مجدداً نقترب من تجربة تعد الأساس في المفهوم الديموقراطي، وهي تجربة إقامة الانتخابات، ومجدداً نبدأ بالنقد الانفعالي الذي يقترب من لوم النفس لأننا ارتكبنا الأخطاء المتوالية خلال التجارب السابقة؛ كوننا ساهمنا في صعود طبقة سياسية تنتمي لمصالحها ولأجندات أحزابها.
ومثل هذا التصور يزداد ويتم الحديث به والتفاعل معه مع كاقتراب التجربة الانتخابية الجديدة، لكن التفاعل الذي قد ينتعش كثيراً في وسائل التواصل الاجتماعي مازال يدور في فلك الانفعال وعدم الرغبة في مناقشة الموضوع بوعي نقدي يرتقي لتحديات المرحلة ومستحدثاتها، ومازالت الخطابات المؤدلجة يميناً ويساراً هي التي تساهم بقوة عجيبة في صياغة الآراء المنفعلة حيث الهجوم والهجوم المتبادل بين أنصار المشتركين في التجربة الانتخابية. وهذه الخطابات ساعدت على تحليق القوى السياسية المتصارعة بفضل غياب الوعي النقدي أمام انفعالاتنا التي شيدت جسراً لعبور الأدلجات إلى ضفة النجاح.
وهذا لا يعني أن الوعي تلاشى بالمطلق، فثمة أصوات فردية هنا وهناك تنادي وتكتب وتحلل، غير أن المشكلة تكمن في صعوبة تعشيق هذه الأصوات الفردية بالأصوات الجمعية؛ لأن الوعي الجمعي هو نتاج وعي الأفراد؛ لذا ينبغي ارتفاع صوت الوعي الفردي ليصل إلى أبعد نقطة تقربه من المجموع.
إن التقدم الذي تحرزه الإيديولوجيا بعد كل عملية انتخابية؛ نابع من عدم إدراكنا لنقطة جوهرية تتمثل في أن أصحاب الإيديولوجيا يخوضون تجربة الانتخابات على أساس تصنيفي يكون الواقع في ذيله، هم في الحقيقة يحتقرون هذا الواقع، وفي ذات الوقت يجعلوا من أنفسهم – بمساعدتنا خارجين عن الوعي – آباءً لنا وفق المسميات العرقية والطائفية وغيرها، بينما ننساق بطريقة أذهلت التنويم المغناطيسي لشعاراتهم وكلامهم فالإسلامي منهم بشقيّه هو وريث القرآن، والليبرالي هو المدافع عن شَعَرِ المرأةِ في تخلصه من (قيد الحجاب) والكافل لها الجلوس في الملاهي لاحتساء الكحول!
وبعد أن نصحو من النوم الانتخابي؛ نجد أن الإسلامي قد مُنِحَ ببركات العقيدة الامتيازات والمصالح والمشاريع هنا وهناك، في حين يرقص الليبرالي الذي مُنِحَ المشاريع والامتيازات كذلك في ملاهي أوروبا ولتذهب القيم التي صدعا بها رؤوس السطحيين إلى الجحيم. فنبدأ بعدها ممارسة طقوسنا في النقد (النادم) وجلد الذات، وقد كتبنا سابقاً عن خطورة النقد المرتكز على جلد الذات الذي سينتج فكراً انهزامياً تكمن خطورته في خلق تابعية إيديولوجية
حيث الانقياد الأعمى والتبعية المحضة لعناصر الأدلجة. هذه التبعية ستكون النتيجة المنطقية لاستفحال ظاهرة تضخيم الأخطاء، والتأقلم على الضجر وعدم الإيمان بالاستمرارية، وتنامي المشاعر السلبية التي تستبطن التغلب على الفشل، لكنها تظهر ذلك عبر الهروب منه لا بمواجهته.
عندها ستبدأ مرحلة انتاج الأفكار الانفعالية، فهذا يائسٌ من التغيير، وذاك يرفع الصوت بضرورة مقاطعة الانتخابات، وفي هذا الوقت تكون الإيديولوجيا جددت ريش أجنحتها للتحليق مجدداً في سماء المصالح والامتيازات.
وطالما نحن بصدد التهيؤ لعملية انتخابية جديدة؛ ليس لنا إلا أن نكرر الحديث بضرورة الاستفادة من أخطاء الماضي؛ لأننا إذا لم نفشل لا يمكن أن نحقق نجاحاً، وإذا لم نتعثر ليس لنا أن نواصل، وهذه قاعدة حياتية، لذلك بدلاً من ممارسة التحقير على ذواتنا، وبدلاً من الهروب غير المجدي، لا بد من مواجهة ومصارحة تبحث في أسباب الهزائم والانكسارات، بشرط أن لاتكون المصارحة مصارحة جلد ذات وإلا فإننا لم نفعل شيئاً. المصارحة والمواجهة المقصودة هي في عملية نقد التجربة، ودراسة مسببات فشلها، والعمل على تلافيها، والتركيز على النقاط التي تعزز من قوة التجربة.
الحل إذن يكمن في نقد الذات لا بجلدها، وهذا النقد كفيل بقطع الطرق المؤدية إلى النفس الانهزامية، وسيمد أغصان التشبث بالأمل والمواصلة في شجرة تستمد قوتها من جذر النقد الذاتي الفاعل والبناء، وليس النقد الهادم والمهزوم والمنكسر. لابد من تغذية الاحساس الداخلي بضرورة ممارسة العملية النقدية الهادئة. قد يتطلب الأمر وقتاً طويلاً خصوصاً في مجتمعاتنا الشرقية التي تعودت على الانفعال والتسرع، لكن طول الوقت لا يعني الاستسلام للتحديات.
نقد الذات: هو الوجه الأوضح لعملية قياس التجارب الفاشلة بمواجهتها وليس بالهروب منها وتهميش المحاولات الساعية لترميمها والانطلاق بها إلى الأمام، فتكون أفكارنا التي سننتجها أفكاراً ناضجة وهادئة وغير انفعالية، وهذا عين ما نقصده ونحن نستقبل الانتخابات الجديدة، حيث يلزم الوعي بالمسؤولية الأخلاقية تجاه مستقبل لن يُصنع بكثرة التذمر والهروب والبكاء على الأطلال، بل يتم صنعه بإرادة تكون كالإزميل الذي ينحت، وذلك من خلال نقد الخطابات المؤدلجة، والشعور بأهمية التنوع واستيعابه بالشكل الذي يكفل للجميع احترام خصوصياتهم وهوياتهم التي تلاقت من أجل العيش بتسامح وأخلاق على أرض هذا الوطن.
اضف تعليق