الـ( دا) البغدادية، هي ليست اسم الإشارة (ذا)، وإنما هي في الأصل (قد) التي تفيد التوقع وأحيانا التحقق إن دخلت على الفعل المضارع، وقد حذفت منه القاف، وهذا الأمر عينه في اللهجة الموصلية، إذ يقولون.. فيكتب.. إذ يحذفون الدال منه... وقد قرأت نصوصا ترجع إلى العصر العباسي الأول...

ما أكثر ما راودتني فكرة البحث عن أصل اللازمة أو اللاحقة الفاشية في لسان البغداديين، وأعني بها لفظة "دا" التي تسبق أفعال المضارعة وتفيد الاستمرارية، وقد وقفت مؤخرا على آراء بخصوص هذه المسألة وأبرزها رؤية رئيس المجمع العلمي العراقي سعادة الدكتور محمد حسين آل ياسين؛ إذ يرى في "دا" أنها مشتقة أو مخففة من الفعل "قاعد"، أو "كاعد" فيقول: "إنها بقية الفعل (قعد) الذي كان العرب يستعملونه استعمالنا للدال فيقولون: فقعد يعلّم وقعد يؤلف ويصنف وقعد ينصحه ويعظه وهكذا ويقول المتحدث عن نفسه: فقعدت أحثّه على طلب العلم، وفي العراق لهجات أبقت القاف من قعد وهي في العامية گاف فيقولون: گياكل وگيكتب وهكذا في سائر الأمثلة فالدال...

جذر عربي أصيل يتصل بقعد"، ويذهب الدكتور وسام بكري إلى أن (("دا" ذات أصل تركي، فيقول: "احترامي وتقديري لآراء الإخوة الأفاضل؛ وآراء الباحثين الذين تناولوا (دا) في مؤلفاتهم البحثية أو مقالاتهم الصحفية؛ واختلفوا في ما بينهم في الاستدلال، أرى بتواضع أنهم ابتعدوا عن الأصل الواضح؛ والمدعم بالدليل.فالأصل من اللغة التركية، daha التي تعني الاستمرارية والتي ما تزال تستعمل في اللغة التركية الحديثة. فيقال:"Daha yiyorum":

تعني "ما زلت آكل"، وتُستعمل للدلالة على أن عملية الأكل مستمرة...علما أن اللغة البغدادية حالها حال اللهجات العربية في البلدان العربية التي تستعمل: (عم آكل) في الشامية أو اللبنانية، و( باكل) في المصرية .. إلخ من اللهجات للتعبير عن الاستمرارية، وهذا الاستعمال اللهجي هو استعارة من لغة أخرى، (ولا ضير في ذلك أبدا) وتمثيل للاقتصاد اللغوي أو الصوتي باستعمال أصوات قليلة تناسب السرعة في استعمال اللهجة (أية لهجة كانت)؛ إذ وجد المتكلمون أنه على الرغم من أجنبية اللفظة؛ فإنها أسرع نطقا)). 

ومن لسانيي العراق من يعضد رأي الدكتور آل ياسين لكنه يحتمل في "دا" أنّها ذات أصل كردي، أو شيء من هذا، وهو الدكتور سعد سرحت فيقول في "دا" ((أن "أصلها (قاعد=گاعد)، نقول: گاعد أكتب. لكن كثر دوران گاعد على اللسان فاستغني بالدال (ده) عن باقي حروفها، فنقول: دَه أكتب، أو دا أكتب في لهجة ما تلفظ گاعد (جِعْد) وفي غيرها(گد)...سأضيف شيئا: هذه الدال حاضرة في اللغة الكردية))! 

في حين أرى أنا شخصيا أنّ "دا" لا تعدو كونها اسم الإشارة "ذا"، قُلِب فيها الذال دالا، وقد أصابها شيء من الاختزال، والأصل فيها تركيب: "ها أنا ذا، وها أنت ذا، وها نحن ذا...الخ، السابق لأفعال الاستمرار المضارعة، وما يرجح أن الأصل في "دا" هو "ذا" أن المصريين -مثلا- يقولون: دا يدرس، ودا يمشي...الخ، والأصل الفصيح مما تقدّم هو: هذا يدرس، وهذا يمشي...الخ، والملاحظة المهمة هنا تتركز في أن المراد بهذا التركيب المصري هو الاستمرار على نحو ما يفعله البغداديون، ومعتقدي أن لهجات الحواضر العربية شقائق أو أخوات... 

وبحسب ملاحظتي الخاصة لاستعمال كلٍ من " دا، وكاعد" بصفتي بغدادي المولد والنشأة فإن كلتيهما أي " دا، وكاعد" يشيعان في كثير من مناطق بغداد على نحو التبادل، والتبادل يقتضي التفاوت من جهة أو أكثر من جهة على أن "السكان الأصليين" من أهالي الكاظمية في كرخ بغداد، وكذا الأعظمية في رصافتها ينفردون باستعمال "دا" وحدها، أمّا بقيّة محلّات الكرخ القديمة القريبة من مركزه كالمنصورية، والدوريين، والفحامة، والفلاحات، والشيخ علي، والمشاهدة، والجعيفر والتكارتة، والرحمانية والعطيفية، وكذلك البعيدة من مركز الكرخ كالبياع وحي العامل والطوبجي، والإسكان، والوشاش، والحرية فيميلون إلى التناوب في استعمال " دا، وكاعد"، وذلك بحسب اختلاطي بقسم كبير من أهالي تلك المحلات سواء في مسقط رأسي (المنصورية)، أو مزاملتي إياهم في المدرسة الابتدائية، والمتوسطة، والإعدادية والجامعية، وكذا أثناء سنوات الخدمة العسكرية، وأظن أن الأمر نفسه ينطبق على الجغرافية الموازية للكرخ بحسب التصنيف الذي ذكرته آنفا. 

وبغية إثراء النقاش في هذه المسألة فقد كتبت قبل يومين عن هذا الموضوع في "الفيس بوك" داعيا أساتذة التخصص بالدرجة الأولى للإسهام في محاولة التأصيل لهذه اللازمة أو اللاحقة أي ما سميّته ( دا البغادّة) على الرغم من معرفتي أن هذه اللازمة تشيع أيضا وبدرجات متفاوتة في مدن عراقية قريبة وبعيدة عن بغداد كالحلة وكربلاء وبعقوبة والفلوجة والرمادي والموصل وغيرها، وعليه فقد وردتني مشاركات قيمة من بعض الأخوة الأعزاء منها ما يؤكد قولي أو يفنده، ومنها ما يعيد أو يؤكد كلام الدكتور آل ياسين بشكل أو بآخر، ومنها ما يتخذ مسارات مشتتة، كقول الدكتور عبد الزهرة زبون: " في ما يخص منشورك عن الـ( دا) البغدادية، هي ليست اسم الإشارة (ذا)، وإنما هي في الأصل (قد) التي تفيد التوقع وأحيانا التحقق إن دخلت على الفعل المضارع، وقد حذفت منه القاف، وهذا الأمر عينه في اللهجة الموصلية، إذ يقولون.. قيكتب.. إذ يحذفون الدال منه... وقد قرأت نصوصا ترجع إلى العصر العباسي الأول،، في النصوص الحوارية التي تجري بين الناس،، مثل هذا التركيب،، قد يكتب الآن،، يقال ذلك لمن يسأل عما يفعل شخص ما في هذه اللحظة،، أما للتوقع فيقولون،، قد يفعل،،، أما إذا جاءت مع الفعل الماضي فهي لتحقق وقوع الفعل، مثل،، قد قامت الصلاة...

في ما يخص (دا) فهي ليست تركية، بل سومرية،، ووصلت إلى العامية البغدادية، فهم يقولون،،، لك دادا بمعنى حبيبي، ومنها كلمة بغداد وهي سومرية مثلما بينها طه باقر وفيها معنى الحب والود وليس فارسية كما يدعي الفرس... فلعل دا من تلك السومرية ، ولكني أبقى على رأيي إذ إنني لم أنكر التركيب،، دا أكتب وغيره، فضلا عن معاشرتي لأهل الموصل مدة سبع سنوات، وكنت أركز جيدا في كلامهم وأرجع فيه إلى الكلام الفصيح، وإلى النصوص التي كانت تدون كلام العوام في العصر العباسي، فضلا عن كتب التصويب اللغوي القديمة،،، بالمناسبة وجدت كلمة( ولك) تلفظ (آلك) بالمعنى نفسه في مقامات الهمذاني، وكذلك لفظة (بابا) حين يخاطب شخص شخصا ليس ابنه، فيقول مثلا( بابا روح) وهكذا" ! 

على أن فرضية علاقة اللازمة أو اللاحقة "دا" باللغة السومرية طُرحت من لدن باحث لساني عراقي في مجلة محكمة هو الأستاذ المساعد في جامعة الموصل (عثمان غانم)، وقد تفضّل بإرسال نسخة منه لي، ولكني وجدتُ – وأرجو أن لا أكون واهما – أن حديث السيد الباحث في قسم منه أقرب إلى اللازمة "تا" منه إلى اللازمة "دا"، وفي هذا نأي عن جوهر ما نحن بصدد بيانه...

ومن الآراء التي تدخل في السياق المتقدم ما طرحه الدكتور مرتضى صباح إذ يقول: " هناك عدة احتمالات مطروحة في هذا الأمر منها انها اخذت من رواسب اللغة التركية لان مقطع (da) او (dah( بمعنى ايضاً ولكنه معنى بعيد وبعضهم يحتمل أن تكون من رواسب الفارسية ولاسيما مقطع (داشتن) وهو يدل على الاستمرارية،ولكنه بعيد أيضاً، وأحسب أنها من رواسب العربية من الفعل (غدا) وهو من أفعال الشروع بمعنى بدأ أو باشر..." !

اضف تعليق