والتضليل بنحو عام لاسيما الذي يتعدى الذات إلى الآخر ينقسم إلى أنواع كثيرة ، ويتفاوت في درجة خطورته، ويشيع في مجالات عدة، كالتجارة مثلا، فغالبا ما يستخدم أصحاب الشركات المختلفة تقنيات مخادعة لترويج سلعهم، وخدماتهم عبر نشر معلومات ( مضللة ومظللة)...
الخداع بصفة عامة سواء أ كان خداعا للذات (النفس)، بمعنى تحاشي النظر للحقيقة كماهي، أم كان خداعا للآخرين فإنه يستند -بصنفيه- في معظم مظاهره إلى دواع نفسية أو إلى دواع اجتماعية، ومن الدواعي التي تندرج في الصنف الأول أي خداع الذات للذات ما يتعلق بحقيقة نفسية مفادها أن الإنسان لا يحتمل التناقض بين أفكاره وسلوكه، فيُضلل نفسه ليُعيد الاتساق لها، وهذا النوع من التضليل يدخل في إطار نظرية التنافر المعرفي (Cognitive Dissonance Theory)؛ إذ تفسر هذه النظرية التي وضعها عالم النفس الأمريكي ليون فستنغر (Leon Festinger) الصراع الداخلي في عقل الإنسان تفسيرا مريحا له، وذلك حين تتعارض أفكار هذا الإنسان مع سلوكه أو قيمه، ومتبنياته.
وتُعد هذه النظرية حجر الأساس لفهم الخداع الذاتي، وتضليل الوعي الفردي بـ(مظلة داخلية)، ويمكن التمثيل لها بشخص، يؤمن بالعدالة، لكنه يسوّغ ظلمه على المستوى الشخصي بدعوى أن الظلم الذي وقع منه كان خارجا عن إرادته، أو تراه يدعم نظامًا جائرا بدعوى أن الشعب المضطَهد لا يستطيع ( تحمّل) أجواء الحرية، فحالما تنفتح له نوافذ الاختيار الحرّ سيتصرّف بطريقة تجلب له الفوضى، والدمار، فهذا الشعب بمعنى من المعاني يحمل في جيناته ميلا أو استعدادا فطريا للخضوع، وهو مصمم للعبودية بحسب وجهة النظر الخادعة هذه!
وبتعبير بعض الفلاسفة المحدثين فإن الإنسان يكذب على نفسه ليعيش وهمًا مريحًا، فهو يرى الحقيقة، لكنه يختار أن لا يراها، وذلك بحسب ما يُنقل عن (جون بول سارتر)، أما ما يندرج تحت الصنف الثاني، أي تضليل الآخرين، وتزييف قناعاتهم، فغالبا ما يُمارس من لدن الأنظمة السياسية المستبدة التي تخلق لشعوبها واقعا مصطنعا أو ( مظلة خارجية) لتغدو هي الحقيقة لا غير في حين تُمحى من الواقع الحقيقة الأصلية، وتصاغ مثل هذه الحقيقة المصطنعة بمعادلات القوة والبطش عادة، فالسلطة تنتج المعرفة بتعبير (ميشيل فوكو)، فالإعلام، والتعليم، والطب، والدين تصبح جميعها أدوات لإنتاج "خطابات" تجعل ما هو غير عادل، أو ما هو غير طبيعي يبدو عقلانيًا، وطبيعيا، فالتضليل هنا ليس كذبًا ساذجًا بل هو هندسة للوعي الجمعي، وهذا التضليل حين ينتقل من الوسط السياسي إلى ميادين الثقافة يمارس قمعا فكريا تتعدى آثاره ما يشيع في أجواء السياسة العادية؛ لأن بعض مثقفي السلطة، وبحكم ما لديهم من (مواهب) يتمكنون من خلق قناعات عامة زائفة تجعل كثيرا من الناس يمارسون العبودية الذاتية تحت (وهم) أنهم أحرار، ويمارسون استعباد الآخرين؛ لأنهم آلهة أو أنصاف آلهة، وهذا هو حال الطغاة المستبدين عبر العصور.
من هنا يتبين لنا أن التضليل والخداع سواء أ كان موجَّهًا للذات، أو للآخر إنما هو نتيجة للخوف أو السلطة في المقام الأول، وهو بمجمله يمثّل إعادة صياغة للواقع بشكل يحقق توازنًا نفسيًا، أو مصلحة سلطوية، أو انسجامًا فكريًا زائفًا. وبحسب هذه الآليات النفسية والاجتماعية تنمو شخصية المستبد لتبلغ أحيانا أقصى درجات النرجسية أو ( جنون العظمة)، والتاريخ المعاصر حافل بأمثلة لزعماء أموات وأحياء مسؤولين عن صناعة كوارث إنسانية مدمرة لهم، ولغيرهم لا لشيء إلا للحفاظ على أمجادهم الشخصية، أو ما يتصورونه من أفكار خيالية.
والتضليل بنحو عام لاسيما الذي يتعدى الذات إلى الآخر ينقسم إلى أنواع كثيرة ، ويتفاوت في درجة خطورته، ويشيع في مجالات عدة، كالتجارة مثلا، فغالبا ما يستخدم أصحاب الشركات المختلفة تقنيات مخادعة لترويج سلعهم، وخدماتهم عبر نشر معلومات ( مضللة ومظللة). وهذا النوع من التضليل والتظليل على خطورته يبقى في مستوى أهون من التضليل الآيديولوجي (Ideological Deception) ، الذي يعدّ أخطر أنواع الخداع على الإطلاق؛ لأنه غالبًا ما يكون ممنهجًا ويمتد تأثيره على مستوى الجماعات ، لا الأفراد فحسب؛ فالآيديولوجيا وبصرف النظر عن تشخيصها تصوّر نفسها عادة وكأنها التفسير "الصحيح والأوحد " للعالم، مثلما تُصوَّر الأفكار المخالفة لها بوصفها انحرافا أو خيانة، أو كفرًا!
وتعمد الآيدلوجيا عادة عبر منظرّيها إلى بناء سرديات زائفة تتوافق مع روايتها الخاصة، فالشيوعية السوفييتية مثلا روّجت لفكرة أنها تمثل "الطبقة العاملة" و"العدالة الاجتماعية"، لكنها في الواقع مارست الاستبداد، والقمع، والمجاعة!
والآيدلوجية النازية خدعت الشعب الألماني بأفكار تفوّق العرق الآري، وسيادته، وقدرته على هزيمة الآخر ، فكانت النهاية وبالا على هذا الشعب، وانهزاما تاريخيا للبلد أي ألمانيا ، ومصادرةً لسيادته، وقراره السياسي. وهذا المصير البائس الذي وصلته الشيوعية، والنازية، وغيرهما من قبل هو المصير الذي ستنتهي إليه الآيدلوجيات المعاصرة المماثلة أو المغايرة وسواءٌ المؤسسُ منها على نرجسية شخصية أو على نرجسية جماعية.
اضف تعليق