لم تعد معاناة المجتمعات تقتصر على هيمنة المادة فقط، بل أن تحديات أخرى صارت تمثل عبئاً ثقيلاً عليها، خصوصاً تلك التي تتعلق بأزمة المفاهيم والشتات الفكري إزاء كثرتها والتورط في الدخول إليها والخروج منها، وظهور أجيال كثيرة تمارس التقليد الأعمى للمتبنيات الوافدة من الغرب ومحاولة إدخالها القسري على مجتمعاتنا.
ومن أبرز المفاهيم التي جعلتنا مشتتين إزاءها مفهوم الحداثة التي ظلت حبيسة نظرتين متطرفتين، بين تعصب لقديم رافض لكل أشكال التجديد، وجديد يريد نسف كل ماينتمي لأزمنة خلت، من دون التفكير في الوصول لنقطة التقاء وسطية بين النظرتين.
إن الوصول لنقطة وسطية الحداثة؛ أصبح ضرورة من الضرورات الملحة التي تجعل العالم الإنساني بمنأى عن أخطار التطرف الجهوي والفكري والفقهي، نقطة تعمل على أفول كل ما يمت للتعصب وتقطع الطريق أمام إنشاء حضارة قائمة على أحادية الفكر والسلوك، نقطة تجعل العالم أكثر مرونة في التعاطي مع الآخر، وأقل عدائية تجاه المشاريع الفكرية والتنموية الناضجة، وذلك من خلال تهيئة متعددة الاتجاهات أهمها الثقافة بشقيها الفردي والجماعي، فضلاً عن عملية تقريب العلاقة بين المجتمعات على الأسس المشتركة مع احتفاظ كل مجتمع بهويته وتراثه وخصوصيته على صعيد المتبنيات الدينية أو الفكرية رغم صعوبة المهمة.
لابد لنا ونحن ننشد الوسطية في الحداثة أن نركز على قيمة مهمة تتعلق بالثنائيات التي نريد للوسطية أن تقف بينها، وعدم الاكتفاء بالأمنيات والأحلام الوردية وترديد الشعارات، فانتهاج حداثة قائمة على الوقوف بين اليمين واليسار؛ أمر يحتاج إلى رؤية عميقة، وتأصيل فكري ينسجم مع الواقع والمرحلة التي نعيشها في هذا الظرف الزمني الحرج.
لابد أن تكون نظرتنا للثنائيات على أنها تكاملية غير متناقضة حسب تصنيف (سليم مطر)، فالريف يكمل المدينة، وكذا بالنسبة للعلاقات بين الدين والحداثة، والوطن والقومية، والتراث والمستقبل، فيقول: الوسطية تتجنب الوقوع في التطرف التبسيطي في(مع او ضد)، بل تعمل على ايجاد الحل الوسط العقلاني والواقعي الذي (يتوسط) ويجمع بين طرفي الثنائية، مثلا:
ـ بالنسبة لثنائية (القومية أو الوطن)، فأنها ترفض التعصب القومي(العروبي والكردي مثلا) المنافي للوطن، كذلك ترفض التعصب الوطني الرافض للانتماء القومي. الوسطية تدعو الى الجمع بين الاعتزاز بالوطن ووحدته، مع احترام الخصوصيات القومية والمحلية ومنحها حقوقها المنسجمة مع الوحدة الوطنية. معتبرة (الهوية الوطنية) اشبه بالبحيرة التي تصب فيها روافد (الهويات الفرعية) القومية والدينية والمذهبية والمناطقية.
ـ بالنسبة لثنائية (الدين أو الحداثة)، فأنها ترفض التعصب الديني الطائفي والسلفي، وكذلك التعصب الحداثي العلماني الالحادي. فتدعو للجمع بين احترام الايمان الروحي والديني، مع تقبل الحداثة والانفتاح على التقدم.
لنعمل على إنتاج حداثتنا
مالذي يمنعنا من أن يكون لنا فعلٌ حداثي ينسجم مع هويتنا وخصوصيتنا الإسلامية؟ فعلٌ يأخذ بنظر الاعتبار المبادىء والخصوصيات التي يقوم عليها مفهوم الحداثة، ومنها مبدأ (الرشد) الذي يعني (الانتقال من حال القصور إلى حال الرشد)1
والقصور هنا معناه عدم إمكانية الفرد استعمال أفكاره الخاصة من دون أن يكون هناك تسلط فكري آخرعليه، وكأنه جبل على اتباع الآخر من دون أي استقلالية وشخصية.
ويقسم (طه عبد الرحمن) في كتابه (روح الحداثة) حالة القصور ممثلة بالاتباعية إلى ثلاث حالات:
" 1/ التبعية الاتباعية؛ وهي أن يسلم القاصر قياده إلى عن طواعية لغيره ليفكر مكانه حيث كان يجب أن يفكر هو بنفسه.
2/ التبعية الاستنساخية؛ وهي أن يختار القاصر بمحض إرادته أن ينقل طرائق ونتائج تفكير غيره وينزلها بصورتها الأصلية على واقعه وأفقه.
3/ التبعية الآلية؛ وهي أن ينساق القاصر، من حيث لايشعر إلى تقليد غيره في مناهج تفكيره؛ لشدة تماهيه مع هذا الغير"2
وحتى حداثة الغير (النموذج الأوروبي)، فإنها كما يراها (خيري منصور) جاءت كرد فعل، وهي ذات ارتباط عضوي بسياق حضاري شامل لايمكن فصله عن معطيات الحربين العالميتين الكبيرتين.
وحين نعمل على إنتاج حداثتنا الخاصة؛ يلزم لنا التسليم بأنها ماتزال (الواضح الغامض)، ويلزم أيضاً الاستقلال الفكري الذي يجعلنا بمنأى عن التقليد والاستنساخ، ويقودنا إلى إبداع أفكارنا ، وتأسيس القيم والمفاهيم الجديدة منسجمة مع هذه الاستقلالية، وحتى لو كانت القيم غير جديدة، وتنتمي لأفكار أخرى، فإن التعاطي معها يجب أن يكون بما ينسجم والأمكنة ، وطبيعة المجتمعات التي ستسقط عليها؛ فتبدو وفق الخصوصية مفاهيم مبتكرة وحديثة، وهنا يكمن الفعل الإبداعي، مع عدم إغفال ممارسة الفعل النقدي، أي عدم التسليم المطلق بما يتم إنتاجه من أفكار؛ لأن حركية الزمن المستمرة تحرض على التجدد والانفتاح على الجديد، وبذلك سنضمن لنا حداثة من دون دفع ضريبة باهضة.
ومن أهم الآليات التي لابد من اعتمادها في إنتاج حداثتنا الخاصة؛ الابتعاد عن الفهم الغربي لتطبيقات الحداثة؛ لأن هذا الفهم وبحسب التجارب الكثيرة أثبت أن النتائج أتت معاكسة للمقاصد الأصلية؛ وذلك بسبب إهمال الرؤية المستقبلية، وكذلك يجب الانتباه إلى الآلية التي تنقلنا من مصاف المقلدين إلى مصاف المبدعين، وذلك من خلال الانقلاب على كل الممارسات التي أنتجتها حالتا التقليد والانقياد، والتحرر النهائي من الوصاية الفكرية والثقافية، وإطلاق العنان لعقولنا في اقتحام ميادين الأفكار وانتاجها أو إعادة صياغتها، وعلينا عدم الالتفات لمن يقول بأنها محاولات متأخرة، (إن تصل متأخراً خير من أن لا تصل).
اضف تعليق