تساءل فجأة: أليس غريبًا أن ننتظر دائمًا معجزة من السماء؟ أما كان الأجدر أن نصنعها بأيدينا قبل أن نفقد كل شيء؟، لكن حين فتح عينيه مجددًا، وجد أن الواقع كان أقسى من كل الخيال، رأى رفاقه يُقتادون واحدًا تلو الآخر، تسابقهم أرواحهم إلى دجلة، وحين سقطت أجسادهم في النهر، كان صوت ارتطامهم بالماء أشبه بنداء للسماء...
كانت الشمس توج احمرارا، تبعث بآخر أشعتها الخافتة على نهر دجلة الذي انسابت مياهه بهدوء يشبه انتظارًا مؤلمًا لاستقبال مزيد من الأرواح المزهوقة، في ذلك الطابور الطويل الممتد كظلّ الموت، وقف مسلم بثبات غريب، يرقب مصيره المحتوم، تردد في أعماقه صوت يشبه الهمس: «هل سيشعرون بشيء عندما ينتهي كل شيء؟، هل سيرونني وأنا أعبر هذه النهاية؟».
أما أصوات نظرائه الأسرى من حوله، فقد تلاشت تدريجيًا، كأنها تعبر عن استسلام لا رجعة فيه، ولم تعد سوى همسات متقطعة امتزجت مع هدير المياه التي انسابت باحثةً عن احدى صخور النهر لتحتضنها، كأنها تحمل في طياتها أنين أرواح سبقتهم تنتظر ساعة الخلاص.
نظر مسلم الى ملابسه المدنية التي باتت مغبرة متسخة، تلك التي كان قد اقتناها من عربات (البالة)، لاحت في عينيه نظرة لوم صامتة، تمتم في أعماق نفسه بصوت خافت لا يسمعه إلا قلبه: «ما نفعكِ الآن؟ لقد كنتِ مجرد غطاء هش لكرامتي، وها أنا ذا أقف عاريًا أمام الموت وحدي بلا نصير».
خطا مسلم خطوة أخرى نحو قدره المحتوم، وعيناه معلقتان بذلك القصر المهيب الذي يتربع على ضفاف دجلة، كان قصرًا شامخًا بجدرانه العالية وأبوابه الحديدية التي أطبقت على أسرار لا تُحصى من الظلم والطغيان، بدا وكأنه حارس أخرس على حقبة من القهر، شاهد صامت على مأساة تتكرر بلا خجل.
نظر مسلم إلى القصر بنظرة تحمل مزيجاً من المرارة والغضب، وتمتم بصوت مشحون بالأسى، وكأنه يخاطب الصخر والجدران: «يا قصر الجبابرة، ألم تكن شاهدًا على أوجاع لا تعد ولا تحصى؟، ألم تهتز جدرانك من أنين المظلومين؟، وها أنت اليوم تقف صامتاً من جديد، مكتفياً بمراقبة مجزرة أخرى تُرتكب في ظلك لطلبة قاعدة (سبايكر)، أبوابك موصدة، وجدرانك صماء، قد ألفت الخضوع للظالمين، متى ستنطق؟، متى ستثور لتكون نصيراً للمظلوم؟».
من حوله علت صيحات المجرمين الوحشية، تُجلجل في الأفق كأنها نشيد الموت، اقترب أحدهم منه، متباهياً بسلاحه، وسأله بنبرة ساخرة: «هل تخاف؟» فرفع مسلم عينيه إليه وقال بهدوء: «من يخشى الله لا يخشى عباده»، بينما كانوا يلوحون بمسدساتهم النارية، توقف مسلم للحظة وعيناه تستقران على تلك المسدسات التي غدت رموزًا للغدر، حدق فيها متمتماً بصوت مشحون بالأسى والاحتقار: «ألم يكن من الأجدر أن تحملكِ يد العدالة لتصون الحياة؟، كيف انحدرتِ لتصبحي أداة رخيصة تسلب بها أرواح الأبرياء بلا رحمة؟».
تأمّل مسلم النهر، وقد اكتست مياهه بحمرة كأنها تروي قصة الألم، بدا النهر وكأنه يحتضن أرواح الشهداء في صمت يغدق بالوجع، اقترب منه بنظرة مفعمة بالألم، وتمتم بصوت متحشرج يفيض بالعتاب: «يا نهر، يا من كنت شاهداً على أروع الحضارات وأمجاد الماضي، أخبرني: هل يسعك أن تحتفظ بأوجاعنا؟، أم أن النهر مثلنا، لا يملك لنفسه سوى الانسياب؟، أي عبث هذا الذي يجعل الحياة تجري فوق عظام الأموات من دون أن تتوقف لحظة للتأمل؟، وكيف صار حضنك موطناً للدماء بدلاً من الحياة؟ ام إنك انقلبت على سماتك العتيقة واكتسيت برداءٍ آخر؟ هل غرتك ظلال القصر وتمردت على حرارة الشمس فلم تأبه لدماء أولاد الشمس؟، هل شُللت فلم تتمكن من غمر هؤلاء الإرهابيين في جوفك العميق؟، ثم أطرق برأسه لحظة، وكأن الذكرى تستدعي شقيقه الفرات فيلتقيان قرب دار مسلم ليتباهلا أيهما اشد قسوة، فهذه المرة الثانية يتخوشن فيها الماء متنصلاً من كينونته عقب موقف الفرات من واقعة الطف.
رفع رأسه نحو السماء التي امتدت شاحبة، قد تسلل آخر خيوط الشمس الراحلة وهي تلقي بدفء واهن قبل أن تنسحب خلف الأفق تاركة الظلام يبتلع المشهد شيئًا فشيئًا، وقف مسلم هناك كأنما يناجي الكون بأسره، وقال بصوت تتخلله نبرة مفادها اليأس والرجاء: «يا سماء، يا شمس، يا طيور، أين أنتم؟، لماذا لا تصرخون؟، لا تنزلون علينا حبال النجاة؟، ألا يمكن أن تحدث معجزة تنقذنا من هذا المصير؟».
ثم أغمض عينيه للحظة كمن يهرب من واقعه إلى عالم يصوغه قلبه الموجوع، تخيل جيوشًا من الملائكة تهبط من علياء السماء، نورها يبدد الظلام، لكنه تساءل فجأة: «أليس غريبًا أن ننتظر دائمًا معجزة من السماء؟ أما كان الأجدر أن نصنعها بأيدينا قبل أن نفقد كل شيء؟»، لكن حين فتح عينيه مجددًا، وجد أن الواقع كان أقسى من كل الخيال، رأى رفاقه يُقتادون واحدًا تلو الآخر، تسابقهم أرواحهم إلى دجلة، وحين سقطت أجسادهم في النهر، كان صوت ارتطامهم بالماء أشبه بنداء للسماء، امتدت الدماء كأنها رسالة غارقة في الألم، بينما الأمواج الصامتة بدت وكأنها تبكي على أطلال البراءة المسفوكة، ودَّ لو احتضنه الموت أولًا، لينتزع عنه ألم رؤية الأحبة، وهم يسقطون تباعًا كأوراق الخريف في ريح لا ترحم.
حين جاء دوره، وقف بثبات كالجبل يتحدى الموت بعينين لا تعرفان الانكسار، في تلك اللحظة، تساءل في أعماقه: «يا الله، هل يكفي هذا الثبات لتكون شهادة؟ هل سأترك أثرًا لا يُمحى»، نظر مسلم إلى المسدس الذي وُجِّه إلى رأسه بأيدٍ ملطخة بدماء رفاقه الأبرياء، لحظة واحدة فصلت بين الحياة والموت، شعر بحرارة الرصاصة وهي تشق طريقها الى رأسه، فجأة انسكب دمه بغزارة ينساب على حافة دجلة ممزوجاً بتكبيرات المجرمين، في تلك اللحظة، ارتفعت روح مسلم نحو السماء، تشق طريقها بخفة ممزوجة بالوجع، بينما دموعها تنسحب بحرقة، نظرت إلى الأرض وهي تبتعد فرأت أُماً تنتظره بلهفة كل يوم عند الباب، وقلب أب كان يحلم باحتضان ابنه العائد بسلام، عانقت الذكريات صورة زوجة غارقة في ألم الفقد تحتضن وسادته كل ليلة، وكأنها تحتضنه، وطفلاً لم يمهل القدر مسلم ليراه، ويبصر عينيه الصغيرة التي لمعت لأول مره قبل عشرة أيام.
وهمست روحه وهي تبتعد أكثر فأكثر: «يا الله، امنحهم الصبر، وامسح دموعهم بيد رحمتك، أما أنا فسأبقى قريباً منهم، أحلق حولهم، وأحنو عليهم؛ لأواسي أحزانهم، وأذكّرهم بأن من مات لأجل الحق لا يموت أبدًا».
اضف تعليق