لم تكن الأفورزمية أسلوباً جديداً في مدلولها العام، فتمثلات هذا الأسلوب يمكن أن نعثر عليها في الفلسفة والأدب الغربي والعربي بمختلف أزمنتهما. وما يقصد بمصطلح الأفورزمية (Aphorism) هو الأسلوب الذي يميل إلى صياغة الكلام في جُمل قصيرة، مكثفة، تحمل معنى عميقا أو حكمة أو مفارقة، بحيث يمكن أن تقرأ مستقلة بذاتها...

لم تكن الأفورزمية أسلوباً جديداً في مدلولها العام، فتمثلات هذا الأسلوب يمكن أن نعثر عليها في الفلسفة والأدب الغربي والعربي بمختلف أزمنتهما. وما يقصد بمصطلح الأفورزمية (Aphorism) هو الأسلوب الذي يميل إلى صياغة الكلام في جُمل قصيرة، مكثفة، تحمل معنى عميقا أو حكمة أو مفارقة، بحيث يمكن أن تقرأ مستقلة بذاتها.  

ويرجع مصدر هذا المصطلح إلى الكلمة اليونانية (aphorismós) وتعني القول الموجز الحاسم، وقد ظهر هذا المصطلح لأول مرة عند أبقراط في كتابه الأفورزمات The Aphorisms)) الذي جمع فيه جملًا قصيرة عن الطب، ثم انتقل هذا المفهوم إلى الأدب والفلسفة، حيث صار يعني: صياغة رؤية كبرى في عبارة صغيرة.

ولم تكن الأفورزمية في الأدب الحديث مجرد شكل كتابي، بل أصبحت وعياً جمالياً يفضل اللمحة على السرد، والومضة على الإسهاب، على الرغم من افتقار النقد العربي لرصد ملامح وجماليات هذه التقنية في الأدب العربي، بل أن تمثلاتها ربما لم تكن عن وعي أو قصدية لمفهوم الأفورزمية، وبناء على ذلك فإننا لن نجازف في توصيفها على أنها تقنية أسلوبية، لأن ذلك ينطوي على مغالطة مفاهيمية، ومن هنا فإننا يمكن أن نشير إلى توفرها كملامح سواء في أدبنا القديم أو الحديث في ركنيه (الشعري والنثري). أما في الأدب الغربي فإن تمثلاتها يمكن أن نجدها في بعض كتابات نيتشه وكافكا، وهناك كتاب لبرنارد شو يحمل في طياته مقولات أفورزمية وقد جاء تحت عنوان (Aforyzmy) وهذا يعني أن استخدام برنارد شو جاء عن وعيٍّ وقصدية. 

ويمكن أن نجد ملامحها في الشعر الوجيز الحديث (قصيدة الومضة، أو قصيدة الهايكو الياباني). وكذلك النصوص العربية الومضية التي تجمع بين الشعر والحكمة، وفي أدبنا العربي القديم ما يحمل هذه الملامح كالمقولات القصيرة للإمام علي (ع) أو الأبيات التي تنطوي على الحكمة في كثير من شعر الشعراء العرب، والتي ما زالت تدور على ألسنة الناس، وهي أكثر من أن تحصى كما في قول زهير بن أبي سلمى في معلقته: "وَمَنْ يَجْعَلِ المَعْرُوفَ فِي غَيْرِ أَهْلِـهِ/ يَكُـنْ حَمْـدُهُ ذَمـاً عَلَيْـهِ وَيَـنْـدَمِ". وقول المتنبي: "أعز مكان في الدنا ظهر سابح / وخير جليس في الزمان كتاب".

ومع التحولات الحديثة في أساليب الشعر وتقنياته ووظائفه، باتت تجليات الأفورزمية تكتسب مواصفات أخرى تتمثل في المفارقة وكثافة العبارة وعمق الدلالة، ويمكننا أن نشير بشيء من التأكيد إلى وجود تجارب غنية وثرية في هذا المجال خاصة في بعض نماذج قصيدة النثر، ولعل في تجربة الشاعر العراقي البصري كاظم الحجاج، مثالاً بارزاً تتجلى فيها ملامح الأفورزمية بشكل يستدعي الوقوف عليها وتحليلها وبيان جمالياتها وثرائها الدلالي.

فنصوص الحجاج الوجيزة تأتي مثل ومضة الضوء، تبرق سريعاً، لكنها تترك أثراً طويلاً في الذهن، وما يميزها هو أنها لا تبحث عن الامتداد، بل عن الكثافة، ولا تتكئ على السرد المطوّل بل على الإيجاز المشحون بالدهشة.

وفي كتابه الأعمال الشعرية الصادر عن دار سطور في طبعته الأولى عام 2017 تبرز للقارئ طبيعة الاشتغال المعماري لتلك النصوص، فهي رغم تنوعها من حيث الطول، إلا أنها تبدو ملتزمة خطاً واحداً يتمثل في التكثيف والمفارقة، حتى النص الطويل هو في الواقع عبارة عن ومضات متلاحقة، قد ترتبط بموضوع واحد أو عدة مواضيع. ونحن هنا سنقصر قراءتنا على نماذج من النصوص القصيرة، لنبين المنحى الأفورزمي في تجربة الحجاج.

في نص "تحرير" والذي يقول فيه: "الدمعة ماء مسجون/ ينتظر الحرية/ من حزن.. قادم".

نجد أن الدمعة قد تحولت إلى استعارة كبرى، (ماء مسجون) والمفارقة هنا أن الحرية لا تأتي من الفرح بل من الحزن ذاته، ما يجعل الصورة تنقلب على توقع القارئ، وتكثّف إحساس الوجع في لحظة واحدة.

أما في نص "لولا" فيقول:" أجمل بيت فوق الأرض/التفاح/ لولا../ أن الساكن.. دود !".

 فالمفارقة هنا تصبح أكثر قسوة، إذ تتجلى الطبيعة الأفورزمية في بناء حكمة مرة بعبارة قصيرة، تتمثل بصياغة تنقل تجربة إنسانية من خلال صورة بسيطة تتمثل في (جعل التفاحة بيتاً)، يتسم ببهاء الشكل ولكن سرعان ما يُسلب الجمال من داخله؛ ليرسم لنا صورة ذات عمق وسعة في دلالتها، تتمثل بخداع المظهر وتآكل الجوهر.

في نص آخر يحمل عنوان (جنوبيون) يقول الحجاج:" مثل خبز الأرياف/ خرجنا من تنانير أمهاتنا ساخنين"، في هذا التركيب لا نجد هنا تشبيهاً مجرداً، بل هو تركيب ينطوي على مشهد كوني: حيث الإنسان هنا يخرج من رحم أمه كما يخرج خبز الريف من التنور، ساخناً، ممتلئاً برائحة الوجود الأولى، وفي هذا المقطع نلحظ أن ثمة تركيباً انزياحياً يخترق المألوف من خلال قلب العلاقة بين الإنسان والخبز: فبدل أن يُشبَّه الخبز بالإنسان، نرى الإنسان يُعاد إنتاجه في صورة خبز الأرياف. هنا يتحقق الانزياح عبر تحويل الإنسان إلى رغيف خرج من تنانير الأمهات، في مشهد يخلخل منطق التشبيه العادي ويجعله معكوساً. وهذا التحول يُفضي إلى بناء صورة وجودية عميقة، حيث الإنسان ليس غير مادة بسيطة (ماء، تراب، عجين) يمر بتجربة النار/ الحياة، ثم يخرج إلى العالم ساخناً، نابضاً بالدفء مثل خبز خرج لتوّه من التنور. وهكذا تتجاوز الصورة حدود التشبيه التقليدي، لتصبح استعارة كبرى تعيد صياغة الكينونة الإنسانية في رمز يومي حميم.

ثم تأتي الخاتمة لتبين النتيجة الغائية لهذا الخروج الساخن :"لأجل أن نليق.. بفم الحياة." وهنا يأتي فم الحياة حاملاً صورتين، صورة الملتهم الذي يمضغ (الخبز الساخن)، ليحيله إلى مادة مسحوقة، وصورة تجعل من هذا (الفم) فضاءً يستشعر بالحياة من خلال سخونة ذلك (الخبز، الانسان). 

أما نص "تبشير" والذي يقول فيه " كانت الحسناء.. تنشر الإيمان بخالقها/ أسرع من جيش من المبشرين/ فأينما مشت،/ تتردد من حولها: ((سبحانك))" فهو يمثل أفورزمية جمالية-روحية، من خلال تحويل الحسناء إلى مبشّرة من دون قصدية، فيجعل جمالها دليلاً على عظمة وقدرة الخالق بدلاً من أن يكون غواية دنيوية. وتكمن قوة النص في المفارقة والاقتصاد، وفي الانزياح من المعنى الظاهر للجمال إلى معناه الكوني-الإيماني.

إذن، ما يجمع ويميز هذه النصوص هو أنها لا تقول كلّ شيء، لكنها تلمّح، وتترك بياضاً للمتلقي ليملأه، وتكثّف المشهد في عبارة موجزة تحفر أثرها في الذاكرة. فالأفورزمية هنا ليست مجرد شكل كتابي، بل هي وعي جمالي يفضّل اللمعة على الامتداد، والدهشة على الإسهاب.

اضف تعليق