المؤيدون يرون أن الخطوة بمثابة شهادة نضج سياسي، ورسالة للعالم بأن بغداد باتت قادرة على الإمساك بزمام أمورها. لكن المنتقدين يعتبرونها إشارة إلى فتور اهتمام المجتمع الدولي، وربما تخلياً مبكراً، خاصة مع استمرار أزمات الفساد، هشاشة الدولة، وضعف الثقة الشعبية بالمؤسسات...

في لحظة بدت أقرب إلى المفصل التاريخي، أعلن العراق انتهاء مهمة بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق (يونامي) بعد عقدين من العمل داخل البلاد. الحدث لم يكن مجرد قرار إداري أو دبلوماسي عابر، بل خطوة أثارت جدلاً عميقاً في الشارع العراقي وبين النخب السياسية والفكرية: هل هو إعلان بلوغ العراق مرحلة “الاستقلال الحقيقي”؟ أم أنه تخلي المجتمع الدولي عن العراق وتركه يواجه مصيره منفرداً؟

القرار يفتح أبواب الأسئلة أكثر مما يغلقها، لاسيما أن يونامي لعبت أدواراً متشابكة: سياسية، أمنية، تنموية، وإنسانية. فما الذي يعنيه غيابها؟

البعد السياسي

ماذا يعني الخروج؟

منذ 2003 ارتبط اسم العراق بالأمم المتحدة، بدءاً من قرارات مجلس الأمن، مروراً ببرامج الإغاثة وإعادة الإعمار، وصولاً إلى مراقبة الانتخابات. اليوم، يطرح انسحاب يونامي سؤالاً محورياً: هل صار العراق قادراً على إدارة ملفاته الداخلية دون إشراف دولي؟

المؤيدون يرون أن الخطوة بمثابة شهادة “نضج سياسي”، ورسالة للعالم بأن بغداد باتت قادرة على الإمساك بزمام أمورها. لكن المنتقدين يعتبرونها إشارة إلى فتور اهتمام المجتمع الدولي، وربما "تخلياً" مبكراً، خاصة مع استمرار أزمات الفساد، هشاشة الدولة، وضعف الثقة الشعبية بالمؤسسات.

مستقبل العلاقات الدولية

غياب يونامي لا يعني بالضرورة غياب الأمم المتحدة، لكنه سيؤثر بلا شك على حضور العراق في أجندة القرارات الأممية. فمن دون بعثة ميدانية، ستقل قنوات التواصل المباشر، وقد تتراجع فرص العراق في كسب دعم سريع عند الأزمات.

دبلوماسيون يحذرون من أن خروج البعثة قد يجعل العراق أكثر عرضة لتجاذبات القوى الكبرى، لا سيما في مجلس الأمن، حيث تتحكم المصالح الجيوسياسية في مسار القرارات. العراق سيكون بحاجة إلى مضاعفة نشاطه الدبلوماسي، وإلا فقد يجد نفسه في موقع المتلقي بدل الشريك.

دور القوى الداخلية

الفراغ الذي ستتركه يونامي قد يغري قوى محلية وإقليمية لملئه. بعض الأحزاب قد ترى في غياب البعثة فرصة لتوسيع نفوذها، بعيداً عن رقابة دولية. كما أن أطرافاً إقليمية مثل إيران وتركيا ودول الخليج قد تعزز تدخلها في الملفات العراقية، مستفيدة من غياب "العين الأممية.

هنا، يصبح السؤال: هل سيستثمر العراقيون الفرصة لبناء مؤسسات وطنية قوية تعوض هذا الغياب، أم أن البلاد ستنزلق نحو مزيد من التبعية للخارج؟

البعد الأمني

مراقبة الانتخابات

إحدى أبرز مهام يونامي كانت متابعة نزاهة الانتخابات. في بلد ما تزال الشكوك تحوم حول نتائجه الانتخابية، فإن غياب هذه المظلة يثير مخاوف جدية. من سيضمن أن صناديق الاقتراع ستُفرز إرادة الناخبين لا إرادة السلاح والمال السياسي؟

بعض المراقبين يقترحون أن تستعين المفوضية العليا للانتخابات بخبراء مستقلين ومنظمات مدنية عراقية، مع دعوة مراقبين دوليين عند الحاجة، لكن الأمر يتطلب إرادة سياسية حقيقية تضمن الحياد.

ملف حقوق الإنسان

لم يكن حضور يونامي كافياً لوقف الانتهاكات، لكن وجودها كان بمثابة “عين شاهدة” تجبر الحكومة على التعامل مع بعض الملفات. بعد انسحابها، يخشى ناشطون أن يقل الضغط الدولي في قضايا مثل حرية التعبير، مصير المختطفين، أوضاع السجون، وأوضاع النازحين.

في معسكر التفاؤل، يرى البعض أن المجتمع المدني العراقي بات أكثر وعياً، وربما يشكل بديل رقابة داخلية. لكن من دون دعم دولي، قد تواجه هذه الأصوات عزلة أو قمعاً أكبر.

البعد التنموي والإنساني

برامج التنمية المستدامة

ساهمت يونامي في ربط العراق بأهداف التنمية المستدامة (SDGs)، عبر مشاريع تخص التعليم، الطاقة النظيفة، والحوكمة. السؤال الآن: هل سيتراجع هذا المسار بعد الانسحاب؟

الجواب يعتمد على قدرة الدولة العراقية على تحويل هذه البرامج إلى سياسات وطنية. لكن مع أزمات الموازنة والفساد، يظل الأمر محفوفاً بالمخاطر. فالتنمية في العراق غالباً ما تتأخر أو تتعثر بسبب المحاصصة السياسية، أكثر من غياب الموارد.

المجتمع المدني

ربما كان الأثر الأبرز ليونامي هو دعمها للمجتمع المدني: منظمات نسوية، مبادرات شبابية، مشاريع بيئية. خروجها يضع هذه الحركات أمام اختبار صعب: هل تستطيع الاستمرار بالاعتماد على التمويل المحلي والشراكات الإقليمية، أم ستتراجع تدريجياً مع غياب المظلة الأممية؟

بعض الناشطين يعتبرون أن اللحظة قد تكون فرصة لإثبات استقلالية هذه الحركات بعيداً عن “الوصاية الدولية”. آخرون يخشون أن تنكمش المساحات المتاحة أمامها، خصوصاً إذا شددت السلطات الرقابة أو فرضت قيوداً جديدة.

البعد الرمزي والفلسفي

بين الوصاية والاستقلال

فلسفياً، يمكن النظر إلى انسحاب يونامي كإعلان “نهاية الوصاية” وبلوغ العراق مرحلة الاستقلال. بعد عقدين من الحروب والاحتلال والفوضى، يبدو المشهد وكأن الأمم المتحدة تقول للعراقيين: "أنتم الآن وحدكم".

لكن هذه الحرية الظاهرية قد تتحول إلى عبء. فالعراق ما زال يعاني من انقسامات قومية وطائفية، ونظام سياسي متشظٍ. الاستقلال الحقيقي لا يقاس برحيل بعثة دولية، بل بقدرة الدولة على ضمان سيادة القانون وتكافؤ الفرص.

الذاكرة الجمعية

كيف سيتذكر العراقيون يونامي؟ الجواب ليس موحداً. للبعض، ستظل مجرد “مراقب متفرج” لم يوقف الدماء في أحداث كبرى مثل انتفاضة تشرين أو اجتياح داعش. للبعض الآخر، ستبقى رمزاً لدور المجتمع الدولي في إعادة إعمار جزئي للبلاد، أو على الأقل كصوت خارجي كان يفضح الانتهاكات.

الذاكرة الجمعية للشعوب عادة ما تختزل التجارب في رموز: فإما أن تُذكر يونامي كحامٍ خجول، أو كضيف ثقيل لم يفعل الكثير.

بين الفراغ والفرصة

في حال رحيل يونامي ليس يكون نهاية القصة، بل بداية فصل جديد في علاقة العراق بالعالم. أمام بغداد خياران: أن تنكفئ على أزماتها الداخلية وتترك الساحة لصراع النفوذ، أو أن تستثمر اللحظة لبناء نموذج دولة أكثر استقلالية وسيادة.

الخيار ليس سهلاً، لكنه ضروري. فالعراق بعد انسحاب يونامي سيواجه العالم بوجهه العاري: إمّا أن يكون قادراً على كتابة تاريخه بيده، أو أن يظل أسيراً لإملاءات الآخرين.

اضف تعليق