ما إن أكملت زيارتي لمرقد الطاهر وقفت بين يدي الله، عندما بدأت أتلوا الدعاء بصوت مرتجف، لذا الدنيا باتت تتلاشى أمامي وتذوب كالسراب كأنها لم تكن ابدًا، لم أر سوى غشاوة من الدموع التي فيضت عيني، كانت تلك الدموع أشبه بسيل يغسل روحي، ويطهر قلبي من أوجاعه...
كانت السماء ملبدة بالغيوم كأنها تحمل حزني معها، وقفت أمام مرقد رمز الإيثار والشجاعة، ذلك الملاذ الذي لطالما لجأت إليه كلما تضيق بي الدنيا وتتراكم همومها على كاهلي، هذه المرة لجأت بعد حرب داعش خطفت مني أصدقائي جميعًا، أولئك الأصدقاء الذين كانوا لي سندًا وحياة، لكنهم رحلوا واحدًا تلو الآخر تاركين خلفهم فراغًا لا يمتلئ.
بخطوات مثقلة بالحزن وألم الفراق دخلت إلى مرقد المولى أبي الفضل العباس (عليه السلام)، وشعرت كأن الأرض تسحبني نحوه كأنما تجد ضعفي نداءً إلى تلك الروح العظيمة، كنت أهمس بصوت خافت متوسلاً:" يا أبي الفضل، يا قمر بني هاشم، أدع لي عند الله أن يرزقني كما رزق أحبتي بالشهادة، فقد اشتقت إليهم كثيرًا".
كانوا عالمي الصغير وعائلتي التي اخترتها بقلبي، وصوتي حين أصمت، وكتفي حين يثقلني الحزن، والآن أسير في هذه الدنيا تائهًا بين الطرقات التي كانت تجمعنا، وبين الذكريات التي تحاصرني، وكم هو مؤلم أن أعيش بين صدى ضحكاتهم وأحاديثهم التي ملأت الأماكن مدينتنا وميادين التضحية والجهاد، فباتت الان صمتاً مميتاً.
ما إن أكملت زيارتي لمرقد الطاهر وقفت بين يدي الله، عندما بدأت أتلوا الدعاء بصوت مرتجف، لذا الدنيا باتت تتلاشى أمامي وتذوب كالسراب كأنها لم تكن ابدًا، لم أر سوى غشاوة من الدموع التي فيضت عيني، كانت تلك الدموع أشبه بسيل يغسل روحي، ويطهر قلبي من أوجاعه.
وحين أنهيت من الصلاة ومسبحتي بين أصابعي تدور على واقع أنفاسي وأغوص في تفاصل زخارف السجادة تحت قدمي، فجأة شعرت بأني انفصلت عن واقعي كأنني انتقلت إلى طيف، وجدت نفسي في حقل من الورود بألوان زاهية كأنها تعكس نورًا من السماء، ويحيط بي رجال يرتدون الزي العسكري يحكي حكايات من العز والشرف، وجوههم مشرقة كأنها مزيج بين البشر والملائكة، وكان الليل حاضرًا والمطر يتساقط بهدوء، اقتربت منهم ببطء خطوة تلوا الأخرى حتى بدأت أتعرف على ملامحهم، هم أحبتي أصدقائي الذين فارقوني في ميادين الحرب محمد، عقيل، مرتضى، مهدي، وآخرون.
قال محمد بصوت دافئ ممزوج بابتسامة صافية:" أهلاً وسهلاً بك أيها الحزين، قد اشتقنا إليك كثيرًا".
كانت جراحهم لا تزال تنزف التي عبرها انتقلت أرواحهم إلى الملكوت الأعلى.
قلت بصوت يختنق الشوق:" جسدي فداء لأجسادكم الطاهرة يا أحبتي، كيف لي أن أنساكم".
وفجأة جاء صديقي حسين ووقف ما بينهم مرتديًا زيه العسكري وعلى رأسه مشدودة عصبة، وكانت ابتسامته تعلوا وجهه النوراني برغم أثر طلقة التي اخترقت جمجمته على الساتر قبل عشرة أيام".
قالوا جميعًا:" أهلاً وسهلاً بك يا حسين في عالمك الحقيقي قد انتهى الألم الذي أثقلك في المستشفى منذ أيام، ونحن كنا بانتظارك ويومياً ندعو الله لأجل أن تحقق أمنيتك بالشهادة".
رفعوا حسين الذي كان مغمورًا بالسعادة والجمال على أكتافهم والورد ينثر عليه، اخذوا وادخلوا إلى ذلك المكان كأنه قطعة من الفردوس، حاولت اللحاق بهم لأكون جزءًا من هذا الفناء، لكن محمد وقف أمامي، وقال:" في أمان الله يا عزيزي، موعدك لم يحن بعد".
نظرت إليه بذهول وصرخت بصوت منكسر:" لماذا؟، أليس لي مكان بينكم؟، هل أنا سيء إلى هذا الحد؟، هل أنا غارق في الذنوب؟، أنا أريد أن أكون معكم أيها الأطهار...".
لكنه بدأ محمد يتلاشى شيئًا فشيئًا، حاولت أن أمد يدي لأمسك به، لكنني لم أجد سوى الفراغ، ناديت أسمه بصوت مكسور "محمد!".
لكن فجأة عدت إلى واقعي في الصحن العباسي الشريف، على إثر صوتٍ وكانت الدموع تنزف بهدوء مني، كان الصوت صداه يتردد خلفي" لا إله إلا الله والشهيد حبيب الله"، التفت لأرى ماذا يحدث خلفي، رأيت رجالاً يحملون تابوتًا ملفوفًا بالعلم الله أكبر وتتقدمه صورة لصديقي حسين الذي رأيته منذ لحظات والتحق بالأطهار.
والا أسمعت صوتًا يتردد كنسيم عابر كأنه ينحدر من أعماق السماء يقرأ قوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}.
خرجت من الصحن الشريف وقد شعرت أنني تركت شيئًا من ثقل حزني بين تلك الجدران الطاهرة، كأن الأرض هناك استقبلت أوجاعي بصمت، لكن رغم كل ما أفرغته بقي ألم الفقد يسكن روحي كجرح لا يلتئم مهما مر الزمان وجمر الاشتياق ما زال يحرق قلبي، وأجد نفسي أبحث عن بصيص من الأمل للشهادة، هي ليست موتًا بل حياة أبدية في عالم لا يعرف الحزن أو الفقد، إنها أمل في لقاء الله بوجه يملئه الرضا.
اضف تعليق