تجاوز الجهل يرتبط بمسار أخلاقي واعٍ، قوامه المجاهدة والصبر وحسن التوكل. وبذلك يصبح العلم طريقًا للتحرّر من الجهل على مستوى الفرد والمجتمع بأسره، ليكون أساسًا للوحدة، والرشد، والاستقامة، بدل النزاع والاضطراب. مواجهة الجهل ضرورة حضاريَّة ودينيَّة، وأنَّ بناء الإنسان العالِم الواعي هو الخطوة الأولى في بناء مجتمع متماسك...
الجهلُ آفةٌ في مسيرة الإنسان عبر التَّاريخ، لا تقلُّ خطرًا عن أعنف الأوبئة؛ إذ يتسلَّل إلى العقول فيعطِّل بصيرتها، ويغزو السلوك فيشوّهه، ثمَّ لا يلبث أن يمتدَّ أثره ليمزِّق نسيج العلاقات الفرديَّة والاجتماعيَّة، ويقوّض أسس الوعي والإنسانيَّة.. فالجهل حين يستقرُّ في النَّفس يتحوَّل إلى منظومة من الأحكام المتسرِّعة، والمواقف الانفعاليَّة، واليقينيات الزَّائفة التي تُغلق أبواب الحوار، وتفتح مسارات النزاع والصِّدام.
وقد أولى القرآن الكريم والرَّسول الأعظم محمَّد (صلَّى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) اهتمامًا بالغًا بتشخيص هذه الآفة، وكشف جذورها، وبيان آثارها، ثمَّ رسم الطَّريق العمليَّ لعلاجها؛ إدراكًا منهم أنَّ الجهل قوَّة فاعلة إذا لم تُواجَه بالعلم والبصيرة تحوَّلت إلى أصلٍ لكثير من الشُّرور والانحرافات.
المحور الأوَّل: تعريف الجهل لغةً واصطلاحًا.
الجهل لغةً: "نَقِيضُ العِلْم، وَقَدْ جَهِلَه فُلَانٌ جَهْلًا وجَهَالَة، وجَهِلَ عَلَيْهِ" (1).
وأمَّا الجهل اصطلاحًا، فهو: "عدم العلم ممَّن له الاستعداد للعلم والتَّمكُّن منه، فالجمادات والعجماوات لا نسميها جاهلة ولا عالمة، مثل العمى، فإنَّه عدم البصر فيمن شأنه أن يبصر، فلا يسمى الحجر أعمى... والجهل على قسمينِ كما أنَّ العلم على قسمينِ؛ لأنَّه يقابل العلم فيبادله في موارده فتارةً يبادل التَّصور؛ أي: يكون في مورده، وأخرى يبادل التَّصديق؛ أي: يكون في مورده، فيصح بالمناسبة أن نسمِّي الأوَّل (الجهل التصوري)، والثَّاني (الجهل التَّصديقي).
ثمَّ أنَّهم يقولون: إنَّ الجهل ينقسم إلى قسمين: بسيط ومركب. وفي الحقيقة أنَّ الجهل التَّصديقي خاصَّة هو الذي ينقسم إليهما، ولهذا اقتضى أن نقسِّم الجهل إلى تصوري وتصديقي، ونسميهما بهذه التَّسمية. أمَّا الجهل التصوري فلا يكون إلَّا بسيطًا... ولنبيِّن القسمينِ فنقول :
١ ـ (الجهل البسيط) أن يجهل الإنسان شيئًا وهو ملتفت إلى جهله، فيعلم أنَّه لا يعلم، كجهلنا بوجود السكان في المريخ، فإنَّا نجهل ذلك، ونعلم بجهلنا فليس لنا إلَّا جهل واحد.
٢ ـ (الجهل المركب) أن يجهل شيئًا وهو غير ملتفت إلى أنَّه جاهل به؛ بل يعتقد أنَّه من أهل العلم به، فلا يعلم أنَّه لا يعلم، كأهل الاعتقادات الفاسدة الذين يحسبون أنَّهم عالمون بالحقائق، وهم جاهلون بها في الواقع.
ويسمون هذا مركبًا؛ لأنَّه يتركب من جهلين: الجهل بالواقع والجهل بهذا الجهل. وهو أقبح وأهجن القسمين. ويختص هذا في مورد التَّصديق؛ لأنَّه لا يكون إلَّا مع الاعتقاد" (2).
وإذا تأمَّلنا التَّعريف اللغوي يضعنا أمام المعنى الأوَّلي للجهل باعتباره نقيض العلم، وهو تقابل بسيط في ظاهره؛ لكنَّه يمهِّد لفهم أعمق حين يُستكمل بالتَّعريف الاصطلاحي الذي ينقله من مجرَّد غياب للمعلومة إلى فقدان العلم ممَّن شأنه وقدرته أن يعلم. وبهذا التَّحديد يخرج الجهل من أن يكون صفة لكلِّ موجود، ليصبح صفة إنسانيَّة أخلاقيَّة ومعرفيَّة في آنٍ واحد، ترتبط بالاختيار والقدرة والاستعداد.
والتمييز بين الجهل التصوري والجهل التصديقي يضيف بعدًا مهمًا؛ لأنَّه يكشف أنَّ الجهل ليس درجة واحدة، ولا يظهر دائمًا بالشكل نفسه. فجهل التصور هو فراغ معرفي صريح، يشعر به الإنسان ويعترف به، بينما جهل التصديق يتسلل إلى منطقة الاعتقاد، حيث يظنُّ الإنسان أنَّه يعلم، وهو في الحقيقة أسير وهم المعرفة. وهنا تظهر خطورة الجهل المركب؛ لأنَّه جهل متلبِّس بلباس العلم، مغلق على صاحبه باب السؤال والمراجعة، فيتحوَّل إلى مصدر عناد ونزاع بدل أن يكون دافعًا للتعلُّم.
ومن خلال هذا التَّفصيل يتَّضح أنَّ الجهل البسيط، على الرَّغم من نقصه، يحمل في داخله بذرة الخلاص؛ لأنَّه مقرون بالوعي والاعتراف، أمَّا الجهل المركب فهو أصل كثير من الانحرافات الفكريَّة والخلافات الاجتماعيَّة؛ لأنَّه يولّد يقينًا زائفًا يدفع صاحبه إلى الدِّفاع عن الخطأ بوصفه حقًّا، وعن الوهم بوصفه حقيقة.
والاستنتاج الذي يمكن الخروج به أنَّ الجهل في جوهره هو نتيجة طبيعيَّة لترك التعلُّم، والإعراض عن البحث، والتَّقاعس عن الفهم الواعي القائم على السُّؤال والإنصات والمشاهدة والتجربة. وحين يتحوَّل هذا الترك إلى قناعة، ويغلق الإنسان على نفسه أبواب المراجعة، يصبح الجهل عاملًا فاعلًا في النِّزاعات والخلافات؛ فصاحب الجهل المركب لا يختلف مع غيره فحسب، ويصطدم به؛ إذ يظن أنَّ ما يحمله علم، وما عند غيره ضلال. ومن هنا تبدأ أغلب الأزمات: من وهم المعرفة، لا من فقدانها.
المحور الثَّاني: مفاسد الجهل.
الجهل من أخطر العوامل الكامنة وراء نشوب الاختلافات والنزاعات الفرديَّة والاجتماعيَّة؛ فالإنسان الجاهل يفتقد الرؤية المعرفيَّة التي تنظِّم سلوكه وتضبط مواقفه، فيتحرَّك بدافع الانفعال لا الوعي، وبردود فعل آنية لا بحسابات عقليَّة متزنة. وهذا التحرك العشوائي يجعل علاقته بالآخرين علاقة اصطدام لا تفاعل، ومواجهة لا حوار؛ لأنَّ الجهل لا ينتج فهمًا متبادلًا؛ بل يولِّد سوء ظن، وتفسيرًا خاطئًا للمواقف، وإسقاطًا ذاتيًّا للنوايا، وكلها عناصر خصبة لتفاقم الخلاف وتحوله إلى نزاع مفتوح.
ومن أخطر مظاهر الجهل أنَّه يدفع الإنسان إلى معاداة ما يجهله، كما أشار إلى ذلك أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: "مَنْ جَهِلَ عِلْماً عَادَاهُ" (3)، فالرواية تعطي قاعدة نفسيَّة واجتماعيَّة عميقة الدلالة؛ إذ تكشف أنَّ الجهل يتحوَّل إلى موقف عدائي من كلِّ فكرة أو رأي أو شخص لا ينسجم مع أفق الجاهل المحدود. ومن هنا تنشأ كثير من الصراعات الفكريَّة والمذهبيَّة والاجتماعيَّة، لا لأنَّ الحقائق متناقضة في ذاتها؛ بل لأنَّ العقول التي تتعامل معها عاجزة عن استيعابها أو فهم اختلافها.
ويعمِّق الإمام الصَّادق (عليه السلام) هذا التشخيص حين يبيِّن السمات السلوكيَّة الملازمة للجاهل، فيقول: "مِن أخلاقِ الجاهِلِ: الإجابَةُ قَبلَ أنْ يَسمَعَ، والمُعارَضَةُ قَبلَ أنْ يَفْهَمَ، والحُكْمُ بما لا يَعْلَمُ" (4). فهذه الصفات تمثِّل نموذجًا عمليًّا لكيفيَّة تحوّل الجهل إلى مولِّد دائم للنزاع؛ إذ إنَّ الإجابة قبل السماع تُلغِي الحوار من أساسه، والمعارضة قبل الفهم تكرّس الخصومة بدل البحث المشترك عن الحقيقة، والحكم بما لا يُعلَم يفتح باب الظلم وسوء التقدير والاتهام الباطل. وعندما تتراكم هذه السلوكيات في الفرد أو المجتمع، يصبح الخلاف حالة مزمنة، ويتحوَّل النزاع إلى نمط تعامل يومي، تغذِّيه الجهالة أكثر ممَّا تغذِّيه المصالح أو الاختلافات الواقعيَّة.
ولأجل إيضاح الآثار العميقة للجهل، وتمكين الفرد والمجتمع من تجنُّبه والوقاية من نتائجه المدمِّرة، لا بدَّ من الوقوف عند أبرز أضراره وآثاره السلبيَّة:
أوَّلًا: أصل المفاسد والشرور.
يأتي في مقدَّمة هذه الأضرار أنَّ الجهل يُعَدُّ الأصل الذي تتفرَّع منه المفاسد والشرور بمختلف صورها، سواء على مستوى السلوك الفرديّ أم على مستوى العلاقات الاجتماعيَّة والسياسيَّة والفكريَّة.
فالجهل يقوم بتعطيل القدرة على التَّمييز بين الحقِّ والباطل، ويتجاوز ذلك ليصبح منبعًا لانحراف الإرادة، وسوء الاختيار، وتبرير الخطأ، وتغليف الباطل بثوب الحقِّ. ومن هنا تتكاثر الشرور؛ فالإنسان الجاهل قد يرتكب الفساد وهو يظن نفسه مصلحًا، ويظلم غيره وهو يعتقد أنَّه على صواب، ويؤجّج الفتن وهو يتوهَّم الدفاع عن القيم والمبادئ.
وقد عبَّر أمير المؤمنين (عليه السلام) عن هذه الحقيقة تعبيرًا بالغ العمق حين قال: "الْجَهْلُ أَصْلُ كُلِّ شَرٍّ" (5).
وهي عبارة تختصر رؤية شاملة لطبيعة العلاقة بين المعرفة والسلوك؛ وتجعل الجهل بمنزلة الجذر الذي تنبت منه مختلف الانحرافات الأخلاقيَّة والاجتماعيَّة. فكل شرٍّ لا بدَّ أن يسبقه قصور في الفهم، أو خلل في الإدراك، أو غياب للوعي بحقيقة الموقف ونتائجه. وإذا ما استُؤصل هذا الأصل عبر العلم والبصيرة، ضعفت سائر الشرور أو زالت من تلقاء نفسها.
ثانيًا: نشوب الاختلافات.
كثيرٌ من حالات التَّنازع لا تنشأ عن تعارض حقيقي في المصالح أو القيم، بقدر ما تنبع من سوء الفهم، وضيق الأفق المعرفي، والعجز عن إدراك وجهات النظر المختلفة. فالجاهل، حين يفتقر إلى أدوات التَّحليل والفهم، يميل إلى تحويل أي اختلاف في الرَّأي إلى خصومة، وأي تنوّع في المواقف إلى تهديد، فيتسع بذلك نطاق الخلاف بدل أن يُدار ضمن إطار الحوار والتفاهم.
وقد لخَّص أمير المؤمنين (عليه السلام) هذه الحقيقة الاجتماعيَّة في قوله: "لَو سَكَتَ الجَاهِلُ مَا اختَلَفَ النَّاسُ" (6). وهي كلمة تكشف عن الدور الحاسم للكلام غير المنضبط في إشعال النزاعات؛ فالجاهل غالبًا ما يتكلَّم قبل أن يفهم، ويجادل قبل أن يتبيَّن، فيطرح أحكامًا متسرّعة، وتأويلات خاطئة، تكون بذورًا لاختلافات حادَّة وصراعات متراكمة.
ثالثًا: فساد دين الإنسان.
الجهل سبب جوهريٌّ في فساد دين الإنسان وانحراف مساره الإيماني؛ إذ إنَّ الدِّين في جوهره يقوم على المعرفة والبصيرة قبل الممارسة والسلوك، ولا يمكن للعبادة أو الالتزام الشرعيّ أن يؤدِّي دوره الإصلاحي ما لم يُبنَ على فهم صحيح ووعي سليم. والجهل يفرغ التدين من مضمونه، ويحوّله إلى طقوس شكليَّة أو ممارسات مشوَّهة، قد تبتعد بصاحبها عن مقاصد الشَّريعة وروح الإيمان، بدل أن تقرِّبه منهما.
وقد أكَّد أمير المؤمنين (عليه السلام) هذه الحقيقة في أكثر من موضع، فقال: "الْجَهْلُ يُفْسِدُ الْمَعَادَ" (7)، في إشارة واضحة إلى أنَّ آثار الجهل تمتد لتنعكس على مصير الإنسان الأخروي، من خلال ضياع البوصلة التي تهديه إلى العمل الصَّالح والنيَّة الصحيحة. كما قال (عليه السلام): "الْجَهْلُ فَسَادُ كُلِّ أَمْرٍ" (8).
وهي عبارة جامعة تُظهر أنَّ الجهل إذا تسرّب إلى أي مجال من مجالات حياة الإنسان ـ ولا سيّما المجال الديني ـ أفسده من أساسه.
ولعِظَم خطر الجهل وآثاره المدمّرة على الدِّين والسلوك، جاء التوجيه الإلهي صريحًا في الدَّعوة إلى الإعراض عن الجاهلين باعتباره موقفًا تربويًّا يهدف إلى كسر دائرة الاستفزاز والجدل العقيم، والحفاظ على سلامة الإيمان والوعي. قال الله (تبارك وتعالى): (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (9). حيث تربط الآية بين العفو، والأمر بالمعروف، والإعراض عن الجاهلين، في نسق متكامل يبيِّن أنَّ الجهل إذا لم يُواجَه بالعلم، فإنَّ أقلَّ درجات التَّعامل معه هو عدم الانجرار وراء منطلقاته وسلوكياته المفسِدة.
المحور الثَّالث: علاج الجهل.
إنَّ علاج الجهل لا يتحقَّق إلَّا عبر اكتساب العلم بوصفه الطَّريق الوحيد لإحياء العقل، وتقويم السلوك، وبناء الإنسان القادر على الفهم والتَّمييز. فالعلم هو حالة وعي تُعيد للإنسان توازنه الدَّاخلي، وتمنحه القدرة على إدراك الحقائق والتَّعامل المتوازن مع ذاته ومع الآخرين. ومن هنا ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله: "الْعِلْمُ حَيَاةٌ وَشِفَاءٌ" (10)، في دلالة واضحة على أنَّ الجهل مرض يفتك بالعقل والرُّوح، وأنَّ العلم هو الدَّواء الذي يعيد للإنسان حيويته الفكريَّة وسلامته السلوكيَّة.
غير أنَّ تحصيل العلم النَّافع يتوقَّف على جملة من الأسس المنهجيَّة التي تضمن سلامة المسار وصحة النتائج. وسنجعلها في مطلبينِ:
المطلب الأوَّل: الضَّوابط المنهجيَّة
1. إدراك أولويّات العلوم.
على الرَّغم أنَّ جميع العلوم النَّافعة لها قيمتها في بناء شخصيَّة الإنسان وخدمة المجتمع، إلَّا أنَّ هناك علومًا تمثِّل القاعدة الأساس في صلاح الدِّين والدُّنيا معًا. ويأتي في مقدِّمة هذه العلوم العلم العقائدي الذي يؤسّس الإيمان على يقين وبصيرة، والعلم الأخلاقي الذي يهذِّب السُّلوك ويضبط الدَّوافع، والعلم الفقهي الذي ينظِّم علاقة الإنسان بتكاليفه الشرعيَّة. وقد لخَّص النَّبيُّ الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) هذا التَّصنيف بقوله: "إِنَّمَا الْعِلْمُ ثَلَاثَةٌ: آيَةٌ مُحْكَمَةٌ، أَوْ فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ، أَوْ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ، وَمَا خَلَاهُنَّ فَهُوَ فَضْلٌ" (11). ويضع هذا الحديث معيارًا واضحًا للتَّمييز بين العلم الذي تتوقَّف عليه النَّجاة، والعلم الذي يُعدُّ كمالًا زائدًا وإن كان نافعًا في حدِّ ذاته.
2. اختيار المنابع الآمنةِ للمعرفة.
من الشروط الجوهريَّة في علاج الجهل وحماية الإنسان من الانحراف المعرفي أن يُحسن اختيار مصادر العلم التي يتلقَّى منها معارفه؛ إذ ليس كلُّ من تكلَّم في المعرفة أو ادَّعى العلم أهلًا لأن يُؤخذ عنه. وقد أكَّدت النُّصوص الشَّريفة على ضرورة الرُّجوع إلى المصادر الأصيلة التي تضمن سلامة الفهم وصحَّة المنهج، وفي مقدِّمتها القرآن الكريم والعترة الطاهرة (عليهم السلام) معًا، لا أحدهما بمعزل عن الآخر. فقد "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ فِي آخِرِ خُطْبَتِهِ يَوْمَ قَبَضَهُ اللَّهُ (عَزَّ وَجَلَّ) إِلَيْهِ: إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ اللَّهِ، وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي؛ فَإِنَّ اللَّطِيفَ الْخَبِيرَ قَدْ عَهِدَ إِلَيَّ أَنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ" (12). في تأكيد على أنَّ الهداية الكاملة لا تتحقَّق إلَّا بالتمسُّك المتلازم بالكتاب والعترة، بوصفهما المرجع الأوثق في فهم الدِّين وحمايته من التَّحريف وسوء التَّأويل.
ويعزِّز الإمام الباقر (عليه السلام) هذا المعنى حين قال لسلمة بن كهيل، والحكم بن عتبة: "شَرِّقا وغَرِّبا لَن تَجِدا عِلماً صَحيحاً إلّاشَيئاً يَخرُجُ مِن عِندِنا أهلَ البَيتِ" (13). وهي إشارة صريحة إلى أنَّ المعرفة الدِّينيَّة الصحيحة لا تُنال بالآراء المتفرّقة ولا بالاجتهادات المنفصلة عن منبعها الأصيل؛ بل تُستمدّ من المدرسة التي ورثت علم النبوَّة وحملت مسؤولية بيانه للأمَّة.
3. تطبيق آداب العشرة.
معرفة آداب التَّعامل مع العلماء وأصحاب العلم تمثِّل ركيزة محوريَّة في عمليَّة اكتساب المعرفة الصحيحة، وضمان الاستفادة القصوى منها من دون أن تتحوَّل إلى أداة للهوى أو التَّفاخر. فالعلم وحده لا يكفي إذا لم يقترن بالاحترام والوقار اتِّجاه من يملكه، وبالمراعاة الدقيقة للسلوكيات التي تحفظ حرمة المجلس وكرامة العالم، وتحمي المتعلِّم من الانحراف الفكريّ أو الأخلاقيّ.
وقد بيَّن الإمام عليُّ بن الحسين (عليهما السلام) هذه الآداب التَّفصيليَّة في وصيَّة موجزة؛ لكنَّها غنيَّة بالدلالات العمليَّة، فقال: "وَحَقُّ سَائِسِكَ بِالْعِلْمِ التَّعْظِيمُ لَهُ، وَالتَّوْقِيرُ لِمَجْلِسِهِ، وَحُسْنُ الِاسْتِمَاعِ إِلَيْهِ، وَالْإِقْبَالُ عَلَيْهِ، وَأَنْ لَا تَرْفَعَ عَلَيْهِ صَوْتَكَ، وَأَنْ لَا تُجِيبَ أَحَداً يَسْأَلُهُ عَنْ شَيْءٍ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يُجِيبُ، وَلَا تُحَدِّثَ فِي مَجْلِسِهِ أَحَداً، وَلَا تَغْتَابَ عِنْدَهُ أَحَداً، وَأَنْ تَدْفَعَ عَنْهُ إِذَا ذُكِرَ عِنْدَكَ بِسُوءٍ، وَأَنْ تَسْتُرَ عُيُوبَهُ، وَتُظْهِرَ مَنَاقِبَهُ، وَلَا تُجَالِسَ لَهُ عَدُوّاً، وَلَا تُعَادِيَ لَهُ وَلِيّاً؛ فَإِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ شَهِدَ لَكَ مَلَائِكَةُ اللَّهِ بِأَنَّكَ قَصَدْتَهُ، وَتَعَلَّمْتَ عِلْمَهُ لِلَّهِ جَلَّ اسْمُهُ لَا لِلنَّاسِ" (14).
وهذه الوصيَّة تتضمن مجموعة من المبادئ الجوهريَّة التي تنظِّم علاقة الطَّالب بالمعلِّم، بدءًا بالتعظيم والتقدير، مرورًا بالإنصات والإقبال، ووصولًا إلى ضبط السلوك في المجلس، سواء بعدم مقاطعة المعلم أو الرد على الآخرين قبل سماع رأيه، أو حفظ سرِّه ورفع شأنه، والابتعاد عن مجالسة أعدائه أو معاداة أوليائه. وكل هذه الآداب تهدف إلى تحويل التعلم من عمليَّة عابرة إلى تجربة أخلاقيَّة متكاملة، يزداد فيها المتعلِّم تقوى ووعيًا، ويبتعد عن الغرور أو النِّزاع العقيم.
ويكمل هذا المعنى قول لقمان الحكيم (عليه السلام) لابنه: "يا بُنَيَّ لا تُجادِلِ الْعُلَماءَ فَيَمْقُتُوكَ" (15). في إشارة واضحة إلى أنَّ المجادلة المبنيَّة على التَّكبر أو الهوى لا تحقق أي نفع علمي، وتُبعد المتعلِّم عن مقاصد العلم الحقيقيَّة. فاحترام العالم والتزام آداب المجلس شرط جوهريّ لصحَّة التعلُّم، وحماية للمعرفة من التشويه، وضمانًا لأن يتحوَّل العلم إلى نور هادٍ يقود المتعلِّم إلى الفهم الصحيح والتَّعامل الطيِّب، لا إلى النزاع والخصومة.
4. اجتناب قراءة كتب الضَّلالة إلَّا لضرورة.
ترك قراءة الكتب المضلَّة شرط محوري لصيانة العقل من الانحراف، والحفاظ على سلامة الفهم. فالمطالعة وسيلة أساسيَّة لاكتساب العلم؛ لكنَّها تصبح أداة للضلال حين يتعرَّض الإنسان لمصادر معرفيَّة مشوَّهة أو مضللة، تهدف إلى نشر الباطل، أو تشويه المفاهيم، أو تحريف الدِّين والأخلاق. فالكتب المضلِّة تغذي الجهل وتكرِّس الانحراف الفكري، وتجعل القارئ عرضة للتأثر بالأفكار الخاطئة، بدل أن تكون سببًا في نضج العقل واستقامة السلوك.
ولذلك، من أولويات طالب العلم أن يختار مصادره بعناية، وأن يتحرَّى عن صحة ما يقرأ، مسترشدًا بالقرآن الكريم وأهل البيت (عليهم السلام)، اللذينِ يمثِّلان المرجعيَّة الأكيدة في ترسيخ العلم الصحيح والهداية. فالقراءة الواعية تتطلَّب التثبت، والتحقق، والتمييز بين ما ينفع وما يضر، بحيث يصبح العلم سلاحًا للارتقاء الفكري، لا أداة للانحراف أو النزاع العقيم.
ويمكن القول: إنَّ الانحراف عن هذا المبدأ يضع المتعلِّم في مواجهة مع معارف متناقضة، أو يغرِّره بالقضايا الباطلة، ما يؤدِّي إلى ارتكاب الأخطاء في الفكر والسلوك، وقد يكون سببًا مباشرًا في النزاعات والخلافات، سواء على المستوى الشَّخصي أو المجتمعي. لذا، فإنَّ ترك قراءة الكتب المضلَّة هو من صميم منهج حماية العقل، وصيانة العلم، وتحقيق التفقه النَّافع، بما يضمن للفرد فهمًا صائبًا وسلوكًا مستقيمًا.
المطلب الثَّاني: الضَّوابط التربويَّة.
1. الإخلاص في طلب العلم.
من أهمِّ شروط الاستفادة الحقيقيَّة من المعرفة، وامتلاك العلم بما يحقق النَّفع للفرد والمجتمع، ويضمن قبول العمل قربه من الله (تعالى). فالعلم، إذا ارتبط بالرِّياء أو التَّفاخر أمام النَّاس، أو استخدم لإظهار التفوّق على الآخرين، يتحوَّل من أداة هداية إلى سبب في الغواية والضَّلال، ويصبح سببًا في إضاعة الثَّواب وتحويل الجهد المبارك إلى سبب للعقاب الأخروي.
وقد حذَّر الرسول الأعظم محمُّد (صلَّى الله عليه وآله) من هذا الانحراف فقال: "إنَّ مَن تَعَلَّمَ العِلمَ لِيُمارِيَ بِهِ السُّفَهاءَ، أو يُباهِيَ بِهِ العُلَماءَ، أو يَصرِفَ وُجوهَ النّاسِ إلَيهِ لِيُعَظِّموهُ، فَليَتَبوَّأ مَقعَدَهُ مِنَ النَّارِ" (16).
وتوضِّح هذه الرِّواية أنَّ أي طلب للعلم إذا لم يكن خالصًا لله (تعالى)، ولم يقصد به خدمة الدِّين أو نصرة الحقِّ، فإنَّه لا يعدو كونه عبثًا لا طائل منه، وقد يكون سببًا في السقوط الأخلاقي للطالب، مهما بلغ من العلم أو المكانة العلميَّة.
ولذلك، فإنَّ الإخلاص في طلب العلم يشمل ثلاثة أبعاد: أوَّلها النيَّة الصادقة التي تجعل من العلم وسيلة للارتقاء الفكري لا وسيلة للظهور الاجتماعي أو المنافَسة الفارغة. ثانيهما، الممارسة العمليَّة للعلم بما يحقق مصلحة الفرد والمجتمع، فلا يقتصر على الحفظ أو التفاخر به، وثالثهما، الحذر من كلِّ ما يلهي عن الهدف الأساسي وهو رضا الله (تعالى) ونفع الآخرين. وعندما يجمع الطَّالب بين هذه الأبعاد، يتحوَّل العلم إلى حياة حقيقيَّة وشفاء للقلب، ويصبح وقاية من الجهل ووسيلة للارتقاء الدَّائم في الدُّنيا والآخرة.
2. العمل بالعلم.
العمل بالعلم هو العمود الفقري الذي يحقق جدوى المعرفة ويحوّلها من مجرَّد معلومات جامدة إلى قوَّة فاعلة في حياة الإنسان والمجتمع. فالعلم بلا عمل يشبه الدَّواء الذي لا يُؤخذ، أو النُّور الذي لا يُضيء، فهو لا يُحدث تغييرًا إيجابيًا في السلوك أو المعاملات. وقد عبَّر أمير المؤمنين (عليه السلام) عن هذا المعنى بقوله: "الْعِلْمُ مَقْرُونٌ بِالْعَمَلِ فَمَنْ عَلِمَ عَمِلَ، والْعِلْمُ يَهْتِفُ بِالْعَمَلِ، فَإِنْ أَجَابَه وإِلَّا ارْتَحَلَ عَنْه" (17).
في إشارة إلى أنَّ العلم يدعو صاحبه إلى التَّطبيق والتجربة العمليَّة، وأنَّ عدم الاستجابة لهذا النداء يحرم المتعلِّم من ثمرة معرفته.
ويعزّز الشاعر هذا المعنى في أبياته حين يوجّه رسالة تربوية دقيقة، مفادها أنَّ التعليم الحقيقي يبدأ من الذَّات قبل الآخرين:
يا أيُّها الرَّجل المعلِّم غيره --- ألا لنفسكَ كانَ ذا التَّعليمُ
تصفُ الدَّواءَ لذي السِّقام وذي الظَّنى كيمَا يصحُّ بهِ وأنتَ سقيمُ
وأراكَ تلقح بالرَّشاد قلوبَنا --- وصفًا وأنتَ من الرَّشادِ عديمُ
فابدأ بنفسِكَ فانهها عن غيِّها --- فإنْ انتهت عنهُ فأنت حكيمُ
فهناكَ ينفع ما تقولُ وتهتدي --- بالقولِ منكَ، وينفعُ التَّعليمُ
لا تنهَ عن خلقٍ، وتأتي بمثلِهِ --- عارٌ عليكَ إذَا فعلتَ عظيمُ (18).
3. كثرة السُّؤال.
كثرة السؤال عن المواضيع المبتلى بها من وسائل تحصيل العلم، وفهم الواقع، والتعرُّف على الطرق الصحيحة لمعالجة المشكلات الفرديَّة والاجتماعيَّة. فالسؤال هو مفتاح المعرفة، ووسيلة لاستكشاف ما يغيب عن الإنسان من حقائق، ولا يُمكن الاكتفاء بالحدس أو الظن في مسائل دقيقة ومعقّدة. وقد أكَّد القرآن الكريم على أهميَّة هذا الطَّريق، فقال الله (تعالى): (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (19). موضِّحًا أنَّ الرُّجوع إلى أهل العلم والخبرة لا غنى عنه لمن أراد الفهم الصَّحيح، وأنَّ السَّعي وراء المعرفة حقٌّ مشروع ووسيلة للتثبُّت واليقين. كما بيَّن الإمام زين العابدين (عليه السلام) قيمة السؤال في اكتساب العلم، فقال: "العِلمُ خَزائنُ ومَفاتِيحُهُ السُّؤالُ، فَاسألُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ فإنّهُ يُؤجَرُ أربَعةٌ: السائلُ، والمُتَكلِّمُ، والمُستَمِعُ، والمُحِبُّ لَهُم" (20).
وهذه الرِّواية تشير إلى أنَّ السؤال لا يقتصر أثره على السَّائل فقط؛ بل يشمل كلَّ من يشارك في العمليَّة التعليميَّة، سواء بالردِّ أو بالاستماع أو بالدعاء والمحبَّة، ما يجعله عبادةً وفعلًا محمودًا، يضاعف أثره ويعمُّ نفعه على الجميع.
غير أنَّ قيمة السؤال تتحقَّق فقط إذا كان مقصده التفقه والتعلُّم، لا الاستظهار أمام الآخرين أو تعنت النَّفس وإظهار التَّحدي، فقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام): "لِسَائِلٍ سَأَلَه عَنْ مُعْضِلَةٍ: سَلْ تَفَقُّهاً ولَا تَسْأَلْ تَعَنُّتاً، فَإِنَّ الْجَاهِلَ الْمُتَعَلِّمَ شَبِيه بِالْعَالِمِ، وإِنَّ الْعَالِمَ الْمُتَعَسِّفَ شَبِيه بِالْجَاهِلِ الْمُتَعَنِّتِ" (21). فالسؤال الهادف يُنمِّي الفهم، ويقرب الإنسان من الحكمة، بينما السؤال العقيم أو التعسفي يهدر الوقت والجهد، وقد يوقع السائل في التشتُّت أو التَّقليد الأعمى.
ومن المؤسف أنَّ بعض النَّاس يبدِّدون أوقاتهم في أسئلة لا فائدة فيها، لا طلبًا للعلم ولا هداية للنفس، وإنَّما عبثًا بالوقت والطَّاقات، ما يوضح أنَّ فعَّاليَّة السؤال لا تتحقَّق إلَّا بالنيَّة الصَّادقة، والهدف السَّليم، والاهتمام بالمعلومة التي تقود إلى التفقه والعمل الصَّالح، فتكون عمليَّة السُّؤال جزءًا من مسار تكاملي للعلم والوعي والسُّلوك، لا مجرَّد ممارسة شكليَّة أو عادة فارغة.
4. تقوى الله (تبارك وتعالى).
الالتزام بتقوى الله (سبحانه) يشكِّل الأساس المتين للحكمة والمعرفة، فهو الغلاف الذي يضمن استقامة العقل، وصفاء القلب، وقدرة الإنسان على إدراك الحقائق. فالعلم بلا تقوى قد يتحوَّل إلى وسيلة للرياء، أو التفاخر، أو استغلال الآخرين، بينما التقوى تمنح المتعلِّم القدرة على استقبال العلم بفهم ونيَّة خالصة، وتفتح أمامه أبواب الحكمة التي تصل به إلى الإعمال الصَّالحة والتصرف الصَّائب.
وقد أبرز لقمان الحكيم (عليه السلام) العلاقة بين التقوى والعلم حين سئل: من أين لك هذا العلم؟ فقال:
"صِدقُ الحديثِ، وأداءُ الأمانَةِ، وتَركُ ما لا يَعْنيني، وغَضُّ بَصَري، وكَفُّ لِساني، وعِفّةُ طُعْمَتي، فمَن نَقَصَ عن هذا فهُو دُوني، ومَن زادَ علَيهِ فهُو فَوقي، ومَن عَمِلَهُ فهُو مِثْلي" (22). وهذه المعايير تظهر أنَّ العلم الحقيقي لا يقتصر على التحصيل النظري، ويرتبط ارتباطًا وثيقًا بسلوك المتعلِّم وأخلاقه، وأنَّ التفقه يثمر من خلال الصدق، والوفاء بالحقوق، وضبط النفس، والابتعاد عن المحظورات، ومراعاة حدود الله (تعالى) في كلِّ فعل وفكر.
ويؤكِّد أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبة المتقين على دور ضبط الحواس في تحصيل العلم النَّافع، فقال: "غَضُّوا أَبْصَارَهُمْ عَمَّا حَرَّمَ اللَّه عَلَيْهِمْ، ووَقَفُوا أَسْمَاعَهُمْ عَلَى الْعِلْمِ النَّافِعِ لَهُمْ" (23). فغض البصر، وحفظ السمع من التعلق بما لا ينفع، يُعتبر من أصول التهيئة لاستقبال العلم وتحقيق الاستفادة منه؛ إذ يطهر القلب ويهيّئ الذهن ويقوّي الانتباه.
ويشدّد الشاعر على هذا المعنى في قوله:
شَكوتُ إلى وكيع سوءَ حفظِي فأرشدَني إلى تركِ المعاصِي
وعلَّله بأنَّ العلمَ فضل وفضلُ اللّهِ لا يؤتيهِ عاصِي (24).
5. التفكر في آثار الجهل، ومآثر العلم.
التفكر في مساوئ الجهل وآثاره، والتَّأمل في مآثر العلم من الوسائل لتثبيت قيمة المعرفة، وتوجيه الإنسان نحو السلوك السليم والحياة الواعية. فالتأمل يوضح للمتعلِّم حجم الضرر الذي ينشأ عن الجهل، سواء على المستوى الشخصي، حيث يفسد السلوك ويشوّه القيم، أو على المستوى الاجتماعي، حيث يثير النزاعات والخلافات، ويُضعف العلاقات الاجتماعيَّة، ويقود إلى استغلال الجاهل من قبل من يسعى لمصالحه الخاصَّة.
وقد أكَّد القرآن الكريم مكانة العلماء وفضلهم على من لا يعلم، فقال الله (تعالى): (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) (25).
مبينًا أنَّ التفكر والفهم هما ميزتان للتمييز بين الإنسان الواعي والجاهل، وأنَّ العلماء بالعلم واليقين لهم موقع رفيع في ميزان القيم. كما ورد في قوله (تعالى): (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ ۖ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (26). مؤكِّدًا أنَّ العلم يرفع صاحبه درجات في الدُّنيا والآخرة، ويمنحه موقعًا مرموقًا يعكس مكانة المعرفة وحسن استغلالها.
ويؤكِّد الله (تعالى) مرَّة أخرى على شرف العلماء في قوله: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (27). ما يدل على أنَّ العلم هو وسيلة لتحقيق العدل والإحاطة بالحقيقة.
كما عبَّر أمير المؤمنين (عليه السلام) عن قيمة العلم بقوله: "الْعِلْمُ أَجَلُّ بِضَاعَةٍ" (28). وعنه (عليه السلام): "قِيمَةُ كُلِّ امْرِئٍ مَا يَعْلَمُ" (29). وعنه (عليه السلام): "الْعِلْمُ أَعْظَمُ كَنْزٍ" (30). مشيرًا إلى أنَّ المعرفة هي أثمن ما يملكه الإنسان، وأنَّها المفتاح لكلِّ خير وفلاح؛ لأنَّها تقوي العقل والقلب، وتصلح الحياة الشخصيَّة والاجتماعيَّة.
ويجسد الشعر هذا المعنى تصويرًا حيًا، فقال أحدهم:
العلمُ يحيي قلوبَ الميتينَ كمَا --- تحيا البلادُ إذا ما مسَّها المطرُ
والعلمُ يجلو العمى عن قلبِ صَاحبِه --- كمَا يجلي سوادَ الظلمةِ القمرُ (31).
والمعنى واضح: العلم قوَّة تنير القلوب، وتحيي النفوس، وتبني المجتمعات، بينما الجهل يفسد الفرد ويهدم القيم والمنازل الاجتماعيَّة.
المحور الرَّابع: أمثلة واقعيَّة.
لإضفاء البعد العملي على الحديث عن العلم النَّافع وطرائق تحصيله، يحسن التوقف عند نماذج جسَّدت هذا المفهوم في الواقع العمليّ:
1. لقمان الحكيم (عليه السلام).
من النماذج البارزة التي قدَّمها القرآن الكريم بوصفها مثالًا للإنسان الذي بلغ الحكمة لا بعوامل ماديَّة أو اجتماعيَّة؛ بل بمسار أخلاقي وسلوكي ومعرفي متكامل شخصيُّة لقمان الحكيم (عليه السلام).
وقد سُئل الإمام الصَّادق (عليه السلام) عن حقيقة حكمة لقمان، وما الذي أهَّله لهذا المقام الرَّفيع، فأوضح في رواية عميقة الدّلالة: "أما واللَّهِ ما اوتِيَ لُقمانُ الحِكمَةَ بِحَسَبٍ ولا مالٍ ولا أهلٍ ولا بَسطٍ في جِسمٍ ولا جَمالٍ.
ولكنّهُ كانَ رجُلًا قَويّاً في أمرِ اللَّهِ، مُتَوَرِّعاً في اللَّهِ، ساكِتاً سَكِيناً، عَميقَ النَّظَرِ، طَويلَ الفِكَرِ، حَديدَ النَّظَرِ، مُستَعبِراً بالعِبَرِ، لَم يَنَمْ نَهاراً قَطُّ، ولَم يَرَهُ أحَدٌ مِن النّاسِ على بَولٍ ولا غائطٍ ولا اغتِسالٍ لشِدَّةِ تَسَتُّرِهِ وعُمقِ نَظَرِهِ وتَحَفُّظِهِ في أمرِهِ، ولَم يَضحَكْ مِن شيءٍ قَطُّ مَخافَةَ الإثمِ، ولم يَغضَبْ قَطُّ، ولَم يُمازِحْ إنساناً قَطُّ، ولَم يَفرَحْ بشيءٍ إنْ أتاهُ مِن أمرِ الدُّنيا ولا حَزَنَ مِنها على شيءٍ قَطُّ، وقَد نَكَحَ مِن النِّساءِ ووُلِدَ لَهُ مِن الأولادِ الكَثيرَةُ، وقَدَّمَ أكثَرَهُم أفراطاً فما بَكى على مَوتِ أحَدٍ مِنهُم، ولَم يَمُرَّ برجُلَينِ يَختَصِمانِ أو يَقتَتِلانِ إلَّا أصلَحَ بينَهُما ولَم يَمضِ عَنهُما حتّى يُحابّا، ولَم يَسمَعْ قَولًا قَطُّ مِن أحَدٍ استَحسَنَهُ إلّاسألَ عن تَفسيرِهِ وعمَّن أخَذَهُ، وكانَ يُكثِرُ مُجالَسَةَ الفُقَهاءِ والحُكَماءِ، وكانَ يَغشَى القُضاةَ والمُلوكَ والسَّلاطينَ فيَرثي للقُضاةِ ما ابتُلوا بهِ، ويَرحَمُ للمُلوكِ والسَّلاطينِ لعِزَّتِهِم باللَّهِ وطُمأنينَتِهِم في ذلكَ، ويَعتَبِرُ ويَتَعَلّمُ ما يَغلِبُ بهِ نَفسَهُ ويجُاهِدُ بهِ هَواهُ ويَحتَرِزُ بهِ مِن الشَّيطانِ، فكانَ يُداوي قَلبَهُ بالفِكَرِ، ويُداوي نفسَهُ بالعِبَرِ، وكانَ لايَظعَنُ إلّا فيما يَنفَعُهُ؛ فبِذلكَ اوتِيَ الحِكمَةَ ومُنِحَ العِصمَةَ.
فإنَّ اللَّهَ تباركَ وتعالى أمَرَ طَوائفَ مِن المَلائكةِ حِينَ انتَصَفَ النَّهارُ وهَدَأتِ العُيونُ بالقائلَةِ فنادَوا لُقمانَ حيثُ يَسمَعُ ولا يَراهُم فقالوا: يا لُقمانُ، هَل لَكَ أن يَجعَلَكَ اللَّهُ خَليفَةً في الأرضِ تَحكُمُ بينَ النّاسِ؟
فقالَ لُقمانُ: إنْ أمَرَني اللَّهُ بذلكَ فالسَّمعُ والطَّاعَةُ؛ لأنّهُ إنْ فَعَلَ بِي ذلكَ أعانَني علَيهِ وعَلَّمَني وعَصَمَني، وإنْ هُو خَيَّرني قَبِلتُ العافِيَةَ.
فقالَتِ المَلائكةُ: يا لُقمانُ، لِمَ قُلتَ ذلكَ؟
قالَ: لأنّ الحُكمَ بينَ النّاسِ مِن أشَدِّ المَنازِلِ مِن الدِّينِ وأكثَرِها فِتَناً وبَلاءً ما يَخذُلُ ولا يُعانُ ويَغشاهُ الظُّلمُ مِن كلِّ مَكانٍ، وصاحِبُهُ فيهِ بَين أمرَينِ؛ إنْ أصابَ فيه الحَقَّ فبالحَرِيِّ أن يَسلَمَ، وإن أخطأَ أخطأَ طَريقَ الجَنّةِ، ومَن يَكُن في الدُّنيا ذَليلًا وضَعيفاً كانَ أهوَنَ علَيهِ في المَعادِ أن يكونَ فيهِ حَكَماً سَرِيّاً شَريفاً، ومَنِ اختارَ الدُّنيا علَى الآخِرَةِ يَخسَرْهُما كِلتَيهِما تَزولُ هذهِ ولا تُدرَكُ تلكَ.
قالَ: فتَعَجَّبَتِ المَلائكةُ مِن حِكمَتِهِ واستَحسَنَ الرّحمنُ مَنطِقَهُ، فلَمّا أمسى وأخَذَ مَضجَعَهُ مِن اللّيلِ أنزَلَ اللَّهُ علَيهِ الحِكمَةَ فغَشّاهُ بها مِن قَرنِهِ إلى قَدَمِهِ وهُو نائمٌ وغَطّاهُ بالحِكمَةِ غِطاءً، فاستَيقَظَ وهُو أحكَمُ النّاسِ في زَمانهِ، وخَرَجَ علَى النّاسِ يَنطِقُ بالحِكمَةِ ويُثبِتُها فيها..." (32).
وتكشف هذه الرواية عن رؤية إسلاميَّة عميقة لمفهوم الحكمة، بوصفها ثمرة لمسار أخلاقي طويل، لا نتيجة لعوامل خارجية كالنَّسب، أو المال، أو الجمال، أو القوَّة الجسديَّة. فالإمام الصَّادق (عليه السلام) يعيد توجيه البوصلة من المقاييس الاجتماعيَّة الظاهرة إلى المعايير الباطنيَّة التي تصنع الإنسان الحكيم حقًا، مؤكِّدًا أنَّ الحكمة مكافأة إلهيَّة لمسار واعٍ قائم على التقوى، وضبط النَّفس، وعمق التَّفكير.
وتُظهر الرواية أنَّ لقمان (عليه السلام) بنى حكمته على ثلاث ركائز كبرى: تزكية النفس، وتهذيب السلوك، ووعي الواقع. كما تؤكِّد الرواية أنَّ العلم والحكمة لا يكتملان إلَّا بمجاهدة الهوى، والحذر من الشيطان، وحسن توجيه المعرفة لخدمة تزكية النفس لا لتضخيم الأنا. ولهذا ختمت الرواية بذروة دلاليَّة بالغة العمق، حين خُيّر لقمان بين الخلافة والحكمة، فاختار الحكمة، في إشارة إلى أن القيادة الحقيقيَّة تبدأ من قيادة النفس، وأنَّ السلطة بلا حكمة قد تكون فتنة، بينما الحكمة بحد ذاتها مقام قربٍ إلهي.
وعليه، فإنَّ هذه الرواية ترسم منهجًا متكاملًا لبناء الإنسان العالِم الحكيم، وتؤكِّد أنَّ تجاوز الجهل لا يكون بكثرة المعلومات، وإنَّما بتكامل المعرفة مع التقوى، والتفكر، والعمل، وضبط السلوك. فهي دعوة صريحة لإعادة تعريف النَّجاح العلمي والإنساني، وربطه بالمسار الأخلاقي، لا بالمظاهر والامتيازات الزَّائلة.
2. إنني حجَّة الله (تعالى).
ومن النَّماذج الواقعيَّة البالغة التأثير في بيان أنَّ العوائق الماديَّة أو الذهنيَّة لا تصلح ذريعة لترك طلب العلم، تجربة الشيخ محمَّد المازنداني، الذي تحوَّل إلى شاهد واضح على قدرة الإرادة الصَّادقة والتوكل على الله (سبحانه) في صناعة العالم مهما كانت البدايات قاسية.
يقول الشَّيخ محمد المازنداني؛ الذي بلغ درجة عالية في العلم بعد أن كان أفقر الطلبة، وأبلدهم ذهنًا، وأقّلهم استيعابًا للعلم: "إنني حجَّة الله (تعالى) على كلِّ شخص يعتذر من الدِّراسة، وطلب العلم بسبب الفقر والبلادة، فمن ناحية الفقر كنت أفتش عن لقمة خبز يابس يرميها النَّاس في الطَّريق، ومن ناحية أخرى لم يكن لدي شمعة استنير بها للمطالعة ليلًا، فقد كنت أذهب إلى مراحيض الطَّلبة، وأستضيء هناك لمن يأتي لقضاء حاجته. ومن ناحية البلادة فقد كنت أقرأ، ولا أتذكر بعد قليل ما قرأته، وكنت أدرس، ولا أستطيع حفظ معلومات الدَّرس؛ بل كان يصعب عليَّ فهمها، لقد كانت ذاكرتي من الضَّعف بدرجة أنني أضيع الطريق إلى البيت أحيانًا، حتَّى أنني أنسى أسماء أطفالي، وعندما وصلت إلى الثلاثين من عمري قررت أن أمرن ذاكرتي على الحفظ بأيِّ ثمن كان، وقد ساعدتني في ذلك زوجتي التي كانت عالمة فاهمة، ومن عائلة علمائيَّة نزيهة.
وقد أصبح هذا الرَّجل فيما بعد عالمًا كبيرًا كتب شرحًا لأحاديث (أصول الكافي)، وشرحًا على كتاب (من لا يحضره الفقيه)، وتوضيحات على كتاب (اللمعة الدمشقيَّة) ويلقب في الأوساط العلميَّة بـ(فخر المحققينَ والمدققينَ) (33).
وتكشف هذه التجربة بوضوح أنَّ العلم النافع لا يُختزل في الذكاء الفطري، ولا يُشترط له اليسر المادي؛ بل يقوم أساسًا على الصَّبر، والمجاهدة، والإخلاص، وحسن التوكل على الله (سبحانه)، والاستمرار على الرَّغم من الألم. وهي بذلك مثال تطبيقي حيّ يؤكد أن الجهل ليس قدرًا محتومًا، وأن موانع طلب العلم، مهما عظمت، تنهار أمام الإرادة الصادقة، فيتحول الإنسان من حالة العجز إلى موقع الحجة على غيره، بعلمه وسيرته وكفاحه.
ويتبيَّن من خلال هذا العرض أنَّ الجهل هو ظاهرة مركَّبة ذات آثار عميقة تمسُّ الإنسان في فكره، ودينه، وسلوكه، وعلاقته بالآخرين. فالجهل البسيط، على ما فيه من نقص، يبقى قابلًا للعلاج ما دام مقترنًا بالاعتراف والسؤال، أمَّا الجهل المركّب فهو الأخطر؛ لأنَّه يُغلِق على صاحبه أبواب المراجعة، ويحوّل الوهم إلى يقين، والخطأ إلى حقٍّ يُدافَع عنه.
كما تبيّن أنَّ كثيرًا من الاختلافات والنزاعات، وفساد الدِّين في بعض مظاهره، لا يعود إلى تعارض الحقائق بقدر ما يرجع إلى قصور الفهم، وسوء التلقِّي، والتجرُّؤ على الكلام والحكم بلا علم. ولهذا كان الجهل أصلًا لكثير من الشرور، ومنبعًا لانحرافات لا تنتهي.
وفي مقابل ذلك، يظهر العلم النَّافع بوصفه العلاج الجذري لهذه الآفة بوصفه حالة وعيٍ متكاملة تقوم على حسن المنهج في التلقّي، وصحة المصدر، وآداب التعلم، والإخلاص، والعمل، والسؤال الهادف، والتقوى، والتفكُّر الدَّائم في عواقب الجهل وثمار العلم. وهي شروط إذا اجتمعت، حوَّلت المعرفة إلى نور يهدي العقل، ويهذِّب النفس، ويبني الإنسان القادر على الفهم والحوار والإصلاح.
وتؤكد النماذج التطبيقيَّة أنَّ تجاوز الجهل يرتبط بمسار أخلاقي واعٍ، قوامه المجاهدة والصبر وحسن التوكل. وبذلك يصبح العلم طريقًا للتحرّر من الجهل على مستوى الفرد والمجتمع بأسره، ليكون أساسًا للوحدة، والرشد، والاستقامة، بدل النزاع والاضطراب.
وبهذا يخلص المقال إلى أنَّ مواجهة الجهل ضرورة حضاريَّة ودينيَّة، وأنَّ بناء الإنسان العالِم الواعي هو الخطوة الأولى في بناء مجتمع متماسك، قادر على فهم الاختلاف وإدارته، لا الوقوع في فخ الجهالة وصراعاتها.



اضف تعليق