمن، الأمان والحرية والكرامة، وكل ما يحتاجه لسعادته في حياته.
مع كل هذا فان الاستسلام لضعف النفس أمام الرغبات والشهوات الآنيّة تدفع صاحبها نحو الاختيار الخاطئ، رغم معرفته طريق الحق والصواب، فهذه المعرفة لن تنقذه من الانزلاق في متاهات الانحراف والانصياع للحاكم الظالم.
الحالة السبُعية
ذهب علماء ومفكرون الى احتمال تحول الانسان الى سبُع ضارٍ لمجرد توفر قوى محفزة في نفسه وبيئته، لاسيما المال والسلطة من العوامل الخارجية، الى جانب الغضب كعامل داخلي، فانه يخرج من انسانيته على حين غرّة ساعياً للفتك بمن يقف دون تحقيق رغباته وتحقيق ذاته مثل أي حيوان مفترس في رحاب الطبيعة.
طبعاً؛ للإسلام كلمته في هذه المعادلة، فهو لا يقرّ بحتمية الحالة السبُعية مهما توفرت العوامل وتحفّزت القوى، لوجود عوامل أخرى أكثر قوة مثل؛ الإيمان والإرادة، تمكّن صاحبها من لجم الغضب والسيطرة على قوة المال والسلطة، ولو بدرجات معينة، استناداً على مبدأ الثواب والعقاب، والحساب حسب الأعمال يوم القيامة أمام محكمة العدل الإلهي، وإلا لانتفى هذا المبدأ العقلي بالاساس، كما يقول علماء العقائد.
وفي ظهيرة يوم الغدير أظهر البعض رضاه بما دعا اليه رسول الله، ومشى طواعية الى الخيمة التي نصبها لأمير المؤمنين ليمسح على يده بالبيعة بأنه الخليفة والحاكم بعد رسول الله، وفي المقدمة كبار "الصحابة"، بينما أظهر آخرون الغضب والرفض الشديد مثل ذاك الرجل الذي حاجج رسول الله بأن "هذا من عندك أم من الله"؟! ثم دعا على نفسه بأن "اللهم أمطر علينا حجارة من السماء"، ولم يلبث لحظات وهو يبتعد عن جموع المسلمين حتى نزلت حجارة من السماء تخترق رأسه وتخرج من دبره وتصرعه في الحال أمام دهشة جموع المسلمين، ونزلت فيه الآية القرآنية: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ}.
اعتقد أن أمثال هذا الرجل كانوا بين المبايعين ذلك اليوم، لكنهم كان أذكى منه، فأضمروا ردود أفعالهم للاحتفاظ بقدر من المصداقية امام النبي، و امام جمهورهم القبلي والعشائري، لأن النبي الأكرم تكلم عن الرسالة، وأستحلفهم بالله أنه أداها بأفضل ما يكون، ولم يدع لهم من شأن الاحكام والسنن الإلهية إلا بلغها لهم، فأجابوها بالتصديق، فتحينوا فرصة الغياب الكبير والنهائي لخاتم الانبياء والمرسلين في الارض ليعلنوا الانقلاب على المفاهيم والقيم من خلال تفسير جديد خاص بهم، وإقناع المسلمين بأن ما كان في عهد رسول الله يتعلق بزمان ماضٍ، ونحن اليوم في زمان جديد! مثال ذلك؛ ما تفوه به أبوبكر عندما خرج من الحجرة التي كان رسول الله مسجّى فيها وقال: "من كان يعبد محمداً فان محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فان الله حيّ"!
الغضب للذات وليس لله –تعالى- هو الذي جعل البعض يتنصّلون عن بيعة الغدير، وكأن شيئاً لم يكن، وما قولهم: "لا تجتمع النبوة والخلافة في بيت واحد"، إلا تبرير كاذب على شاكلة الحديث المكذوب: "نحن معاشر الانبياء لا نورث"، لاقناع الناس بواقع جديد تحت تهديد السلاح والخوف، أما المعارضون لهذا الانقلاب فان مصيرهم الاعتقال والتشريد والحرق والقتل.
بعد السؤال الأول الذي صدرنا به المقال، يقفز سؤال آخر، ربما يدور في خلد الكثير، وعلى مر الاجيال؛ وهل حقق الانقلابيون شيئاً من غايات وطموحات الناس، من سعادة وحرية وعدالة وكرامة انسانية؟
مما يؤسف له، مع غير قليل من الاستغراب والعجب من الشريحة الكبرى في الأمة أن تعد نظام حكم معاوية بن أبي سفيان هو النموذج الأمثل للنظام السياسي في الدولة الاسلامية، وليس نظام حكم أمير المؤمنين، عليه السلام، مع علم كبار القوم، منذ البداية وحتى اليوم بمن يكون معاوية؟ ومن يكون علي؟ حتى صدع بالحقيقة، أبرز أعداء أمير المؤمنين؛ عمر بن العاص في قصيدته "الجلجلية" بأن: "أين الثرى من الثريا وأين معاوية من علي".
سياسات قمعية، وظلم، وطبقية، وفساد مالي وأخلاقي، الى جانب حروب كارثية قوضت دعائم الحضارة الاسلامية وأفسحت المجال للآخرين لأن يتقدموا ويتطوروا ويأخذوا بناصية البلاد الاسلامية والمسلمين في كل مكان، ويجعلوهم مدينين لهم في كل شيء، حتى في الأمن والحرية والماء الذي يشربونه و رقادهم في الليل.
كل هذا من أجل تلبية لرغبة نفسية دنيئة على حساب نعيم مقيم وحياة نموذجية كما رسمتها قيم السماء، ولكن؛ {جَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}.
اضف تعليق