رعاة الديمقراطية اليوم لا يحاربون الوعي كمفهوم وحتى ممارسة جماهيرية على ارض الواقع، إنما يعملون على تغييبه من خلال انتزاعه من الثقافة العامة كمادة غير ضرورية في الغذاء الثقافي والفكري للجماهير. يتم هذا على مسارين: أحدهما في الميدان الثقافي، والآخر؛ السياسي...

من الآن تبدأ عملية صناعة الوعي الانتخابي في صفوف الجماهير استعداداً للدورة الانتخابية القادمة بالرقم (7) رغم مضي أيام على انتهاء الدورة الانتخابية الأخيرة بتفاعل جماهيري ملحوظ وغير متوقع، وعودة الناس الى بيوتهم بعد الإدلاء بآرائهم في صنادق الاقتراع، واسعداد الفائزين لأخذ مقاعدهم في "بيت الشعب" مجلس النواب، والسبب في الاستعداد المبكر أراه بسيطاً؛ في الحاجة لمعرفة كاملة بالمرشحين للانتخابات، وايضاً؛ بالكيانات السياسية الحاملة هؤلاء الى الترشيح، تشمل الرصيد الثقافي، ومصادر التمويل، وامكانيات التنفيذ، بل وحتى النوايا والمقاصد، وإن كان بمستوى "إظهار حُسن النوايا"، وهذا ليس من المثالية بشيء اذا قارنا الموضوع بارتباط مصير الناس (الناخبين) بأشخاص سيجلسون على مقاعد مجلس النواب ويتحكمون في لقمة عيش الناس، وحريتهم في العمل والعقيدة.

مصير الوعي أمام طريقين

طالما حذر المثقفون والمفكرون من مغبة مصادرة الوعي، بعد مصادرة حرية التفكير من قبل أجهزة السلطة الديكتاتورية من خلال التغرير او التهديد مستندين على تاريخ مرير من التعسف والاضطهاد، بيد أن تطورات الزمن تضعنا امام تجربة جديدة في التعامل مع مسألة الوعي الجماهيري، وتحديداً ما يتعلق بالتجربة الديمقراطية والانتخابية، كما هو الحال في العراق إذ لا عسف في تغييب الوعي، فهو ينتزع بشكل بارع انتزاع الشعرة من العجين! وفق رؤية سياسية جامحة تنزع الى تجاوز المراحل سريعاً لتحقيق الحضور في مؤسسات الحكم في سباق محموم يراه الجميع بأعمّ أعينهم.

رعاة الديمقراطية اليوم لا يحاربون الوعي كمفهوم وحتى ممارسة جماهيرية على ارض الواقع، إنما يعملون على تغييبه من خلال انتزاعه من الثقافة العامة كمادة غير ضرورية في الغذاء الثقافي والفكري للجماهير. 

يتم هذا على مسارين: أحدهما في الميدان الثقافي، والآخر؛ السياسي.

في الميدان الثقافي، ومن خلال المنبر الإعلامي، يجري التثقيف على عدم حاجة المواطن لأن يبذل كثير عناء للبحث والمطالعة والتحليل والتنقيب فثمة أقلام وأفواه تضخ كماً هائلاً من المعلومات والتحليلات والرؤى الرامية الى الحقيقية، وهو ما نلاحظه تحديداً في الاحاديث السياسية على القنوات الفضائية، وايضاً؛ على مواقع التواصل الاجتماعي، بل وحتى بعض الساسة عندما يظهرون في الاعلام وهم يحملون راية الإصلاح ومحاربة الفساد وخدمة المواطن من خلال التشهير بهذا او ذاك بالوثائق والأدلة القاطعة، ثم يكون النجاح في مشاعر الارتياح والنشوة في الشارع بفضح هذا او ذاك، كما لو أن الفساد بالأساس مرتبط بأشخاص!

أما في الميدان السياسي فان المهمة أسهل وأخطر في آن، فان اسلوب الترضية و تلبية الحاجات الضرورية في وضع اقتصادي ومعيشي مأزوم، من شأنه زرع الشعور بالاكتفاء ما دامت الحاجات الآنية متحققة، مثل؛ الوظيفة، والراتب المُجزي، مع حزمة خدمات ظاهرية بعيدة عن البنية التحتية، مع الترويج لشعور بائس بعدم جدوائية الكلام عن الاصلاح ومحاربة الفساد في بلد مثل العراق تديره مصالح اقليمية ودولية متقاطعة، تشترك في مكان فيه، وتختلف في أخرى، وهي "كلمة حق يُراد بها باطل"، ولسان الحال: "اذا أفنينا عمرنا في المطالعة والمتابعة للوصول الى الحقائق، فان الفاسدين سيستفيدون من عمرهم في استنزاف ثروات البلاد والعباد لبناء القصور، داخل وخارج البلاد، واقتناء السيارات الفارهة، وتأمين أرصدة مالية لهم ولأفراد عائلاتهم للمستقبل البعيد"، و يعزز من هذه القناعة أمثال شعبية من التراث الانهزامي مثل: "شعرة من جلد الخنزير".

ولأن صناعة الوعي بالأساس تحتاج لمراحل زمنية طويلة مع صبر وطول أناة للنضوج، فان أهل الحكم والباحثين عن الامتيازات السريعة لا يروق لهم هذا المنهج، فضلاً عن استشعارهم الدائم بالمخاطر في بلوغه مستويات عالية، على مستقبلهم السياسي، فعندما يعي المواطن وضعه الخاطئ، وأنه لا سبيل إلا للتغيير الشامل والحقيقي لهذا الوضع، ولو تدريجياً، بينما نلاحظ السعي الجادّ لتكريس الشعور الايجابي بالوضع القائم، وأن "ليس بالإمكان أفضل مما كان"، كما يقول بعض الفلاسفة، ثم "إن من يتحدث عن الفساد، لو أتيحت له الفرصة هل سيكون أفضل من الفاسد الذي ينتقده"، وهو ما صرّح به علناً، أن أبرز قادة المشهد السياسي في العراق!

المواطن يقود وعيه بنفسه

في أجواء الحرية السائدة في العراق، والتي أعدها شخصياً الأفضل بين ما تعيشه شعوب عدّة في الشرق الأوسط، تقع مسؤولية كبيرة على كل فرد من افراد الشعب العراقي لأن يقتحم غمار الثقافة والمعرفة متسلحاً باليقظة والحذر ليصل الى الحقائق ولو بنسبة معينة، بعيداً عن التشويش والتشويه.

إن الوعي ليس هدية تقدم على طبق من ذهب، بقدر ما هو بُغية الطامحين للنجاح في الحياة من خلال العيش في أجواء تسودها العدل والمساواة والكرامة الانسانية، حتى من تكون مهمتهم نشر الوعي والثقافة مثل؛ الخطباء، والعلماء، والأدباء، فانهم يعطون الخطوط العريضة تحفيزاً لسلوك طريق الحق والفضيلة، مثل ماء المطر المنهمر على الأرض يسقط على الأواني والمنخفضات والجداول فيأخذ كلٌ حسب استيعابه، وفي مشروع الوعي نحتاج تعبئة شاملة لأن يتسلّح الجميع بقيم الحق والفضيلة لمحاربة الفساد والجهل والتضليل، قبل التفكير بالإصلاح والتغيير.

وقبل الختام، من الجدير الاستفادة من عبر التاريخ، وكيف كانت المعاناة الكبيرة لأمير المؤمنين، ومن بعده أبناه؛ الحسن والحسين، عليهم السلام، بل وحتى من قبلهم جميعاً؛ الرسول الأكرم، من المنسوب الضئيل للوعي في نفوس المسلمين الأوائل، فقد كانت ثقافتهم دينية، لكنها منزوعة الوعي، فلو كان ثمة وعي بالمرحلة التاريخية الفاصلة والحاسمة في الأيام الاخيرة لحياة النبي، وتعبأ الجميع لجيش أسامة، لكانت الدولة الاسلامية آنذاك قد تغلبت على الدولة البيزنطية، و وفرت الدماء والعناء، وكل ما تجرّعه المسلمون فيما بعد، وكذا الحال بالنسبة لأمير المؤمنين الذي انضم الى جيشه الآلاف من المسلمين لمحاربة الناكثين في البصرة –حرب الجمل- ونفس هذا الجيش عندما واجه جيش معاوية في صفين انشقّ منه أربعة آلاف مسلم قالوا بكفره و وجوب قتله! والسبب إنه المسلم فيهم كان جندياً مطيعاً للقائد، وليس جندياً واعياً بمعنى القائد، وإنه لم يكن قائداً عسكرياً وحسب، وإنما إماماً مفترض الطاعة.

ولنا ان نتسائل: كيف خرج عمّار، و أبو ذر، ومالك الأشتر، ومحمد بن أبي بكر، وحبيب بن مظاهر، و زهير بن القين دون غيرهم من آلاف المسلمين آنذاك، هل اختارهم المعصومون، عليهم السلام، دون غيرهم لتغذيتهم بالوعي والثقافة؟ أم إنهم تميزوا عن الآخرين بجهدهم الذاتي للبحث عن المعرفة والحقيقة فصاروا من الخالدين، ممن تدعو الاجيال عند مراقدهم: "ياليتنا كنّا معكم فنفوز فوزاً عظيماً".

وعليه؛ فعندما تفشل مشاريع الإصلاح في السياسة والاقتصاد والاجتماع، وتنهار وتنحرف مشاريع التغيير من الديكتاتورية الفردية الى ديكتاتورية من نوع آخر، فان المشكلة ليست في "الفواعل السياسية" على الساحة فقط، إنما المسؤولية على الجماهير بأن تتجه الى "وعي ذاتي" من خلال المطالعة والمتابعة ليكون اختيارها صحيحاً، وتضع الشخص المناسب في المكان المناسب، وكلما اتسعت مساحة الوعي بين الجماهير، انحسر التضليل والخداع، واشتدّ على الفاسدين الخناق. 

اضف تعليق