q

ثمة خلط يمارسه أصحاب المجالات الإبداعية ــ الأدبية تحديداً ــ بين رؤيتهم المتعلقة بمنجزهم والتي قد يذهب غالبيتهم إلى أنها فردية تمثل مشروعاً شخصياً ليس بالضرورة أن تعبر عن رأي وتوجهات الآخرين، وبين دورهم كمثقفين ينبغي أن يكونوا فاعلين في مجتمعاتهم على صعيد المواقف من الأحداث، وهذا يعني أن الثقافة ستكون عبارة عن توتر بين الوعي بالواقع من جهة، وبين الذهنية المتفاعلة مع الدور الثقافي في حال كان هناك دور أصلاً.

الخلط يكمن في تسرب الفردية المتعلقة بالمنجز الإبداعي إلى دوره في الحياة عموماً، الأمر الذي يجعل من فرديته سلالم يرتقيها ليصلَ إلى عزلة تبعده أكثر وأكثرعن واقعه وعن هم مجتمعه العام، وتجعله مثار تساؤلات الآخرين عن جدواه متمسكاً بفرديته التي تختصر الثقافة بوصفها مجموعة كتب ونظريات غير قابلة لتفعيل عناصر تنهض بالفكر والمعرفة من سباتهما العميق والمخيف.

أعتقد أن هذه الفردية مرتبطة بالتصورات الخاطئة للفاعلية المعرفية، وفي الحقيقة أن التصورات الخاطئة هذه تدور على محور يتعلق بحالة اليأس والاحباط التي تلازم المثقفين وكأنهم في " حالة انكشاف وَتَعَرٍّ أخلاقي وقيمي " على حد تعبير الكاتب والباحث اليمني (مصطفى البكيري)،الذي يعتقد أن من الصعوبة على مجتمعات تعيش الأزمات السياسية والأخلاقية أن تقدم تعريفاً أو معنىً لوصف المثقف.

المثقفون جراء الواقع المرير الذي يعيشونه في بلدانهم، هم أكثر شرائح المجتمع توقاً للحرية، ودائماً ما يصطدمون بعدة جدران، ويصرخون وصداهم يرتد عليهم وحدهم؛ لذلك نراهم يلوذون بفرديتهم منجزاً وكتابة ومواقف يائسين من أي عملية تغيير للواقع المرير.

وبطبيعة الحال، فإن الاغتراب الثقافي هو الأقرب لواقع المثقفين اليوم، والذي يجعلهم ميّالين للفردية الناتجة عن تشظي الهوية الثقافية بين موروث وحداثة، وبين سلوك المثقفين الذين يدعون الحداثة في المقاهي والندوات، بينما نراهم أقرب للبداوة في أماكن أخرى.

وقد تنتج عن هذه الفردية تداعيات تستغلها الجهات التي ستستثمر انزواء المثقف؛ لتمارس منهج التجهيل بالمعرفة، فيتفشى الخدر الثقافي والفكري في صفوف المجتمع، وقد تكون التداعيات أشد في حال انخرط المثقفون في مشاريع التجهيل التي لن تضر بفرديتهم بينما قد تعود عليهم هذه المشاريع بالفائدة كونهم ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا سلعاً جاهزة لترويج التجهيل.

ويلزم للتخلص من هذه الإشكالية النظر إلى قضية العلاقة بين المثقف والمؤسسات التي تعنى بالثقافة ونشر الفكر والابداع، فطالما كانت المؤسسات مرتبطة بسياسة الدولة أو بالأحزاب المتنفذة فيها؛ سنحصل على فعل ثقافي مؤدلج حتى مع الادعاء أو الاجتهاد في تأكيد استقلالية هذه المؤسسات؛ لذا نعتقد جازمين أن أوضح صيغة لإنتاج فعل ثقافي ينطلق من واقعه بعيداً عن الخلط بين فردية المنجز والموقف؛ هي تلك الصيغة التي تتعلق بفصل المؤسسات الثقافية عن أي ارتباط بما في ذلك الارتباط بالدولة.

قد يبدو هذا الطرح مستغرباً رغم أنه ليس بالطرح الجديد، غير أن الواقع الذي فرض نفسه خلال المراحل الأخيرة في بلداننا يؤكد على أزمة ثقافية كبيرة تعلقت بمواقف النخبة تجاه الأحداث، وأكثر المواقف تصدر في أكثرها عن عدم قناعة؛ لأسباب تتعلق في محافظة المثقف على وضعه الاجتماعي والمعاشي، خصوصاً بالنسبة للمثقفين العاملين في أجهزة الدولة كموظفين حكوميين، مايعني أن مواقفهم من الأحداث تكون حذرة جداً، وهذا الحذر يبدو منطقياً ما لم يتحول إلى تدجين كامل.

وهنا، ومع هذا التراجع الخطير للدور الثقافي في بلداننا، لنا أن نسأل عن جدوى بسط اليد الرسمية الحكومية على الفعل الثقافي ، خصوصاً في البلدان التي يغيب منطق الدولة عن وضعها السياسي في ظل سيطرة الجهات المتصارعة يميناً وشمالاً على الواقع السياسي.

لا نريد أن يُفْهم من كلامنا أننا ضد وجود مؤسسة ترتبط بالدولة وتعنى بالثقافة، بل نحاول إيصال فكرة عدم بسط يد المؤسسة الرسمية على الفعل الثقافي؛ لأن هذا البسط قد يخدش بصورة وأخرى صورة استقلالية الثقافة، ومع غياب الاستقلالية سنعود إلى مربع الفردية والانزواء، والتفكير بعدم الحاجة لفعل ثقافي أصلاً.

ماذا عن التشريعات التي تُمَكِّن الثقافة من التنفس المستقل؟

سؤال لابأس من طرحه طالما أننا في واقع يقول بدولة لها سلطة تشريعية تشرع القوانين، وأخرى تنفيذية تنفذ بشكل عملي ما يتم تشريعه من قوانين على كافة الصعد، فهل نستطيع الضغط على ممثلينا في السلطات التشريعية، من أجل تشريع قوانين تضمن استقلالية الثقافة والمثقف؟

ليس الأمر صعباً في حال توفر الرغبة في تقديم ثقافة حقيقية، ولعل أبرز ما يتم تشريعه من قوانين بهذا الصدد؛ قانون يتعلق بتوفير سكن لائق للمثقف وضمان صحي له ولعائلته، فضلاً عن قانون يتيح له التفرغ لمشروعه الإبداعي، المشروع الذي يتصل طبعاً بالهم العام وليس المشروع الذي يكرس الغموض والفردية التي لا تقدم شيئاً ذا قيمة.

مثل هذه التشريعات لو صدرت وتم تنفيذها بشكل شفاف وعادل ستعمل على غيمان المثقف بحضوره ودوره، وستدفعه أكثر للإبداع وإنعاش ذهنية التفاعل المجتمعي مع الثقافة.

اضف تعليق