خوفُ الإنسان من ردودِ فعل المجتمع أحد العوامل التي تمنعه من تبني أفكار جديدة أو تغييرات إيجابيَّة في حياته؛ فعندما يفكِّر الفردُ في تعديلِ أفكارِه أو سلوكياتِه نحو الأفضل، قد يشعرُ بالقلق من ردود الفعل السَّلبيَّة التي قد يتعرَّضُ لها من الآخرينَ، وهذا الخوف قد يتجسَّد في السُّخريَّة أو الانتقادات...
في داخل كلِّ إنسان مجرَّة من الإمكانات، لا يراها إلَّا من تجرأ على الغوص في أعماقه؛ فالعالم لا يتغيَّر حين تتبدَّل الأشياء، وإنَّما حين يتبدَّل الوعي؛ والإنسان لا يُصاغ من الظروف، إنَّما يصوغها حين يعرف نفسه، ويتصالح مع أعماقه، ويعيد تشكيل رؤيته للعالم. وكما لا تُزهر الشجرة إنْ لم تتشبث جذورها في عمق الأرض، لا يُثمر العقل ولا يزدهر القلب ما لم يطهّرهما الوعي من الشكِّ، ويحرّرهما من الركود.
من هنا، تنطلق هذه الوقفة التأمليَّة، لا بحثًا عن إجابات معلَّبة، بل عن وعي يقودنا إلى السُّؤال الجوهري: كيف نبني أنفسنا من الداخل ليولد مستقبلنا من صميم إرادتنا، لا من هوامش ما يُفرض علينا؟
إنَّ بناء الإنسان من الداخل هو أساس كلِّ نهضة حقيقيَّة، فردًا كان أو مجتمعًا؛ فحين ينهض الوعي، تنهض الرؤيَّة، ويتحوَّل الإدراك إلى سلوك، والسلوك إلى مسار يقود إلى التغيير العميق والمستدام.
وفي هذا المقال، سنسير معًا في رحلة، نلامس فيها جذور الذَّات، ونكتشف مفاتيح النمو من الدَّاخل، وسنقف عند مجموعة من المحطَّات:
المحطَّة الأوَّلى: إِعَادة بناء الأَفكار في داخل النَّفس.
قد يواجهُ الإنسانُ في بعضِ الأحيان أزمات عديدة عندما يسعى لتحقيق التَّغيير في حياتهِ وفي مجتمعهِ؛ لكن التَّغيير الحقيقي ينطلق من عُمقِ النَّفس؛ وليس من الخارج؛ وأوَّلُ خطوةٍ نحو أيِّ إصلاح تبدأ من إعادةِ بناءِ الأفكار في داخل النَّفس؛ لأنَّ الله (سبحانه) يقول: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) (1).
إنَّ عمليةَ تغييرِ البيئةِ الدَّاخليةِ للنَّفسِ تشبهُ عمليةَ بناء قويَّة تتطلَّب الإرادةَ والتَّصميم؛ فكما أنَّ البناء يحتاجُ إلى أساس قوي وأدوات ملائمة، فإنَّ تغييرَ الأفكار والاتِّجاهات يحتاجُ إلى نفسِ الجهدِ والعزمِ؛ ولكن بمنظار آخر؛ فالإرادةُ القويَّةُ والتَّصميم على التَّغيير هما العنصرانِ الأساسيانِ اللذانِ يمكِّنان الإنسانَ من تحقيقِ أهدافِهِ.
في مسعى التَّغيير الدَّاخلي قد يلاقي الإنسانُ صعوبةً في التَّخلص من بعضِ الأفكار القديمةِ التي قد تكون متجذرة في ذهنهِ؛ خاصَّةً عندما يتبنَّى الفرد رؤى ومعتقدات لا تتوافق مع تطلعاتهِ الحقيقيَّةِ أو التي تؤثِّر سلبًا على سلوكهِ، وهذه الأفكارُ قد تعيقُ التَّقدمَ وتحدُّ من إمكانياتِنا؛ لذا، فإنَّ التَّخلصَ من هذهِ الأفكارِ هو جزءٌ أساسي من عمليَّةِ إعادةِ بناءِ الذَّات، ويمكن تشبيه هذه العمليَّة بمعركة يخوضها الإنسان ضدَّ ذاته وضدَّ التّأثيرات المحيطةِ به، وفي هذه المعركة يكون لدى الفرد أدوات وأسلحة يمكن استخدامها لتحقيقِ النَّصر؛ لكن هذه الأدوات يجب استخدامها بفعَّالية لتحقيق التَّغيير المنشود؛ فالله (سبحانه وتعالى) كما ورد في النصوص الشَّريفة لا يستجيب لمن يمتلكُ الأدوات اللازمة للتغيير؛ لكنَّه لا يسعى لاستخدامها، وفي هذا المجالِ روي عن الإمامِ الصَّادق (عليه السلام)، أنَّه قال:
"ثَلَاثَةٌ يَدْعُونَ فَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ: رَجُلٌ جَلَسَ عَنْ طَلَبِ الرِّزْقِ، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي. يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ: أَلَمْ أَجْعَلْ لَكَ طَرِيقاً إِلَى الطَّلَبِ؟ وَرَجُلٌ لَهُ امْرَأَةُ سَوْءٍ يَقُولُ: اللَّهُمَّ خَلِّصْنِي مِنْهَا. يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَلَيْسَ قَدْ جَعَلْتُ أَمْرَهَا بِيَدِكَ؟
وَرَجُلٌ سَلَّمَ مَالَهُ إِلَى رَجُلٍ، وَلَمْ يُشْهِدْ عَلَيْهِ بِهِ فَجَحَدَهُ إِيَّاهُ فَهُوَ يَدْعُو عَلَيْهِ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: قَدْ أَمَرْتُ بِالْإِشْهَادِ فَلَمْ تَفْعَلْ"(2).
إنَّ التَّغييرَ الذي نسعى إليه يجب أن يبدأَ من التَّفكير في الذَّات أوَّلًا، قبل أن ننتقلَ إلى تغييرِ البيئةِ المحيطةِ بنا؛ وبمجرَّد أن نتمكَّنَ من إعادةِ بناءِ أفكارِنا وتغييرِ نظرتِنا الدَّاخلية، سنجدُ أنَّ التَّغييرَ في الخارجِ يصبحُ أسهلَ وأكثرَ تحقيقًا.
المحطَّة الثَّانية: اِنتقـــاء الأَفكار.
انتقاءُ الأفكار المثمرة مهارة أساسيَّة للنَّجاح والتَّفوق في الحياة.
لكن ماذا نعني تحديدًا بانتقاء الأفكارِ المثمرةِ؟
وكيف يمكن لنا تطويرَ هذه البراعة؟
المقصود بانتقاء الأفكار المثمرة: التَّمكن من تحديدِ الأفكارِ التي يمكن أن تحققَ إصلاحات حقيقيَّة في الحياة الشَّخصيَّةِ أو المهنيَّةِ أو المجتمعيَّة، وهنا لا بدَّ من التَّنبيه أنَّه ليست كلُّ فكرةٍ تستحقُ المتابعةَ أو التَّنفيذَ؛ وإنَّما هناك أفكار تحملُ في جوهرِها التَّغيير، والابتكارَ، وتحويلَ الرُّؤيةِ إلى واقع ملموس.
إنَّ عمليَّةَ انتقاءِ الأفكار تبدأُ بجمعِ أكبر عددٍ ممكن من الأفكارِ من مصادر متنوّعة، ويمكن أن تأتيَ هذه الأفكار من الكتب، والمقالات، والمحاضرات، والنِّقاشات، أو حتَّى من التَّأمُّلِ الشَّخصي، وهذا التَّنوعُ في المصادر يضمن أن تكونَ لديك رؤية شاملة للمشكلةِ أو الموضوعِ الذي تبحث فيه؛ ولكنَّ جمع الأفكار وحدهُ لا يكفي؛ ولا بدَّ من توفير نظام صارم لتقييمِها، وأن نسألَ أنفسَنا:
هل هذه الفكرة واقعيَّة؟
هل يمكن تطبيقها في الحياةِ اليوميَّة؟
هل تتوافقُ مع الأهدافِ التي أسعى لتحقيقِها؟
هل تتناسبُ مع الموارد المتاحةِ لي؟
وهذه الأسئلةُ تساعدُ في تصفيةِ الأفكار، وتقليلِ عددِها إلى تلكَ الأفكار التي تحمل فعلًا إمكانيات مثمرة.
وبعدَ تحديد الأفكار التي تبدو واعدةً، يجب أن نخضعَها لاختبارات عمليَّة، ويمكن أن يكونَ ذلكَ عبر تجربتِها على نطاقٍ صغير، أو عن طريق إعداد نموذج أوَّلي، أو حتَّى عبر البحث والتَّحليل المكثَّف، وهذهِ المرحلةُ تتيحُ لنا معرفةَ ما إذا كانت الفكرةُ قابلةً للتنفيذ كما هي، أم أنَّها بحاجةٍ إلى تعديل، وغالبًا ما تظهر هنا بعضُ العقبات التي لم تكنْ واضحةً في البدايةِ، وهو ما يجعل هذه المرحلة حاسمة في عمليةِ الانتقاء، وإذا اجتازت الفكرةُ مرحلةَ الاختبار بنجاح، يكون الوقتُ قد حان لتنفيذِها، والتَّنفيذ هو بداية مرحلة جديدة تتطلَّبُ إدارة دقيقة ومتابعة مستمرَّة.
ثمَّ بعد ذلكَ تأتي خطوةُ التَّأكد من أنَّ الفكرةَ تحققُ الأهدافَ المرجوة منها، وأنَّها تسيرُ وفق الخطةِ الموضوعة، وإذا ما ظهرت مشكلات أو صعوبات، يجب أن نكونَ مستعدينَ لتعديلِ الخطة أو حتَّى إعادة النَّظر في الفكرةِ برمتها.
يضافُ إلى ذلك أنَّ انتقاءَ الأفكار المثمرةِ يتطلَّبُ منَّا كذلك مواجهة عددٍ من المخاطر؛ ففي عصر الإنترنت ووسائلِ التَّواصل الاجتماعي، نجد أنفسَنا غارقينَ في كمٍ هائلٍ من المعلومات التي تجعل من الصَّعب التَّركيز على الأفكار التي تستحقُ فعلًا المتابعة؛ لذا، فإنَّ إدارةَ الوقت بفعَّالية، وتحديدَ الأولويات يعدَّان من الأمور الأساسيَّة للتغلبِ على هذا التَّشتت.
من العقبات الأخرى التي قد تواجهنا في انتقاء الأفكار هي الضُّغوط الاجتماعيَّة والمهنيَّة، وفي كثير من الأحيان، قد نجد أنفسَنا مضطرينَ لتبني أفكار لا تتناسب مع رؤيتِنا الخاصَّة بسببِ ضغوط من المجتمع أو من مكانِ العمل، وهذا قد يقودُنا إلى إهمال الأفكار التي قد تكون أكثر توافقًا مع أهدافنا الشَّخصيَّة، وللتغلب على هذا النَّوع من العقبات، يجب أن نكون واثقين في قراراتنا، وأن نعملَ على بناءِ شبكة دعم قويَّة من الأصدقاءِ والزُّملاءِ الذينَ يشجعوننا على التَّفكير بحريةٍ، واختيار الأفكار التي تناسبنا.
قد تكون لديكَ فكرة رائعة ولكنك تفتقرُ إلى الموارد الماديَّة أو البشريَّة لتحقيقِها، وفي مثلِ هذه الحالات، يتطلَّبُ الأمرُ الكثيرَ من الابتكار والإبداع للبحثِ عن حلول بديلة، ومن المفيدِ هنا التَّفكيرُ في استخدام الموارد المتاحة بشكل أكثر فعَّالية أو البحث عن شراكات مع آخرين يمكنهم المساعدة في تنفيذِ الفكرة.
أمَّا كيف نقوم بعمليةِ انتقاء الأفكار المثمرة؛ فذلكَ بالسَّعي على تنميةِ مهارات التفكير النَّقدي لدينا، وهذا يمكن أن يتمَّ من القراءةِ المستمرة، والمشاركةِ في النقاشات الفكريَّة، والتفكيرِ في العواقب المحتملة لكلِّ فكرة قبلَ اتِّخاذ القرار بمتابعتها.
إنَّ الفوضى والتَّراكم العشوائي للأفكار لا يؤديان إلى نتائج إيجابيَّة، وعلى العكس من ذلك فإنَّ انتقاء الأفكار يساعد العقلَ على تنظيم تفكيره؛ وهذا المفهوم نجد له صدى واضحًا في القرآنِ الكريم وفي حياةِ الرَّسولِ الأعظم (صلَّى الله عليه وآله) وفي حياةِ المعصومين (عليهم السلام)، ولأذكر بعضَ مصادق هذا المفتاح:
* اختيار الزَّوجة.
قامَ رَسُولُ الله (صلَّى الله عليه وآله) خَطِيبًا فَقَالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ، إِيَّاكُمْ وَخَضْرَاءَ الدِّمَنِ".
قِيلَ: يَا رَسُولَ الله، وَمَا خَضْرَاءُ الدِّمَنِ؟
قَالَ: "الْمَرْأَةُ الْحَسْنَاءُ فِي مَنْبِتِ السَّوْءِ"(3).
وقالَ (صلَّى الله عليه وآله): "تَخَيَّرُوا لِنُطَفِكُمْ؛ فَإنَّ الْعِرْقَ دَسّاسٌ"(4).
* انتقاء الكلام.
نصحَ الإمامُ علي (عليه السلام) ولده الإمام الحسن (عليه السلام) بقوله: "لاَ تَقُلْ مَا لاَ تَعْلَمُ، بَلْ لاَ تَقُلْ كُلَّ مَا تَعْلَمُ، فَإِنَّ اللهَ قَدْ فَرَضَ عَلَى جَوَارِحِكَ كُلِّهَا فَرَائِضَ يَحْتَجُّ بِهَا عَلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"(5).
* اختيار الصَّديق.
رُوِيَ عَن الإمام جعفر بن محمَّد الصَّادق (عليه السلام) أنَّهُ قَالَ: "لَا تَكُونُ الصَّدَاقَةُ إِلَّا بِحُدُودِهَا، فَمَنْ كَانَتْ فِيهِ هَذِهِ الْحُدُودُ أَوْ شَيْءٌ مِنْهَا فَانْسُبْهُ إِلَى الصَّدَاقَةِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْهَا فَلَا تَنْسُبْهُ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الصَّدَاقَةِ.
فَأَوَّلُهَا: أَنْ تَكُونَ سَرِيرَتُهُ وَعَلَانِيَتُهُ لَكَ وَاحِدَةً.
وَالثَّانِي: أَنْ يَرَى زَيْنَكَ زَيْنَهُ، وَشَيْنَكَ شَيْنَهُ.
وَالثَّالِثَةُ: أَنْ لَا تُغَيِّرَهُ عَلَيْكَ وِلَايَةٌ وَلَا مَالٌ.
وَالرَّابِعَةُ: أَنْ لَا يَمْنَعَكَ شَيْئاً تَنَالُهُ مَقْدُرَتُهُ.
وَالْخَامِسَةُ: ـ وَهِيَ تَجْمَعُ هَذِهِ الْخِصَالَ ـ أَنْ لَا يُسْلِمَكَ عِنْدَ النَّكَبَاتِ"(6).
ورُوِيَ عنه (عليه السلام)، أنَّهُ قَالَ: "لَا تُسَمِّ الرَّجُلَ صَدِيقًا سِمَةَ مَعْرِفَةٍ حَتَّى تَخْتَبِرَهُ بِثَلَاثٍ: تُغْضِبُهُ فَتَنْظُرُ غَضَبُهُ يُخْرِجُهُ مِنَ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ؟، وَعِنْدَ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، وَحَتَّى تُسَافِرَ مَعَهُ"(7).
وقال أميرُ المؤمنينَ علي (عليه السلام): "إِيَّاكَ وَصُحْبَةَ مَنْ أَلْهَاكَ وَأَغْرَاكَ فَإِنَّهُ يَخْذُلُكَ وَيُوبِقُكَ"(8).
إنَّ هذه الرِّوايات وإن كانت تركِّز على المجالِ الأخلاقي، إلَّا أنَّها تحملُ توجيهًا عامًا بشأنِ انتقاءِ الأفكارِ بشكلٍ صحيح.
*هل هناك ما يمنع من انتقاء الأفكار الصحيحة؟
نعم، ينبغي إزالة الأفكار الضَّارة أوَّلًا، مثلما نقوم بإزالة الأشواك والنَّباتات الضَّارة من الأرض قبلَ زراعتِها، وعلى العقلِ أن يتخلَّصَ من الأفكارِ النَّمطيَّة والخاطئةِ الموروثة قبل أن يتمكنَ من انتقاء الأفكار الصَّائبة، وهذا نفهمه من روايات عدَّة عن المعصومين (عليهم السلام)؛ إذ تثمر إزالة الأفكار الضَّارة في عقل الإنسان، فتظهر الأفكارُ الصَّائبةُ والمثمرةُ:
قال الله (عزَّ وجلَّ): (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) (9).
وقال (جلَّ جلالُه): (لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ)(10).
وعَنِ النَّبِيِّ الأكرم (صلَّى الله عليه وآله)، أنَّه قَال: "مَنْ أَخْلَصَ لله أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَجَّرَ اللهُ يَنَابِيعَ الْحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ"(11).
وعن الإمامِ علي (عليه السلام): "لَيسَ العِلمُ فِي السَّماءِ فَيُنزَلُ إلَيكُم، ولا في تُخومِ الأَرضِ فَيُخرَجُ لَكُم، ولكِنَّ العِلمَ مَجبولٌ في قُلوبِكُم، تَأَدَّبوا بِآدابِ الرَّوحانِيّينَ يَظهَر لَكُم"(12).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): "... فَبَعَثَ فِيهِمْ رُسُلَهُ، وَوَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاءَهُ، لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ، وَيُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِهِ، وَيَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بِالتَّبْلِيغِ، وَيُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ..."(13)؛ فهناك كنوز في داخلِ العقلِ، ولكن الأفكار الضَّارة تعيقُ خروجَها إلى السَّطحِ، ممَّا يجعلها تبقى مكبَّلة.
* لماذا لا أستطيع التَّخلص من الأفكار الضَّارة؟
الجواب: خوفُ الإنسان من ردودِ فعل المجتمع أحد العوامل التي تمنعه من تبني أفكار جديدة أو تغييرات إيجابيَّة في حياته؛ فعندما يفكِّر الفردُ في تعديلِ أفكارِه أو سلوكياتِه نحو الأفضل، قد يشعرُ بالقلق من ردود الفعل السَّلبيَّة التي قد يتعرَّضُ لها من الآخرينَ، وهذا الخوف قد يتجسَّد في السُّخريَّة أو الانتقادات، ممَّا يجعله يتراجع عن اتِّخاذ القرارات الصَّائبة خوفًا من أن يراه الآخرونَ بشكل مختلف أو يقللوا من شأنه، كما أنَّ المجتمعَ بنظراته وأحكامهِ المسبقة، قد يساندُ هذا الشُّعور، ممَّا يخلق حاجزًا نفسيًا يحول دون الإقدام على التَّغيير؛ فيصبح التَّمسكُ بالأفكارِ القديمةِ أو السَّيئة أسهل في بعض الأحيان؛ لأنَّه يوفر للشخصِ شعورًا زائفًا بالأمانِ الاجتماعي.
* الدَّعوات الثَّلاث التي ذهبت سدًا.
يروى: "إنَّ اللهَ أوحى إلى نبيٍ من الأنبياءِ، أنَّ لرجلٍ في أمتهِ دعوات مستجابة، فأخبرَ ذلكَ الرَّجل، فانصرفَ الرَّجلُ من عندهِ إلى بيتهِ، فأخبرَ زوجَتهُ بذلكَ فألحت عليهِ أن يجعلَ دعوةً لها فرضى.
فقالت: سلْ اللهَ أن يجعلني أجملَ نساءِ الزَّمان.
فدعا الرَّجلُ فصارت كذلكَ. فرأت رغبةً من الملوكِ والشُّبان المتنعمينَ فيها، فزهدتْ في زوجِها الشَّيخِ الفقير، وجعلت تغالطهُ وتخاشنهُ وهو يداريها ولا يكاد يطيقُها، فدعى اللهَ أن يجعلَها كلبةً فصارتْ كذلكَ.
ثمَّ اجتمع أولادُه حولهُ يبكونَ ويئنونَ والنَّاس يعيروهم ويقولون لهم: إنَّ أمهم كلبة نابحة، فدعا اللهَ فصيَّرها كما كانت فذهبتْ الدَّعوات الثَّلاثُ هباءً"(14).
المحطَّة الثَّالثة: غرس الأفكار في النَّفس.
الأفكارُ تشبهُ النَّباتات؛ فهي بحاجةٍ إلى عنايةٍ مستمرةٍ لكي تزداد وتزدهر؛ فحينما نزرع نباتًا، نحرص على تزويدهِ بالمناخِ المناسبِ والماءِ الكافي؛ لكي ينمو ويثمر، وبنفس الطَّريقة تحتاج الأفكارُ إلى الرِّعايةِ.
وتشبيهُ الأفكار بالنَّباتات يسلط الضَّوءَ على أهميَّةِ الاستمرارِ في العنايةِ بها وإعادة التَّفكير فيها لتحقيق نتائج إيجابيَّة، وغالبًا ما نجد أفكارًا تبدو ذات قيمة؛ ولكننا لا نمنحها الاهتمام الكافي، وقد تمرُّ فترة طويلة قبلَ أن ندركَ أنَّ تلكَ الأفكار التي تجاهلناها كان من الممكن أن تكونَ مفتاحًا لتغييرِ حياتنا.
إنَّ كثرةَ التَّفكير وتعاهدَ الأفكار يساهمان أيضًا في ارتفاع درجات البداهة الفكريَّة؛ فنحن في الوقت الذي نكرِّس أيَّامنا للتَّفكير في أفكار معيَّنة، فإننا نُجددُ من قابليتنا على التَّعاملِ مع المشكلات واتِّخاذِ القرارات السَّليمة، وهذا النَّوعُ من التَّفكيرِ يقدِّم لنا يدَ العونَ على تحليلِ الأمورِ بفعَّالية، ويزيدُ من عمق فهمنا للعالم من حولِنا.
إنَّ تشجيعَ التَّفكير المستمر والاهتمامَ بالأفكارِ يمكن أن يُوصلَ إلى إنجازات عظيمة وتطورات ملحوظة في حياتِنا، ومن يراجع النُّصوص الشَّريفة سيجد أنَّها تؤكِّد على أهمية تعاهدِ الأفكار واستمرارِ حركةِ العقلِ؛ فقد ورد عن أميرِ المؤمنينَ علي بن أبي طالب (عليه السلام)؛ إذ قال: "نعوذ باللهِ من سبات العقلِ، وقبحِ الزَّلل"(15)، وهذا القول يحملُ في طيَّاته دعوةً قويَّةً لليقظة الفكريَّة، فالسُّبات هنا يعني تراجع أو توقف في حركة التَّفكير العقلاني، ممَّا يؤدِّي إلى انحراف في القراراتِ والأفعالِ؛ ومن هذا المنطلق، تظهر أهميَّة العناية بالعقل وضرورة تحفيزهِ على الدَّوام، بواسطةِ القراءةِ، والتَّأمل، والنَّقدِ البنَّاء، ممَّا يساعدُ على تحقيقِ التَّصرف الحكيم في الحياة.
* الفرق بين بناء الأفكار وغرسها.
إنَّ إعادة بناء الأفكار داخل النَّفس يشير إلى عمليَّة تعديل أو تغيير الأفكار السلبيَّة أو غير المفيدة إلى أفكار أكثر إيجابيَّة، وهذه العمليَّة تتضمن التفكير النقدي والتأمُّل، وقد تتطلَّب وقتًا وجهدًا لفهم العوامل التي تؤثِّر على طريقة تفكير الشخص. وأمَّا غرس الأفكار في داخل النَّفس فيشير إلى عمليَّة إدخال أفكار معيَّنة، سواء كانت إيجابيَّة أو سلبيَّة في عقل الشخص، وهذه العمليَّة قد تتم من خلال التعليم، والتكرار، أو التأثير الخارجي، مثل وسائل الإعلام أو البيئة المحيطة. وباختصار: إعادة البناء تتعلَّق بتغيير الأفكار الحالية، بينما الغرس يتعلَّق بإدخال أفكار جديدة.
المحطَّة الرَّابعة: البحث عَنْ الفرَص بَدلًا مِنَ التَّركِيز عَلى العَوائِق.
في قلبِ كلِّ تجربةٍ وتحدٍّ يواجهنا... يستترُ المفتاحُ الحقيقي للتقدُّمِ والنَّجاح؛ وهذا المفتاحُ هو الاستطاعةُ على تحويلِ أنظارِنا من التَّركيز على العوائقِ التي تقف أمامَنا إلى السَّعي وراء الفرصِ التي تختبأُ خلفَ تلكَ العوائق؛ والعوائقُ بطبيعتها هي تلكَ العقبات التي تظهرُ في طريقِنا مثل جدران صلبة، تبدو وكأنَّها حاجز يمنعُنا من الوصولِ إلى أهدافنا، وفي كثير من الأحيانِ نميلُ إلى التَّوقفِ عند هذه العوائق، ندرسها ونتساءلُ عن كيفيَّةِ تجاوزِها.
لكن ماذا يحصل لو تمكَّنا من رؤية هذه العوائق مثل فرص محتملة لاكتساب مهارات جديدة، وفتح آفاقٍ لم تكن في الحسبان؟
هنا، يبدأُ التَّغيير الحقيقي؛ وذلكَ بتبديل النَّظرة التي نتبناها تجاه العقبات، فبدلًا من الاستسلام لمشاعر الإحباط التي قد تثيرها تلك العوائق، يمكننا أن نستغلها للتعلم واكتساب الخبرات؛ فالعوائق ليست إلَّا دلائل تشير إلى جوانب جديدة من قدراتنا التي ربما لم نكن على دراية بها.
لنأخذ مثالًا على ذلك: إذا كنتَ عازمًا على تحقيقِ هدفٍ معيَّن، وواجهتك صعوبة لم تكنْ تتوقعها، فبدلًا من الاستسلامِ للإحباطِ، حاول أن تسألَ نفسكَ كيف يمكن أن تكونَ هذه الصُّعوبة فرصة لتوسيعِ مهاراتك؟
وكيف يمكن أن تدفعَك هذه العقبة إلى البحث عن حلول جديدة وابتكارات غيرِ تقليديَّة؟
وعن طريقِ هذا التَّحول في التَّفكيرِ تصبحُ العوائقُ أدوات تقودُك إلى تحقيقِ ما تهدف إليه.
إنَّ قيمةَ البحثِ عن الفرص بدلًا من الانشغالِ بالعوائق مع الظُّروف غير المتوقعة يمكن تحويلها في بعض الأحيان إلى تجارب مثمرة؛ فعلى سبيلِ المثال: كثيرًا ما يواجه الأفرادُ الذينَ يمرونَ بتغيرات مفاجئة في حياتهم، مثل فقدان الوظيفة أو الانتقال إلى مكان جديد مشاعرَ القلقِ والإحباط، ومع هذا، فإنَّ كلَّ تغيير يحمل في طيَّاته فرصةً لإعادة تقييم الأهداف، وإعادة تحديد الأولويات، فضلًا عن اكتشاف مجالات جديدة لم تكن في الحسبان، وبناء علاقات قد تفتح آفاقًا جديدة على الصَّعيدينِ المهني والشَّخصي؛ فالأشخاص الذينَ يركزونَ على الفرصِ بدلًا من العوائق غالبًا ما يكونونَ أكثر استعدادًا للتَّكيف مع التَّغيرات؛ فإنَّهم يرونَ في كلِّ عقبة فرصة للتَّجربة والتَّعلم، ويستخدمونَ تجاربَهم لبناءِ استراتيجيات جديدة لتحقيقِ النَّجاح، وهذه المرونةُ تدعمُ قدرَتَهم على الاستمرارِ في السَّعي نحو أهدافِهم حتَّى عندما تزدادُ الشَّدائدُ؛ ولذلك ينبغي ألَّا يغيب عن أنظارنا أنَّ الفرصَ لا تأتي دائمًا على شكل انتصارات سريعة أو إنجازات فوريَّة؛ بل قد تأتي أيضًا على شكل صراعات تدفعنا للتفكير بعمق أكبر؛ وهذه القرآن الكريم يصرِّح ويؤكِّدُ بأنَّ العسرَ يرافقُه اليسرُ؛ قال الله (تبارك وتعالى): (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) (16)، وقال (سبحانه): (لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ لَا يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا) (17).
وتتضمنُ هذهِ الآياتُ الكريمةُ العديدَ من الدُّروسِ والعِبرِ التي تحملُ معانٍ عميقة، من أبرزِها تأكيدُ حقيقة مهمَّة في الحياةِ؛ وهي أنَّ العسرَ ليس دائمًا؛ وإنَّما يتبعُهُ اليسرُ، وقد يمرُّ الإنسانُ بمراحل صعبة وشديدة؛ ولكنَّها ليست سوى مواقف مؤقتة ستنقضي، وسيأتي بعدَها الفرجُ من حيث لا يحتسب.
إنَّ اليقينَ بهذهِ الحقيقة يدعم في قلبِ المؤمنِ الصَّبرَ ويشجعُهُ على المثابرةِ والتَّوكلِ على اللهِ (تبارك وتعالى)، مع العلمِ بأنَّ النِّهايةَ ستكونُ خيرًا؛ فالفرجُ هو وعد إلهي، يقوي فينا الأملَ والتَّفاؤلَ مهما كانت الظُّروف.
المحطَّة الخامسة: المنظور الجديد.
إنَّ التدبرَ في مسيرةِ الحياةِ وتطويرِ الذَّات يتطلَّبُ منَّا إدراكًا عميقًا للطريقةِ التي نؤسسُ بها أفكارَنا ونبني عقولَنا، والنُّقطة الأساسيَّةُ في بناءِ العقلِ هي كيفيَّة إدخال أفكار جديدة وفعَّالة إلى عالمنا، وهو ما يطلق عليه (المنظور الجديد)، وامتلاك الإنسان للرؤيةِ الواضحةِ والمنظورِ الجديدِ يجعلهُ يرتقى إلى مرحلةٍ متقدمةٍ من الفَهمِ والوعي، وأمَّا إذا كان يفتقر إلى هذه الرُّؤية، فإنَّه يبقى محصورًا داخلَ حدودِ الأفكار القديمة التي تقيِّد تفكيرَه وتُعقدُ حياتَه؛ إذ السّجن الفكري الذي يَفرضُ علينا التَّمسكَ بالماضي من دونِ تجديدٍ يُقيِّد قدرتَنا على تحقيقِ النَّجاحِ.
* أمثلة على المنظور الجديد:
1. جاءَ في الرِّوايات الشَّريفة عن الرَّسولِ الأعظم محمَّد (صلَّى الله عليه وآله): "سَافِرُوا تَصِحُّوا..."(18)؛ فهذه الرِّواية تدلُّ على أنَّ السَّفرَ هو فرصةٌ لتجديدِ العقلِ، وتوسيعِ الأفق، واكتساب العلاقات الجديدة، واكتشاف العوالم المختلفة، ممَّا ينتهي إلى زيادةِ الصِّحة النَّفسيَّة والجسديَّة؛ فنلاحظ أنَّ الرِّواية تدعو إلى فتح أبواب جديدة في الفكر، بعيدًا عن الأفق الضيِّق الذي نعيش فيه.
2. قال الإمام الكاظم (عليه السلام): "ليس حُسن الجِوار كفَّ الأذى، ولكن حُسن الجِوار الصَّبر على الأذى"(19)، وفي هذا النَّص الشريف يبدو لنا معنى عميق وجميل لحسن الجوار؛ إذ لا يقتصر على تجنب الأذى أو تجاهله فحسب؛ وإنَّما يدعونا، ويحثنا على التَّحلي بالصَّبر في مواجهة الأذى، وبذلكَ، يرتقي مفهومُ الجوار إلى مستوى أعلى، فيصبحُ الإحسان في المعاملة والصَّبر على الأذى جزءًا أساسيًا من العلاقة الطَّيِّبة بين الجيران.
3. قال الإمامُ الصَّادقُ (عليه السلام): "كانَ أكثرُ عبادةِ أبِي ذر - رحمة الله عليه - خصلتين: التَّفكر والاعتبارُ"(20)؛ وفي هذا الإطار تُبرز سيرةُ أبي ذر الغفاري (رضوان الله عليه) كمثال على الإبداعِ في العبادةِ والتَّفكر؛ ممَّا يعكس كيف أنَّ العبادةَ هي عمليَّة تأمليَّة تدعم الوعي وتفتحُ أمامَ الإنسانِ أبوابًا غير مألوفة للعبادةِ.
4. رُوِيَ عن الإمام جعفر بن محمَّد الصَّادق (عليه السلام)، أنَّهُ قَالَ: "إِنَّ عِيسَى عليه السلام قَالَ لِلْحَوَارِيِّينَ: إِنَّ مُوسَى أَمَرَكُمْ أَنْ لَا تَحْلِفُوا بِالله كَاذِبِينَ، وَأَنَا آمُرُكُمْ أَنْ لَا تَحْلِفُوا بِالله كَاذِبِينَ وَلَا صَادِقِينَ.
قَالُوا: زِدْنَا.
قَالَ: إِنَّ مُوسَى أَمَرَكُمْ أَنْ لَا تَزْنُوا، وَأَنَا آمُرُكُمْ أَنْ لَا تُحَدِّثُوا أَنْفُسَكُمْ بِالزِّنَا فَضْلًا عَنْ أَنْ تَزْنُوا، فَإِنَّ مَنْ حَدَّثَ نَفْسَهُ بِالزِّنَا كَانَ كَمَنْ أَوْقَدَ فِي بَيْتٍ مُزَوَّقٍ (21)، فَأَفْسَدَ التَّزَاوِيقَ الدُّخَانُ وَإِنْ لَمْ يَحْتَرِقِ الْبَيْتُ"(22)؛ فالحديثُ الشَّريفُ كما يدعو إلى التَّأكيد على تركِ الذُّنوب والمعاصي، يدعو أيضًا إلى تجنب التَّفكير فيها، ممَّا يُعَمِّق من ورع الإنسان وتقواه.
5. النَّبيُّ (صلَّى الله عليه وآله) وذبح الشَّاة.
"ذاتَ يوم ذبحَ النَّبيُّ (صلَّى الله عليه وآله) شاة في بيتهِ ووزَّعها على الفقراء إلَّا الرَّقبة فرأت عائشة أنَّ النَّبي (صلَّى الله عليه وآله) أعطى كلَّ الشَّاة فلم يبق إلَّا أن يعطي الرَّقبة أيضًا؛ ولذا قالت: يا رسولَ اللهِ لقد ذهبت كلُّ الشَّاة ولم يبقَ منها إلَّا الرَّقبة!
فقالَ النَّبي (صلَّى الله عليه وآله): بل لم يذهبْ من الشَّاة إلَّا الرَّقبة؛ لأننا سنأكلُها، أمَّا الشَّاة فستبقى إلى يومِ القيامة حسنة مكتوبة لنا"(23).
6. السيِّد البروجردي (رحمه الله) وبكاؤه خوفًا من الله (تعالى).
يقولُ أحدُ علماء قم، وكانَ من زملاء السَّيد البروجردي (24):
"إنَّ السَّيدَ البروجردي كان في أواخر حياتهِ متأثرًا ومتألمًا جدًا؛ فذاتَ يوم قلنا للسيِّد لماذا نراكَ متأثِّرًا ومتألمًا؟
فقال: إنني في أواخر أيَّامِ حياتي وعلى وشكِ الموتِ، وأنا متأثِّر؛ لأنني سأموتُ ولم أقدمْ أيَّة خدمة في سبيلِ الإسلام! ـ والحال إننا نجدُ أنَّ خدمات السَّيد البروجردي تفوقُ الذِّكرَ وهي لم تخفَ على أحد من النَّاس سواء في العراق أو في لبنان أو في إيران أو غيرها من البلاد ـ فقلنا له: لماذا تقولُ هذا الكلام وأنتَ لك في طهران فقط أربعمائة مسجد أسستها، فعندما سمعَ هذا الكلامَ منَّا أغرورقت عيناهُ بالدُّموع واستعبر باكيًا وقال: "أنتم تحسنون الظَّن بي كثيرًا! ولكن يجب أن نرى أيُّها وقعَ موردًا لقبولِ اللهِ ورضايته" هكذا يفكِّر مثل السَّيد البروجردي (قدس سره) فكيف بنا نحنُ؟
وعندما ماتَ لم يكنْ يملكُ من حطام الدُّنيا شيئًا، نعم، كان لديه ثلاثمائة ألف تومان من الحقوقِ الشَّرعيَّة، وقد أوصى بها أن تعطى شهريَّة لطلابِ العلومِ الدِّينية"(25).
وبعد الوقوف عند محطَّات التغيير الإيجابي نجد أنَّ التغيير هو مسار يبدأ من أعماق النَّفس، ليتجلَّى في الخارج، وأنَّ صناعة الغد المشرق لا بدَّ أن يعتمد على أفكار من شأنها التقدم بصاحبها؛ فلنحرص أن تكون أفكارنا صافية، ورؤانا عميقة، وإرادتنا ثابتة، لنبني مستقبلًا نكون فيه نحن قادته لا ضحاياه.
اضف تعليق