العبور من الألفية الثانية إلى الألفية الثالثة عبور رمزي نحو تاريخ جديد، فهذه الأرقام هي مجرد تعبير رمزي وشكلي عن حالة الانتقال الكبيرة والتحول الجذري الذي يشهده عالم اليوم بالتطورات الهائلة التي تفرض أحداثها يوميا بصورة يعجز الكثيرون عن إدراك عمق تغيراتها وفهم أسبابها.
على أن الثورة المعلوماتية والتكنولوجية أثارت عواصف هائجة اجتاحت العالم مخلفة ظواهر وأشكالا جديدة في عالم اليوم كالإعلام العائم والاقتصاد المعولم والمعلومات الحرة والتجارة الاستهلاكية الجامحة، وتحول العالم الى شبكة مترابطة من المعلومات والقيم والبضائع، أخذت الثقافات تتداخل بشكل عنيف، واللغات تتبلبل وتتشارك وتتداخل في مفرداتها.
ولاشك أن هذه الثورة الجديدة في عالم اليوم أصبحت تشكل بسماتها تاريخا جديدا بثقافة وقيم غريبة تعتمد أساسا على محورية ذاتها وعالمية استحواذها وتسلطها المنفرد في فرض نفسها على قوى وشعوب العالم عبر وسائلها المعلوماتية والاقتصادية النافذة.
وصاحب ذلك ردود أفعال عنيفة خوفا من هذه التغييرات العنيفة ووجود شعور بالإجحاف والظلم من كون هذا التغيير لا يخدم إلا أقلية الأغنياء والمترفين والنخبة على حساب المسحوقين. وهذا هو الذي دق ناقوس الخطر في أرجاء العالم فسعت الأديان والمذاهب والجماعات الى لملمة أشلاءها والانغلاق على أجواءها لحماية نفسها من هذا الهجوم الفضائي الكاسح الذي لاتقف أمامه الأسوار وتعجز عن ردعه الحصون ولو كانت حديدية.
إننا أمام انهيار خطر تشهده الثقافات والأفكار والقيم لصالح ثقافة وقيم تعلبها مؤسسات وأفراد تهدف الى مسخ الفكر الإنساني لصالح فكر معين يهدف الى الربح والتسلط. وبالفعل فهذه مرحلة تاريخية جديدة تمر بها الإنسانية بأدوات وقيم جديدة يسيطر عليها قوى وأفراد تمثل النخبة الرأسمالية الجديدة التي تحتكر أدوات المعلومات والمال والثقافة.
فماذا يفعل العالم الإسلامي أمام هذا التحول التاريخي الجديد وقد أصبحت أبوابه مفتوحة وهو يمثل اكبر شريحة بشرية في العالم تمتلك حضارة ثرية بالتاريخ والفكر والقيم والثقافة..؟ هل يندمج في حضارة الاستهلاك فيكون ردفا في القطيع الإلكتروني أم يغلق الأبواب على نفسه ويصنع حاجزا فولاذيا سميكا ليمنع الأثير الفضائي من الدخول..! أم انه يواجه هذه التحديات وينتفض عبر صياغة جديدة لحياته وتجديد تراثه والاستفادة من أدوات التاريخ الجديدة بالارتكاز على أصالة القيم والمثل الإسلامية..؟
ان للقرن الحالي المشرف على نهايته تجربة مرة صاحبتها آلام ومآسي واحباطات فتهالكت الأمة تعبا من الشقاء والتخلف، ولم نستفد من الدروس التي يذكرنا بها القرآن الكريم يوميا: (افلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم). فإذا أردنا أن نعبر الى الزمن الجديد فهل نحمل معنا أوزارنا ومآسينا ونجتر واقعنا المتخلف مرة أخرى، ام أننا نعبر إليه ونحن نحلم بالأمل والسعادة والابتسامة..؟ قوانين التاريخ لاتقبل الأحلام وسنن الله سبحانه وتعالى في الكون لا تنبئ عن ذلك.
التحديات الداخلية
ليست التحديات الخارجية هي الخطر الكبير وخصوصا عندما تمتلك الأمة عناصر البقاء والقوة، ولكن الخطر الأكبر هو التحديات الداخلية التي تعصف في أساس وبنية الأمة. فالخطر الخارجي عندما يكتسح أي أمة ويسيطر عليها يمثل النتاج العملي للانهيار الداخلي، فالحضارات انتهت واندثرت لأنها تآكلت من الداخل فأصبحت كالطريدة المتهاوية التي ينتظرها الوحش لافتراسها.
والاستعمار ما هو إلا واقع مر خلفه تهالك الأمة وضعفها وافتقادها للمقومات الذاتية للنهوض والبناء. ويرى الباحث التاريخي توينبي في دراسته للحضارات ونشوءها واندثارها: إن الأمم لا تعتل بل تنتحر أي أن النخب المسيطرة تدخل في حالة نزاع دائم تعجز عن ابتكار حلول تحظى بالإجماع لمشكلاتها الحياتية المتراكمة والمتأزمة، وان حالة النزاع الدائم مع العقم عن إيجاد الحلول يدفع الناس العاديين الى تقبل الحكم الأجنبي في المرحلة الأولى ثم الانحلال فيه آخر الأمر. فالانهيار الحضاري هو اختيار الأمة أن تنتحر وتبقى أسيرة في التاريخ لقوى استعمارية أقوى منها في أدواتها وأفكارها وارادتها.
وما نلاحظه اليوم هو افتقاد تلك الارادة الجماعية التي تحرك الروح وتعبئ الطاقات من اجل حركة البناء الذاتي والتغيير النفسي، بل إن الإحباط واليأس والشعور بالضعف والوهن هو الذي يسيطر على رجال الامة ونخبها مما يجعل الأمة فريسة سهلة ترتمي في أحضان الاستعمار.
إرادة الأمم وعلل التاريخ
إن التاريخ ليس آلة ميكانيكية تصنع الأحداث وتولد الأمم بل التاريخ روح متحركة تصنعه الارادة الانسانية والوعي البشري في استجابته لتحديات وتحولات الحياة. لذلك لا يحدث التغيير الحقيقي بصورة فجائية بدون تدخل المعطيات الإنسانية نفسها، والذين يعولون كثيرا على انتظار التغيير من الخارج كثيرا ما يصبحون فريسة القدرية والتبعية.
وإذا كان التاريخ هو حركة ينتجها الفعل الإنساني فلأنه قانون تكويني ثابت يسري في مختلف الظروف المكانية والزمانية وينتج الآثار نفسها بشكل كلي وان اختلفت التفاصيل، لذلك يرى البعض بان الوقائع لم يكن بالإمكان ان تحدث بصورة مختلفة، وانه لو كانت الأسباب نفسها تعمل في مكان اخر ما كانت لتستطيع ان تحدث إلا الآثار نفسها.
والقرآن الكريم يوجه الإنسان لدراسة المجتمعات الماضية والاستفادة من أخطائها وتجاوز عثراتها والاعتبار بنتائجها حيث يقول تعالى: (أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا اشد منهم قوة وأثاروا الأرض فأخذهم الله بذنوبهم) غافر21. وهذا يعني وجود قوانين انتزاعية يمكن تطبيقها في ظروف متعددة حسب وجود القابليات النفسية والتفاعلات الواعية مع حركة التاريخ. فإيجاد تحول حقيقي والخروج من قمقمة التخلف يبدأ من خلال التعرف على قوانين التقدم في التاريخ من اجل فهمها والتفاعل معها واستثمارها عمليا لبدأ حركة التغيير.
فمهما حاولنا إحداث التغيير الشكلي الظاهري عبر استيراد المدنية الحديثة وشراء أدواتها من السوبر ماركت الغربي فإننا نبقى مجرد مستهلكين لا ننتج إلا المخلفات من هذه المظاهر.
وتظهر المفارقة الساخرة بشكل واضح في ذلك التناقض الغريب بين المظهر والجوهر عندما نستورد اليد البشرية الغربية العاملة لتشغيل مدنيتنا المستوردة. نعم يمكن ان تعبر هذه المدنية المستوردة عن وجود تغيير شكلي في كيان الأمة ولكن هذا التغيير في المظاهر لا يلامس الفكر والروح بل على العكس من ذلك يخدشها ويلوثها ويزرع فيها الجمود والتبعية والاتكالية، حيث استوردت أشكال مزوقة قيما وأفكار استهلاكية تهدف الى نشر الفساد وسيطرة الثقافة الغربية وتحويل المجتمعات الى قطعان مسيرة تستهلك ما يعطى لها. فهذا التغيير الشكلي عمق من مشكلة التخلف وزرع فجوات واسعة بين الوعي والسلوك وافرز مظاهر وتناقضات وسلوكيات غريبة من الصعب تغييرها لأنها أصبحت في نظر الجيل الجديد الرمز المثالي المقدس.
ويمكن ان يبدأ عمق التغيير الحقيقي نحو التاريخ الجديد من خلال توفر بعض المقومات الأساسية التي يمكن ان تولد شلالا ديناميا واعيا يحرك الطاقات الفكرية ويصقل الوعي والعقل ويوجد حركة حقيقة نحو الاستجابة الجدية لتحديات التاريخ القادم والعبور الى نهضة واقعية.
إرادة النهوض
اذا كانت الإرادة الإنسانية هي محور حركة الأمم في التاريخ وصراع الحضارات هو صراع ارادات فان النهضة الحضارية لا تتصاعد إلا بوجود إرادة جدية تعي عناصر النهضة وتفهم عوامل الصراع وتستخدم اراداتها بصورة منهجية لإحداث عملية التغيير.
لان واقع الحياة والطبيعة لا ترتضي السهولة في حدوث الأشياء فان الطبيعة الفيزيقية والحالة البشرية النفسية تقتضي وجود فعل وبناء وحركة لتجاوز عقباتها، لذلك على الناس ان يمارسوا جهودا متتالية لكي ينتزعوا نتاجات أفعالهم ويحموا ويحافظوا على ما انتزعوه، وهذا ما عبرت عنه الآيات القرآنية: (يا أيها الإنسان انك كادح الى ربك كدحا فملاقيه)، (وان ليس للإنسان إلا ماسعى وان سعيه سوف يرى).
وتنهار الحضارات والأمم عندما ترتضي السهولة والرخاء وتكسل عن الفعل والاجتهاد لأنها وصلت الى قمة الذروة في اللذة والترف بحيث تفقد الدافع للاستمرار وتفقد إرادتها الإيجابية للبناء: (وإذا أردنا أن نهلك قرية امرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا).
وهناك أمم غرقت في بحر القدرية والتسيير فأصبحت مسلوبة الإرادة تحركها الرياح من صوب الى صوب وتتبع من يسيرها ويقودها نحو الحرب والموت كما يقاد القطيع الى المذبح، وهذا هو حال اغلب الأمم الضعيفة التي تئن تحت وطأة الاستبداد والاستعمار.
إن الإرادة حركة متتالية من المراحل التي تنتج في النهاية فعلا واقعيا يتجسد عمليا في الواقع الخارجي، فالإرادة الذهنية والقلبية إن لم يتبعها العزم والتصميم يصبح مجرد حلم من أحلام اليقظة. والإرادة إن لم تكن في إطار الوعي المتبصر والحقيقي فانه يكون رمية بلا هدف قد تخرج عن هدفها وتضر راميها.
اذن الإرادة تبدأ أولا من وجود وعي حقيقي يفهم حركة الإنسان في التاريخ ويعرف كيف يستفيد منها.
اضف تعليق