الغضب ينتج الحبّ! هذا ما لا نقرأه في الكتب، ولكن نقرأه في سيرة الصديقة الطاهرة، تلك الفتاة الصغيرة التي لم تكن لتختلف عن أية فتاة عربية اخرى في المدينة بعد هجرة الرسول وتشكّل المجتمع الاسلامي الأول بعد الهجرة من مكة، لكنها كانت تتميز بقلب عامر بالحب للإنسانية...
"نَفْسُهُ مِنْهُ فِي عَنَاءٍ، وَالنَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَةٍ. أَتْعَبَ نفسه لآِخِرَتِهِ، وَأَرَاحَ النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ. بُعْدُهُ عَمَّنْ تَبَاعَدَ عَنْهُ زُهْدٌ وَنَزاهَةٌ، وَدُنُوُّهُ مِمَّنْ دَنَا مِنْهُ لِينٌ وَرَحْمَةٌ".
من صفات المُتقين- نهج البلاغة
أجمع علماء النفس على تطابق الحالة الكامنة في النفس على السلوك الظاهري، فمن يحمل في قلبه هموماً وآلاماً على شيء ما، من الطبيعي أن ينعكس على محياه وسلوكه، وكذا في حالة البهجة والارتياح، ولكن! اذا سمعنا بمن في قلبه الحزن وعلى شفاه الابتسامة، من المؤكد نَعِدهُ حالة خاصة لاسيما في الظروف الراهنة التي نعيشها اليوم.
وهكذا كانت الصديقة الطاهرة؛ فاطمة الزهراء، سلام الله عليها، النموذج الملهم لهذا الخلق العظيم، والروح العالية، والقلب الكبير. وهكذا نتعلم أروع درس في العلاقات الاجتماعية الناجحة ببركة ذكرى مولد هذه السيدة الحورية، وكيف لا تكون كذلك، وهي سليلة النبوة، وشأنها من شأن الانبياء والمرسلين، عبادٌ لله –تعالى- مثل سائر خلقه، إلا أنهم يتميزون بالاصطفاء والعلاقة الخاصة مع السماء.
المولد: فرحة مغموسة بالحزن
كيف يكون ذلك؛ وقد بُشر النبي بهذه الحورية منذ اربعين ليلة بتلك الفاكهة المنزلة من الجنة بيد جبرائيل، عليه السلام؟
المشكلة لم تكن في بيت رسول الله، وإنما كانت في المجتمع الجاهلي آنذاك، عندما حرم السيدة الفاضلة؛ خديجة بنت خويلد، من تواصل النساء معها في لحظة ولادتها، ومعروفٌ أن المجتمع المكّي غضب على خديجة لأنها رفضت طلب كل الوجهاء والاثرياء للزواج منها، وقبلت بمحمد، الشاب اليتيم والفقير، واستمر الجفاء طيلة أيام الحمل، وحتى يوم ولادتها "فلما قربت ولادتي أرسلتُ الى القوابل من قريش فأبين عليّ لأجل محمد"! وهو وما رواه عن السيد خديجة، كلٌ من: الطبري في "ذخائر العقبى"، والصفوري الشافعي في "نزهة المجالس"، والقندوزي في "ينابيع المودة"، وكان ما كان من تعويض الله –تعالى- لها بأربعة أنوار مثّلت أربع نسوة من خيرة نساء العالمين وهنّ: حواء، وآسيا بنت مزاحم، وكلثم، أخت موسى بن عمران، ومريم بنت عمران، ليساعدنها في أمر الولادة.
لنتصور وقع الصدمة والضغط النفسي على سيدة حامل في لحظات ولادتها، ولا تحضر عندها امرأة واحدة من الجيران والأقرباء، كيف يكون حالها؟
ولكن! قبل أن تُسرّ خديجة بالضيوف الأربعة الكرام من الخارج، كان لديها من هو أقرب اليها منهنّ، وهي جنينها (فاطمة)، سبقت هؤلاء جميعاً في تسليتها والتخفيف من وطأة القطيعة الجائرة، فقد "كانت تكلم أمها خديجة وهي في بطنها، ولم ينفرد علماء الشيعة بذكر هذه الفضيلة، بل شاركهم كثير من علماء العامة ومحدثيهم، فقد روى عبد الرحمن الشافعي في "نزهة المجالس"، كما روى الدهلوي في "تجهيز الجيش" عن كتاب "مدح الخلفاء الراشدين"، أنه لما حملت خديجة بفاطمة كانت تكلمها ما في بطنها، وكانت تكتمه عن النبي، صلى الله عليه وآله، فدخل عليها يوماً وجدها تتكلم وليس معها غيرها، فسألها عمن كانت تخاطبه فقالت: ما في بطني، فانه يتكلم معي، فقال النبي الأكرم: أبشري يا خديجة، هذه بنت جعلها الله أمٌّ لأحد عشر من خلفائي يخرجون بعدي وبعد أبيهم". (السيد كاظم القزويني- فاطمة من المهد الى اللحد).
شعّ نور السعادة من بيت رسول الله، وهو يحتضن ابنته الزهراء والى جانبه زوجته الوفية والكريمة، ويا لها من أجواء بهجة وسرور في بيت من بيوت الله –تعالى-، بيد أن هذه السعادة لم تكن لتلامس حياة الزهراء، الطفلة الصغيرة ابنة النبي المُرسل والمتعرض للتكذيب والتهديد ومختلف اشكال المحاربة النفسية والجسدية.
احتفظت الزهراء بنور السعادة الإلهي في قلبها وهي تواجه أقسى الظروف التي رافقت مسيرة الدعوة الى التوحيد ونشر راية الهدى على يد أبيها خاتم الانبياء والمرسلين، وكانت الذروة في المواجهة القاسية؛ الحصار الاقتصادي البشع في "شعب أبي طالب"، الحي السكني الخاص بأبي طالب في مكة، وكان يُطلق عليه بـ "الشِعب"، تجمع فيه عدد كبير من المسلمين بينهم رسول الله مع ابنته و زوجته خديجة، وقد فرضت عليهم السلطات الأموية حصاراً منعت فيه دخول الطعام اليهم لمدة ثلاث سنوات، كاد الجميع أن يُقضى عليهم من شدة الجوع، كما تروي المصادر، الى جانب محاولات المشركين استغلال الفرصة لاغتيال النبي الأكرم، بينما كان عمّه والمحامي الناصر له، أبو طالب يتكفل بإيصال المواد الغذائية سراً الى المسلمين المحاصرين.
وفي هذا الشعب كانت الأيام الأخيرة لأبي طالب، وايضاً؛ للسيدة الصابرة؛ خديجة، أم الزهراء، وبسبب المرض والضغط النفسي والجسدي، ودع الاثنان الحياة الدنيا وسط دموع وآهات وحسرات من النبي الأكرم، ومن ابنته الوحيدة؛ فاطمة حيث كانت آنذاك قاربت السابعة من عمرها الشريف، حسب ما أورده السيد كاظم القزويني في كتابه القيّم.
خرجت فاطمة من الشِعب والحصار وحيدة دون أمها، حاملة ما لا يطاق من الحزن على وفاة أمها، والاشفاق على أبيها المهدد بالموت في كل لحظة، واستمرت مسيرة الحزن مع حياة فاطمة، وذات مرة يدخل عليها أبوها البيت لتواجه الصدمة بدل البسمة بدخوله، عندما تجد الأوساخ على رأسه وظهره مما ألقاه أحد قادة الشرك والكفر على النبي وهو يؤدي الصلاة عند الكعبة المُشرفة، فتنهمر دموعها لهول المنظر، وهي تزيل تلك الأوساخ، فيما كان أبوها يمسح دموعها ويخفف عن آلامها النفسية.
الغضب ينتج الحبّ!
هذا ما لا نقرأه في الكتب، ولكن نقرأه في سيرة الصديقة الطاهرة، تلك الفتاة الصغيرة التي لم تكن لتختلف عن أية فتاة عربية اخرى في المدينة بعد هجرة الرسول وتشكّل المجتمع الاسلامي الأول بعد الهجرة من مكة، لكنها كانت تتميز بقلب عامر بالحب للإنسانية، وخُلق رفيع لا يطاله أي شعور سلبي مهما كانت الاسباب.
خزين من الذكريات المحزنة والباعثة على الغضب والاستنكار لم يتمكن من قلب الصديقة الطاهرة وقد بلغت مبلغ النساء، وفي حفل زفافها لأمير المؤمنين، وهي من أكثر اللحظات حساسية لكل فتاة، تسعى لأن تكون في أفضل حال؛ هي شخصياً، ومن يحيط بها من الأهل والأقارب لتعيش أحلى لحظات حياتها، فهل كانت الحلاوة عند الزهراء في المجوهرات على جيدها وفي معصمها، مثل سائر الفتيات؟ أم كانت في صالة الاحتفالات الراقية المزينة بالمصابيح الملونة والازهار، والمشحونة بمختلف أصناف الأطعمة والأشربة؟ أم بالبدلة البيضاء الزاهية، مع حزمة من البدلات بألوان وأشكال من صنع الماركات العالمية؟!
الحلاوة كانت في لحظة عطاء تاريخي لفقير مُعدم جاء في ليلة زفافها يطلب قميصاً يستر به جسده، وينقل السيد القزويني في كتابه القيّم عن كتاب "نزهة المجالس" عن ابن الجوزي "أن رسول الله صنع لها قميصاً جديداً ليلة زفافها، وكان عندها قميصاً خلقاً –قديماً- فأرادت أن تدفع اليه القميص المرقوع، فتذكرت قوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}، فدفعت له القميص الجديد، فلما قربت ساعة الزفاف نزل جبرئيل على النبي وقال: يا محمد! إن الله يُقرؤك السلام، وأمرني أن أسلّم على فاطمة، وقد أرسل لها معي هدية من ثياب الجنة من السندس الأخضر... الى آخر الرواية".
ولا نزيد على القراء الكرام ما قرأوه وسمعوه من قصة الفقير والأسير والمسكين في تواليهم ثلاثة أيام على دار الزهراء، والمكرمة العظيمة من السماء بنزول سورة "الإنسان" في حق أهل البيت، عليهم السلام، وحالات تصدّق الزهراء عدة مرات، و مشاعرها النبيلة إزاء الجيران بالدعاء لهم قبل الدعاء لنفسها وأهل بيتها؛ "الجار ثم الدار"، إنما نريد أن نحجز مقعداً في مدرسة الزهراء، سلام الله عليها، علّنا نحظى بالسعادة في الدنيا والآخرة معاً، عندما نتسامى على أزماتنا ومشاكلنا الخاصة، ونتجاوز مشاعر الغضب والكراهية وهي بذرة صغيرة في القلب، و ننشر ما لدينا من السعادة والارتياح ورغد العيش الى الآخرين، وإن كانت السعادة، كأن تكون تفوقاً في الدراسة، وشهادة أكاديمية مرموقة، وفرصة عمل ممتازة، او تجارة ناجحة، قد حصلنا عليها بشقّ الأنفس، وسهر الليالي، فلا ننسى أن الجهد من الانسان، والتوفيق من الله –تعالى-، فالنجاح الحقيقي مرهون بتوفيق الله، ولا حتمية للإنسان بالوصول الى ما يريده من خلال عمله مهما فعل وبذل.



اضف تعليق