إنّ تأثير التغيير الاصطلاحي في مفاهيم الأحوال الشخصية المنظمة للعلاقات الاجتماعية له أبلغ الأثر في تشويه معالم المجتمع الإنساني بوجه عام، ويصل هذا التشويه ذروته حين يجري بإرادة سياسية أو فكرية انسياقا وراء ما بات يُعرف بالحركات النسوية، والمثلية، وكذا النزعات الفردية بنسخها الحداثية الأكثر تطرفا، هذه الحركات والنزعات التي توظف اللغة توظيفا شاذا...
ليس هناك ما هو أروع من الكلمة حين تنقل التعبير من جادة السلب إلى الإيجاب، كما ليس ثمة ما هو أشد خطرا من الكلمة حينما تخضع لأجندات التوظيف المغرض بغية تحريفها عن سياقاتها الطبيعية إلى أخرى تنافي حقائق اللغة ومجازاتها، بل تتقاطع مع قواعد الفطرة السوية واشتراطاتها المألوفة منذ أقدم عصور التاريخ، من ذلك النظر إلى نوع العلاقة الزوجية بوصفها عقداً دينياً يجري بموافقة رجل وامرأة وفقاً للتقاليد الدينية أو القوانين المدنية المرعية في كل بلد ليصبحا شريكين يسعيان لتحقيق السعادة الشخصية، والتوافق العاطفي فيما بينهما، ومن ثم يغدوان ربين لأسرة من أبناء وبنات.
هذا ما كان يحدث غالبًا في البيئة الإنسانية بوجه عام ومنها البيئة الغربية، بيد أن المفهوم التقليدي للزواج خضع لتغيير تدريجي في قيم الحداثة وما بعدها، فلم يعد شراكة بين شخصين مختلفين جنسيا أي ذكر وأنثى، بل صار يُنظر إليه لاسيما في نطاق الحركة النسوية بصفته "متعددة الخيارات"، هذه الصفة التي صارت تسير بالفرد في مسارات مستجدة تشمل الزواج المدني، والزواج المثلي بدعوى مراعاة النوع الاجتماعي (الجندر) المغاير للفهم التقليدي لمسألة الجنس؛ إذ الجنس يشير إلى الصفات البيولوجية التي تميز الذكر عن الأنثى كالأعضاء التناسلية، وعدد الكروموسومات، والهرمونات في حين يشير النوع الاجتماعي أي الجندر إلى الأدوار والسلوكيات التي يُتوقع من الذكور والإناث أن يؤدوها في المجتمع، وغالبا ما تكون هذه التوقعات بناء على إملاءات (ممنهجة) آيدلوجيا لا مجرد اختيارات شخصية مستقلة، وهو الأمر الذي أسهم في العزوف عن الزواج من حيث المبدأ أو الإقدام على الزواج في سن متأخرة جدا يصل في بعض البلدان الغربية إلى سن الأربعين.
وهو أمر بالغ الخطورة على المستقبل العام لتلك البلدان خاصة الأوربية منها؛ فإيرلندا على سبيل المثال تعاني من شبه انقراض لسكانها الأصليين بحسب بعض البيانات، ومنها معدل الزواج الذي يبلغ اثنتين وثلاثين سنة، وما يعزز من فرضية انقراض الإيرلنديين أو اجتثاثهم مستقبلا شيوع مفهوم غريب للطفل عندهم؛ إذ يُنظر إلى الإنسان لدى هؤلاء (القوم) بوصفه "طفلا" حتى اذا بلغ أربعين عاما!
إنّ تأثير التغيير الاصطلاحي في مفاهيم الأحوال الشخصية المنظمة للعلاقات الاجتماعية له أبلغ الأثر في تشويه معالم المجتمع الإنساني بوجه عام، ويصل هذا التشويه ذروته حين يجري بإرادة سياسية أو فكرية انسياقا وراء ما بات يُعرف بالحركات النسوية، والمثلية، وكذا النزعات الفردية بنسخها الحداثية الأكثر تطرفا، هذه الحركات والنزعات التي توظف اللغة توظيفا شاذا لتحقيق أغراضها ومراميها عبر آلية الاستبدال الاصطلاحي في نطاق كثير من المفردات والتعبيرات؛ من ذلك تغيير كلمة (سبوك مان) إلى (سبوك بيرسن)، وكلمة (الشاذ) إلى (مثلي) أو (مساوي)، وكلمة (الجنس) إلى (جندر)، وتغيير كلمة (البغاء) إلى: (العمل الجنسي، أو المساكنة)...الخ.
إن هذا التغيير اللغوي في أضعف حالاته يمثل تغييرا بنيويا أكثر منه لغويا، سيقود حتما إلى عواقب أقل ما يمكن وصفها بالـ (وخيمة)؛ لأنها تسعى إلى نزع الصفة التراتبية أو النوعية عن العلاقة الإنسانية ، وتحويلها من "دور" قائم على علاقة تشاركية "زوج، وزوجة" إلى "هوية فردانية خالصة، أي مجرد شخص مبهم الهوية! ومن ثم إلغاء البُعد الأسري أو التعاقدي، وتغليب مفهوم الفرد بوصفه وحدة مستقلة، والحط من منزلة الأسرة بوصفها وحدة اجتماعية متميزة.
وبقدر ما يتعلق الأمر باستبدال المثلي بالشاذ فإن النتيجة الأساسية لهذا الاستبدال هو إزالة الصبغة السلبية التي كانت مرتبطة بكلمة "شاذ"، ومنحها تسمية محايدة أو إيجابية، خلافا لواقعها، فإعادة تشكيل القبول الاجتماعي للمثلية الجنسية، وتحويلها من انحراف مستقبح إلى تنوع مستحسن لها تداعياتها الخطرة على التشريع، والتعليم، والأخلاق العامة...الخ.
وهذا التحريف الاصطلاحي -المسند بتغيير كلمة جنس إلى جندر- يعمل على تفكيك العلاقة الصلبة بين الصفة البيولوجية للشخص والدور الاجتماعي الموكل إليه، ويفتح الباب على مصراعيه أمام مقولات الهوية الجندرية، والتحول الجنسي، وحق تقرير الجندر..الخ التي يُشار إليها عادة برموز لغوية أيضا، وكذا الحال في تغيير لفظة البغاء إلى عمل جنسي أو ما يصبّ في هذا المجرى الراكد، كالمساكنة ونحوها؛ لأن ذلك التغيير أو التحريف يعيد توصيف الفعل الشائن باعتباره مهنة محترمة، وليس سقوطاً أخلاقياً، وهو التوصيف الذي اجتمعت عليه كلمة البشرية – ربما- منذ بداية الخليقة المتحضرة، هذا التوصيف الذي يحظر المتاجرة بالجسد الإنساني، فضلا عن حظره لعلاقات إنسانية (مشبوهة) أخرى...
وصفوة القول هنا هو: إن هذه التغييرات الاصطلاحية المحدثة بفعل آيدلوجي مغرض ليست بريئة أو محايدة أبدا، بل هي نابعة من تحولات فلسفية تنشد تعريف الإنسان بالضد من مفاهيم الفرد الطبيعي، والأسرة الطبيعية؛ إذ اللغة ليست مجرد أداة وصف وتشبيه، بل هي أداة لبناء العلاقات الإنسانية أو هدمها، وبمعنى أكثر دقة فإن اللغة من شأنها إسباغ الحياة على النوع البشري بصفة عامة، أو دفعه إلى هاوية الانقراض، أو الاجتثاث التام.
اضف تعليق