إن بناء الوعي ليس بديلا عن القانون، بل هو شرط لفاعليته، فالمجتمع الواعي لا يحتاج إلى كثرة القوانين، بل إلى قلة الانتهاكات، وما إن يدرك الإنسان أن احترام النظام هو احترام لكرامته، حتى تصبح الطاعة للقانون طاعة للذات قبل أن تكون طاعة للسلطة...
في المجتمعات التي تتكئ على القانون وحده لضبط سلوك الأفراد، يبقى الخوف هو الرادع الأول لا الضمير.
فالقانون حين يُفهم باعتباره سيفا مسلطا على رؤوس الافراد، ينجح بصورة مؤقتة في تقويم الاعوجاج وإصلاح الخلل آنيا، لكنه يفشل في بناء وعي دائم يجعل الفرد يختار الصواب طوعا لا كرها، الامر الذي يجعلنا بحاجة الى الوعي أكثر من القانون.
فالوعي لا يأتي عن طريق تطبيق القانون بحذافيره، بل يأتي عن طريق التربية والتعليم المستمر، والقانون بلا تربية ينتج خوفا زائفا، أما التربية المصحوبة بالقانون فتنتج وعيا يُعفي المجتمع من كثير من أدوات الردع والعقاب.
وقد يأتي من يقلل من أهمية او قيمة التربية التي تقود الى الوعي، لكن في الحقيقة إن التربية هي الحاضنة او المعرف الأول للوعي بالقانون، فهي التي تُعلم الإنسان منذ طفولته أن احترام النظام ليس التزاما شكليا، بل قناعة داخلية تُعبر عن الإحساس بالمسؤولية تجاه الذات والآخرين.
وحين يُربى الطفل في المدارس او المنزل على احترام القانون ومعرفة معنى العدالة، ومفهوم المواطنة التي بموجبها ضرورة الحفاظ على المال العام والممتلكات العامة، واحترام رجل الامن وشرطي المرور، يصبح القانون امتدادا طبيعيا لأخلاقه لا قيدا على حريته.
بينما إذا غابت هذه التربية يعني خُلقت فجوة او فراغا خطيرا فيما يخص الوعي الفردي بأهمية القوانين العامة ومراعاة عدم تخطيها، وهنا يكون غياب هذه التربية عامل يجعل الفرد يتعامل مع القانون بانتقائية أو مصلحة، فيلتزم به حين يخاف العقوبة، ويتجاوزه حين يغيب الرقيب، وبذلك يتحول المجتمع إلى ساحة خوف متبادل، السلطة تخاف من الفوضى، والمواطن يخاف من العقاب، وكلاهما يفقد الثقة بالآخر.
فكيف يمكن ان ننمي هذه الظاهرة ونولد احترام القوانين في نفوس الافراد؟
تُظهر تجارب الدول المتقدمة أن الوعي بالقانون لا يُبنى في أروقة المحاكم، بل في المدارس والبيوت ووسائل الإعلام، فحين تُربى الأجيال على احترام النظام العام والملكية العامة والنزاهة بوصفها قيما إنسانية لا شعارات رسمية، تصبح القوانين مجرد أدوات تنظيم لا أدوات تهديد.
في اليابان على سبيل المثال، لا تعتمد الأجهزة الأمنية والرقابية على المراقبة الصارمة بقدر ما تعتمد على ثقافة الالتزام الذاتي، لأن التربية هناك سبقت القانون، فكونت مجتمعا يراقب نفسه بنفسه.
أما في العراق فكثيرا ما نحاول معالجة الخلل الاجتماعي بتشديد العقوبات، متناسين أن الردع الحقيقي يبدأ من الوعي لا من الخوف، والمواطن الذي لم يتربّ على احترام القانون لن يلتزم به مهما اشتدت العقوبات، بينما الذي تشبع بفكرة العدالة والاحترام المتبادل سيحافظ على النظام حتى في غياب الرقيب.
من هنا، لا بد من إعادة النظر في فلسفة التعليم والتنشئة، لتتحول من تلقين للمعلومات إلى صناعة للضمير الجمعي، وعليه من الافضل أن تُدرس مبادئ القانون في المدارس بوصفها قيما إنسانية، لا مواد نظرية جامدة، وأن تُفتح مساحات في الإعلام والمجتمع المدني لتعزيز ثقافة الوعي بالحقوق والواجبات.
إن بناء الوعي ليس بديلا عن القانون، بل هو شرط لفاعليته، فالمجتمع الواعي لا يحتاج إلى كثرة القوانين، بل إلى قلة الانتهاكات، وما إن يدرك الإنسان أن احترام النظام هو احترام لكرامته، حتى تصبح الطاعة للقانون طاعة للذات قبل أن تكون طاعة للسلطة.
حينذاك فقط، يتحول القانون من أداة ردع إلى تعبير عن وعي جمعي ناضج، وحين تكتمل التربية بالوعي، يصبح المجتمع قادرا على حماية نفسه بنفسه، بلا خوف ولا قسر.



اضف تعليق