q

هل نجحت الولايات المتحدة الأمريكية في إخضاع العالم لمنطقها في الديمقراطية؟ وهل يمكن القول بأنها تعاملت بغرور لفرض هذا المنطق بحسب (بروجيكت سنديكيت) الذي يرى أنها تقوم "بإطعام الدول الديمقراطية بالقوة أو حتى بالسلاح"؟.

مثل هذه الأسئلة، وأخرى تقترب من مناخاتها تعود لتبرز مجدداً إلى الواجهة بعد تغيير يفرض واقعه على خريطة الأحداث العالمية، ويبوح بتفوق يميني لافت بدأ مع فوز (دونالد ترامب) برئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، وما سيتبعه من تداعيات في اوروبا.

ويبدو ان صعوبات كبيرة ستواجه اليمين في إقناع العالم، وخصوصاً في الشرق الاوسط بالديمقراطية المفصلة على المقاسات الشعبوية ذي السمة المتعالية، وذلك بعد فشل التجربة التي سبقتها في جعل البلدان الشرق أوسطية ديمقراطية وفق المزاج الأمريكي، ما جعل الخصوصية الليبرالية مهتزة الأركان، فكيف بها إذا جاءت بآليات أقل ما يقال عنها أنها أحادبة النظرة حتى مع ارتدائها القميص الليبرالي الفضفاض.

لاشك أن جدار الديمقراطية اليميني متصدع؛ وذلك لأنَّ عرّاب اليمين الحالي (دونالد ترامب)، وعبر أكثر من تصريح؛ بدا وكأنه ديمقراطي على مستوى الاستحقاق الانتخابي، وهذا طبعاً سيجعله بمواجهة محتملة وصدامات مع بقية المؤسسات الأمريكية.

والحقيقة أنَّ الليبرالية تعاني سواء بوصول الشعبويين إلى السلطة في امريكا، مع بعض التكهنات بوصولها كذلك في اوروبا، أو بغير الشعبويين، وأصل هذا المعاناة يتمثل بثنائية الدولة/الفكرة، والصراع الحاد في أروقتها الداخلية بين سلوكها الاجتماعي والسياسي، وهو الوتر الذي يريد (ترامب) العزف عليه بأصابعه اليمينية المتطرفة، محاولاً إعادة نغمة التحول الاجتماعي، وترسيخ الهوية بشعار "أمريكا أولاً"، مستغلاً الانطفاء الواضح لليسار، واقتناص مفاهيمه ما استطاع في حقوق الإنسان، وتوفير فرص العمل،..الخ، بعد إعادة إنتاجها في مصانع اليمين التي ستنشط وفق معطيات المرحلة الراهنة.

إن أقطاب اليمين سواء في أمريكا أو اوروبا يركزون على تبني خطابات مستفزة للمؤسسات والنخب الثقافية والاعلامية كما ظهر مؤخراً في تصريحات (ترامب) المثيرة للجدل، وذلك حين هاجم بعض المؤسسات الاعلامية ووصفها بأنها عدوة الشعب الأمريكي.

كما ان اليمينيين يجتهدون في صناعة رأي عام يغازل المشاعر القومية بلغة تحذر من ضياع المستقبل والهوية، وترسخ في أذهان المواطنين رعب التعددية الثقافية، والخوف من مستقبل غامض يأتي نتيجة السماح للمهاجرين واللاجئين، وخصوصاً المسلمين بعد اتهامهم بالارهاب من خلال نشر مصطلح (الإسلاموفوبيا).

القديم الجديد في صراع الحضارات

كما أن حالة من الصراع القديم الجديد قد تظهر وتتفاعل في المحيط العالمي بين معسكرين، يتبنى الأول الديمقراطية الليبرالية وتمثله أمريكا وبلدان أوروبا المنسجمة مع توجهاتها، بينما يتبنى المعسكر الثاني فكرة صراع الحضارات ويمثله القطبان العتيدان روسيا والصين. هذا الصراع يراه الدكتور (عزمي بشارة) ذا خلفية ثقافية تم إهمالها لصالح التركيز على تحليلات سياسية واقتصادية ، بينما هو في الواقع صراع ثقافتين "تسود الأولى لدى قطاعات اجتماعية متلبرلة ثقافياً واجتماعياً وسياسياً، يمكن ترسيم ملامحها بوصفها فئات وسطى من قطاعات خدمية وأكاديمية وتكنوقراطية وغيرها، وتعيش في المدن الكبرى غالباً، وهي مستفيدة من العولمة والتجارة الحرة. إنها ليست بريئة من العنصرية ومن الشعور بالتفوق تجاه الآخر، ولا هي متحررة من الخوف من الآخر، هذا إضافة إلى أن جزءاً متنامياً منها أصبح يتبنى مبدئياً قيماً ليبرالية أخلاقياً، وذلك عبر التنشئة الاجتماعية ونتائج صراعات الأجيال. أما الثانية فثقافة محافظة تقليدية عابرة للطبقات ولكنها سائدة في الأرياف الغنية والفقيرة المحافظة التي تنظر بريبة وشك إلى ثقافة المدن الكبرى بوصفها منحلة"1.

ويرى الدكتور (بشارة) أن مواقع التواصل الاجتماعي أسهمت في ترجيح كفة الطرف الثاني حتى صارت له مشاركة في الحياة السياسية، والوصول لمناطق القوى في الاعلام، وهذا مايفسر العداء اليميني ومواقفه المتشددة تجاه النخب الثقافية والاعلامية. لكل ذلك؛ صار التوجه اليميني قائماً على مزاوجة الديمقراطية بالليبرالية من باب للضرورة أحكام، وأية ضرورة أهم من الوصول للسلطة؟ وبالوصول إلى السلطة الذي بدأ من (ترامب)..وقد تحذو فرنسا ذات الحذو ؛ سيتعين على الشعبويين أن يكونوا مرنين في التعامل مع القوى الشعبوية الأخرى، فالشعبوية كمصطلح أو خطاب لاتنحصر بإيديولوجيا دون غيرها، فمثلما تحضر في اليمين تحضر في اليسار.

وفي حقيقة الأمر، كان للتفاؤل الليبرالي المبالغ فيه دور في فشل مشاريعها، وتبقى قضية فرض أنموذجها على مجتمعات وبلدان غير منسجمة معها ثقافياً وحضارياً أهم مسببات فشلها، وكذلك في التناقضات الصريحة بين التنظير والسلوك، خصوصاً في مسألة معاضدتها لأنظمة متسلطة وغير ديمقراطية، بل تقف بالضد أصلاً من التوجهات الليبرالية وهو ما تنبه له شعبوي وهذه المرحلة – ترامب أنموذجاً - التي تتطلب سياسة جديدة تقوم على الاهتمام بالشأن الداخلي، والتنازل قليلاً عن صفة (عرّابة الديمقراطية) وتصديرها عبر فوضى خلاقة أوغيرها من الخطط التي لم تنتج غير الفشل الذريع والسخط الإنساني العام.

__________________________
1: عزمي بشارة ، صعود اليمين واستيراد صراع الحضارات إلى الداخل، مجلة سياسات عربية ، العدد23 تشرين الثاني 2016

اضف تعليق