q

للتقاليد والسلوكيات الحضارية دور في صياغة الهوية الثقافية لأي مجتمع، وإبراز هويتها وخصوصيتها أمام الآخر، ومن المؤكد أن غياب هذه التقاليد والسلوكيات، أو تأرجحها بين حضور وغياب؛ يمثل خللاً كبيراً في بنية المشهد الثقافي. وإذا دققنا جيداً في المشهد العراقي ثقافياً، سنجد أن النخب الثقافية هي التي تتصدر أسباب غياب هذه التقاليد والسلوكيات، وكأنها غير معنية بتأصيل مشهدها عبر هوية فاعلة حضارياً وإنسانياً.

يقول الدكتور (علي حسين يوسف): " من تمثلات غياب الهوية الثقافية أننا حتى على مستوى المفاهيم لم نعتد على مصطلحات مثل : الفلسفة العراقية المعاصرة أو الفكر العراقي المعاصر , أو الثقافة العراقية أو المفكر العراقي أو الفيلسوف العراقي , أو العالم العراقي على خلاف ما نجده في بلدان المغرب ومصر مثلا , أيعود السبب في ذلك إلى غياب المصاديق التي تنضوي تحت تلك المصطلحات أم إلى سبب آخر؟ هل فعلا ليس هناك فكر عراقي أو فلسفة عراقية أو ثقافة عراقية معاصرة؟ وهل حقا لا يوجد عندنا فيلسوف عراقي أو مفكر عراقي أو عالم عراقي ؟ الجواب بالنفي حتما فهناك ثقافة ثرة تتمثل في المنتج العراقي المعاصر ؛ الفلسفي والأدبي والعلمي , وهناك مفكرون وأساتذة وعلماء كلّ في اختصاصه , لكن ما يميز تلك الثقافة أنها لا تؤمن بقيمة التواضع مبدءا فالتواضع العلمي والثقافي يكاد يغيب تماما في خطابها , فثقافتنا في أغلب الأحوال لا تؤمن بقيم الأستاذية والمرجعيات الثقافية مثلا فما أن يظهر الريش على أجسادنا حتى نتنكر لشيوخنا , نحن اليوم جيل بلا أساتذة ليس لغياب هؤلاء أو عدم وجودهم بل لأننا لم نفسح المجال لهم ليكونوا مثابات للفضيلة والعلم".

يمكن لنا من خلال هذا المقطع المقتبس من كلام الدكتور (علي حسين يوسف) عبر تدوينة فيسبوكية في موقعه الشخصي؛ أن نؤشر على مسارين أساسيين في هذا المأزق الفكري:

الأول: مسار التنكر للخصوصية الثقافية التي تتعالى عليها النخب الثقافية ذاتها من خلال اندماج هجين مع الوافد الثقافي المعني بزمانه ومكانه، وليس بالضرورة أن يكون معنياً بثقافتنا وخصوصيتنا، هذا الاندماج الذي بدأ ينتشر عبر نصوص غارقة في لامعناها ولاجدواها، ونحن نعرف أن الثقافة السائدة ــ بعد تشذيبها فنياً ــ تعد من اشتراطات إنتاج النص المهم والباحث فعلاً عن قضية أو علة لمعالجتها، عدا ذلك فإن مثل تلك النصوص العابرة لخصوصياتها محكوم عليها بعدم المرور أو القبول.

فمن غير المعقول، ولا من المنطق أن نضع كل حدث ــ خصوصاً المؤدي إلى عنف ــ في سياق تاريخي، ومن ثم نتجاوزه بذريعة التطلع للمستقبل وفق مزاج ثقافي خدر على مفاهيم وافدة لم يفهمها أو يستوعبها، مستشهداً بالتجربة الأوروبية التي نهضت من جحيم الحروب التدميرية المؤدلجة عبر بداية ركزت على المستقبل الإنساني والحضاري القادم.

نعتقد أن خلطاً حدث هنا في رؤية هذا النمط من التفكير، صحيح أن الحروب التي شهدتها أوروبا في القرون السابقة أحدثت في الإنسانية تشظياً ودماراً، وساهمت بشكل كبير في إجهاض حلم البشرية في العيش بكرامة وسلم؛ لكن عملية الانطلاق إلى البناء الحضاري لم تتم عبر إلغاء التأريخ أو الأحداث السابقة وعدم الالتفات إليها كما توهم ويتوهم كثيرون، ويراد أن يُطبق على نموذجنا في الشرق، بل بوضع المسببات التاريخية وجذورها الإيديولوجية على مشرحة نقدية تشخص الخلل الذي أنتج تلك المآسي الكبيرة، ويضع إصبع التحليل على مكان الجرح الحقيقي، والعمل على معالجته بالابتعاد عن كل ماينتمي للأفكار والتجارب النازية والستالينية والفاشية، وهذه التجارب عندما انطلقت اوروبا لبناء حضارتها صارت تجارب تاريخية، يعني أنهم ناقشوا مسببات التأريخ وانطلقوا لعملية المعالجة.

غير اننا في عالمنا العربي والإسلامي، وعندما واجهتنا ذات المشكلة، لم نضع - مثل الأوروبيين - جذور مشاكلنا على طاولة النقد والتحليل والحوار، بل اكتفينا بترديد جمل إنشائية رومانسية وحالمة، تدعو لنبذ الفرقة واعتزال التاريخ الماضوي، ورحنا نقيم المؤتمرات الوحدوية والمهرجانات الثقافية، ونصفق لقصائد حماسية ينتهي تأثيرها مباشرة بعد نزول الشاعر من منصة الإلقاء، من دون أي التفات حقيقي لأسباب الأزمات والتشظي، وهكذا دأبت أنماطنا التفكيرية وسيطرت على وعينا الجمعي بصورة مخيفة. إنَّ التصورات العقلية والموضوعية في دراسة ونقد التاريخ كفيلة بتقديم نموذج مستقبلي لهوية ذي خصوصية، يمكن لها أن تندمج بقيم التقدم والتجدد، وهذا أفضل طبعاً بدلاً من التباكي على مايسمى بـ (هول اللحظة ووحشيتها)؛ بسبب فشل الكتابات التنظيرية في تفسير أحداث التاريخ، أو غض النظر عن تداعياتها؛ لأسباب تتعلق بالسلطة والأدلجة، وغياب شجاعة الاعتراف بفشل المناهج التي اجتهدت على إلغاء كل مايمت بصلة للخصوصيات والهويات.

المسار الثاني: مسار يتعلق بالأخلاق، إذ يصاب مثقفونا بحالة من الغرور تجعلهم ينسفون كل ماسبقهم من جهود فكرية وثقافية تحت مسمى (إلغاء الأجيال)، بينما نراهم في ذات الوقت يقدسون الآخر الغربي حتى وإن كان سطحياً وكتاباته تتسم بالسذاجة، وبذلك فهم واقعون في فخ الظاهرة الاعلامية الاستهلاكية وهي من اخطر أنواع الفخاخ التي قد تصادر العقل، وتهمش دوره، وتصيبه بالعطب.

وثمة مسار ثالث، لايقل أهمية عن المسارين السابقين، بل يمكن لنا القول أنه أهم منهما، ويساهم على نحو غير مباشر في صنع مأزق الهوية الثقافية، يتمثل بالنظرة الرومانسية الحالمة تجاه شخص المثقف، سواء كانت نظرة المثقف لنفسه، أو النظرة العامة له ولحقيقة الدور الذي يمكن أن يلعبه. في الحقيقة إن المثقف إنسان عادي يؤثر ويتأثر، وليس كائناً ملائكياً، ودليلنا على ذلك كل الشواهد العنفية التي عصفت بالعالم البشري سواء في الحربين العالميتين أو ماتلاها من أحداث، حيث لم نشاهد أي تأثير للنخب الثقافية والفكرية في إحلال السلم، بل كان دورها يقتصر على تدوين الأحلام وإدانة الدمار، بل أن هناك مثقفين كتبوا في صالح النازية والفاشية، ومنهم من احتفل باليمين الشعبوي، واليسار المتطرف.

وحتى في العراق، نجد أن الأدلجة هي الحاكمة على مزاج المثقف، ويمكن استشراف ذلك منذ قيام الجمهورية بانقلاب عام 1958وحتى اليوم.

اضف تعليق