إلى كل أب وأم يظنان أن القسوة دليل على الحزم، تذكروا أن الطفل لا يحتاج يدا تضربه، بل يدا تحتويه. وأن التربية ليست معركة بين طرفين، بل رحلة فهم مشتركة، وإلى المجتمع الذي يتفرج على مقاطع العنف قبل أن يبلغ عنها، تذكروا أن الصمت شراكة في الجريمة...

غالباً ما نصحو على مقاطع مصورة تهز ضمائرنا أب يضرب ابنه، وأم تصرخ بوجه طفلتها، وأصوات بكاء مكتومة تحاول الاستنجاد بعدسة هاتف يصور الجريمة بدلا من منعها. تتناقل المنصات تلك المقاطع بسرعة جنونية، ثم لا تمضي ساعات حتى نقرأ في الأخبار أن جهاز الأمن الوطني أو وزارة الداخلية العراقية ألقت القبض على الأب أو الأم المتورطين بالعنف الأسري. وهنا يعلو السؤال الذي لا يريد أحد أن يواجهه: هل انتهت القصة حقا عند لحظة القبض؟

في الواقع، ما يحدث ليس مجرد حادثة عابرة، بل هو مرآة مشروخة تعكس وجعا اجتماعيا أعمق من مشهد التعنيف نفسه. فحين يرفع الأب يده على ابنه، أو تجر الأم ابنتها من شعرها، نحن لا نشاهد فقط فعلا عنيفا، بل نشهد انهيارا في مفهوم التربية، وسقوطا أخلاقيا في قيم الأمان الأسري.

تربية أم انتقام؟

يختلط على كثيرين مفهوم التربية بالعقاب، حتى بات بعض الأهل يظنون أن الضرب هو الطريق الأقصر لتقويم السلوك، وكأن العنف يعلم، أو الخوف يصلح. لكن الحقيقة أن العنف لا ينتج إلا العنف، والطفل الذي يضرب اليوم سيتعلم غدا أن الضرب وسيلة للتفاهم، وأن القوة تبرر القسوة.

قد يبرر البعض هذه الأفعال بعبارات من قبيل: "أريد مصلحته" أو "العصر تغير والأولاد لا يسمعون إلا بالعصا". لكن هذا التبرير مجرد محاولة لتجميل السلوك الخاطئ. فالمجتمع الحديث لا يقيس التربية بمدى الخضوع، بل بمدى القدرة على بناء شخصية واثقة قادرة على التمييز بين الصواب والخطأ دون خوف.

القبضة الأمنية ليست الحل وحدها

لا شك أن تدخل الأجهزة الأمنية ضرورة لحماية الطفل وردع الجناة، لكن القبض على الجاني لا يعالج الجذر. فالمشكلة تبدأ في البيت، وتمتد في المدرسة، وتتغذى من بيئة اجتماعية لا تزال تبرر العنف باسم "الرجولة" أو "الحرص".

ينبغي أن تستكمل الإجراءات الأمنية بخطوات تربوية ونفسية جادة، منها:

_تأسيس وحدات دعم نفسي للأسر التي يكتشف فيها العنف الأسري، بدلا من الاكتفاء بالعقوبة القانونية.

_تفعيل دور المدارس والمؤسسات التربوية في رصد السلوك العنيف وتقديم الإرشاد المبكر.

_إطلاق حملات توعية وطنية تشجع على الحوار الأسري وتعليم الأهل أساليب التربية الحديثة.

_فالعنف لا يعالج بالسجن فقط، بل بالفهم، وبإعادة بناء الثقة المهدمة بين أفراد الأسرة.

الإعلام بين الوعي والاستعراض

من المؤسف أن بعض صفحات التواصل الاجتماعي تتعامل مع هذه الحوادث وكأنها محتوى للترفيه أو الصدمة لجذب التفاعل. تعرض مشاهد الضرب والدموع تحت عناوين مثيرة، فيتسلى الناس بالمأساة بدل أن يتأملوا رسالتها.

الإعلام، بدل أن يكون شريكا في الحل، أصبح أحيانا جزءا من المشكلة. المسؤولية الإعلامية تفرض أن تعرض القضية بهدف التوعية لا الفضول، وأن يقدم الخبر في سياقه الحقوقي والإنساني، لا كسباق على المشاهدات.

طفل اليوم... مواطن الغد

كل صفعة توجه لطفل اليوم هي صفعة توجه لمستقبل الوطن. لأن الطفولة التي تهان لا يمكن أن تنتج جيلا واثقا أو مبدعا. في داخل كل طفل يعذب، يزرع شعور بالدونية والغضب، يتحول لاحقا إلى سلوك عدواني أو انسحاب من المجتمع.

إن الدولة التي تحمي طفلها، تحمي نفسها من الانهيار الأخلاقي. لذلك فإن مكافحة العنف الأسري ليست مجرد قضية اجتماعية، بل هي قضية وطنية تمس الأمن النفسي والاجتماعي، تماما كما تمس قضايا الإرهاب والمخدرات والفساد.

رسالة أخيرة

إلى كل أب وأم يظنان أن القسوة دليل على الحزم، تذكروا أن الطفل لا يحتاج يدا تضربه، بل يدا تحتويه. وأن التربية ليست معركة بين طرفين، بل رحلة فهم مشتركة.

وإلى المجتمع الذي يتفرج على مقاطع العنف قبل أن يبلغ عنها، تذكروا أن الصمت شراكة في الجريمة.

لقد آن الأوان لأن ندرك أن العنف الأسري ليس شأنا خاصا، بل هو قضية رأي عام، ومسؤولية جماعية تبدأ من البيت، ولا تنتهي عند بوابة المحكمة.

اضف تعليق