وبما أن القصيدة الحديثة بنوعيها (التفعيلة وقصيدة النثر) تسعى إلى تقديم خطاب رؤيوي يحفل بالعمق الفكري والمدلول الجمالي المنفتح الدلالات، فإن السؤال يبقى مشرعا أبوابه: أما آن الأوان لهذه القصيدة أن تقدم قراءة جديدة تعيد للحسين حضوره الرمزي العابر للطوائف والانتماءات...

لم يكن الإمام الحسين (ع) مجرّد شخصية دينية أو تاريخية، بل هو يمثل رمزًا كثيف الدلالة، مفتوحًا على إمكانيات تأويلية لا تنضب. ومن هذا المنطلق فإن عملية التعامل مع هذه الشخصية العظيمة بصورتها المجردة من صبغتها الدينية المترسخة في الوعي الجمعي الإسلامي والمستمدة من رابطة الانتماء النسبي والمرجعية العقائدية، لن تضعف أو تخل بما انطوت عليه من سمات فريدة، ولكنها ستسهم في تنقية الرؤية الملبدة والمتبلدة، وتمنحها أفقا واسعا يتسم بالصفاء يمكن النظر من تبيّن الحقيقة الكبرى لعظمة هذه الشخصية وفعلها الثوري المنقطع النظير، باعتباره يمثّل أنموذجًا للثورة على الظلم، وللشهادة بمعناها الأخلاقي العميق، وللتمرد النبيل الذي لا يُهادن الطغيان، والفكر الانساني العابر لتصنيفات العنصرية والقومية والدينية.

 وعلى الرغم من هذا الثراء الرمزي والوجداني، إلا أننا نجد أن حضور الحسين في الشعر الحديث، خاصة في تجلياته الحداثية وقصيدة النثر، جاء باهتًا أو محدودًا، إن لم نقل غائبًا.

ولعل هذا الغياب المثير للدهشة والغرابة يفتح كثيرا من نوافذ التساؤل، خاصة إذا ما قورن بشغف الشعراء المحدثين بالرموز الكبرى، سواء تلك المستقاة من الأسطورة الشرقية أو الغربية، أو من الرموز الصوفية، بل حتى من الرموز الفلسفية والفنية الحديثة.

لقد احتفى الشعر الحديث مثلًا بـ"جلجامش" و"عشتار" و"أوديب" و"بروميثيوس"، كما انفتح على رموز كالمسيح والخضر والحلاج والسهروردي... لكن رمزية الحسين، بكل ما تختزنه من عنفوان وجودي وجمالي وروحي، لم تنل ما تستحقه من اشتغال شعري حداثي معمّق.

وهنا يبرز السؤال المثير للعجب: ما سبب هذا التردد؟ ولماذا لم يُستثمر هذا الرمز كما استُثمرت الرموز الأخرى؟

وقد تظهر لنا جملة من الاحتمالات التي يمكن التوقف عندها والإشارة إليها في إطار محاولة الفهم وليس في دائرة مقاصد التبرير:

1 - الهواجس الأيديولوجية والمذهبية

ربما يخشى بعض الشعراء من أن يُفهم استدعاؤهم للحسين على أنه انتماء مذهبي ضيق، أو توظيف دعائي لقضية طائفية، لا سيما في ظل الاصطفافات السياسية التي باتت تسيّس كل ما هو رمزي أو ديني. وقد يكون هذا التخوّف مفهومًا، لكنه لا يبرر، من وجهة نظر جمالية، هذا التردد في مقاربة الرمز الحسيني، خاصة حين يتم تجاوزه بصياغة شعرية تتجاوز الانغلاق الطائفي نحو مقاربة عميقة للقيم الانسانية التي تزخر بها شخصية الحسين وثورته بكل أبعادها وتفاصيلها.

2 - الرهبة من الاقتراب من رمز "مشبع" وجاهز

وقد يخشى بعضهم من أن رمزية الحسين محاطة بقداسة عالية، وبتراكم خطابي ديني وشعبي كثيف، يجعل من الصعب تفكيكها أو إعادة إنتاجها دون الوقوع في "التمجيد التقليدي" أو "الخطابية الحسينية" ذات الطابع الوعظي أو العاطفي المكرور، وهي خشية ناتجة عن انغلاق فكري نجح في إقامة حاجز نفسي وذهني وهميين ساهما في تحطيم كل ما يمهد لمحاولة التعامل مع تلك الرمزية الثرية.

3 - انفصال بعض شعراء الحداثة عن الرمزية الدينية الأصيلة

مضافا لما سبق فإن انشغال كثير من شعراء الحداثة العربية بتقليد النماذج الغربية والرموز الإغريقية والوجودية، أدى إلى اهمالهم الرموز المتجذرة في بيئتهم الروحية والثقافية، إمّا خوفًا من التورط في "التراثي"، أو لاعتقادهم أن المعالجة الحداثية للرمز الديني غير ممكنة.

لكن الواقع أن رمزية الحسين تحتمل أكثر من قراءة، وأكثر من زاوية إبداعية. فهي رمزية مأساوية، ثورية، صوفية، أخلاقية، شعرية، تمثّل تجليًا حادًا للصراع بين الحق والباطل، النور والظلام، التضحية والاستسلام. وهي لذلك قابلة لأن تكون مادة خصبة لقصيدة حداثية تتجاوز المباشرة والهتافية، نحو تأويل درامي أو وجودي أو رؤيوي.

ورغم ما أشرنا إليه سابقا إلى أننا لا نغفل أن ثمة محاولات لعدد من الشعراء، وإن كان محدودا، سعوا إلى الاقتراب من هذا الرمز، بيد أن اشتغالهم لم يكن كثيفًا ولا مستمرًا. كما أنه لم يتسم بالعمق وربما وقع في المباشرة والمحاكاة السيرية، ومع ذلك فإننا لا نعدم من العثور على نماذج مضيئة استطاعت التعامل بأسلوب رؤيوي يحمل الكثير من الجماليات، كما هو عند شوقي بزيع وأدونيس على سبيل المثال لا الحصر.

لا شك إن الحسين (ع) ليس ملك طائفة أو مذهب وإن حاول بعضهم خطأ وانحرافا حصره في هذه الدائرة الضيقة، بل هو كائن رمزي حي في ضمير الإنسانية، ومأساته المشرعة على المعنى والحرية والدمع، تتيح للقصيدة الحديثة أن تجد فيه تجسيدًا للنقاء المتمرد، للصرخة الجمالية في وجه القبح، وللمعنى في مواجهة الفراغ.

وإذا كان الشعراء قد استثمروا "المصلوب" و"المطرود من الجنة"، و"المتمرد على الآلهة"، فلِم لا يستثمرون "الثائر الذي واجه الموت بعينين من نور؟".

وإذا كانت القصيدة العمودية استنفرت كل طاقاتها في الاشتغال على شخصية الإمام (ع) وثورته بكل شخوصها ورموزها، بمختلف الأساليب والأشكال، إلا أنها بقيت محدودة الوسائل وربما هيمنت عليها الصبغة المناسباتية، رغم محاولات البعض في التفلت من الخطابية والمباشرة.

وبما أن القصيدة الحديثة بنوعيها (التفعيلة وقصيدة النثر) تسعى إلى تقديم خطاب رؤيوي يحفل بالعمق الفكري والمدلول الجمالي المنفتح الدلالات، فإن السؤال يبقى مشرعا أبوابه: أما آن الأوان لهذه القصيدة أن تقدم قراءة جديدة تعيد للحسين حضوره الرمزي العابر للطوائف والانتماءات.

اضف تعليق