لم يكن مجرد أب يفقد أبناءه بل قدمهم قربانًا دفاعًا عن المقام الشريف الذي أصبح جزءًا من ذاكرته ووجعه، وكأن الحجارة والضريح يحملان شيئًا من روحه المكسورة، رفع يديه المتهالكتين نحو السماء الملبدة بالغيوم، وصرخ بصمت عميق، صرخة سمعها قلب السماء، دموعه انهمرت كالشلال ودعاؤه مزق سكون الليل...

في مدينة الياسمين حيث يمتزج عبق التاريخ مع رائحة المطر، ويخيم على الأجواء رهبة غامضة، كان الليل يتثاقل تحت وطأة عاصفة سوداء، وتوقفت المدينة بأسرها عن التنفس وتترقب مصيرها بوجل، في تلك اللحظات الحرجة ارتفعت صلوات العاشقين من مقام السيدة زينب (عليها السلام) وتداخلت بالدموع والهمسات الحزينة، كأنها استغاثة مكتومة تخترق السماوات السبع باحثة عن إجابة من علياء الرحمة الإلهية.

وسط هذا المشهد المهيب جلس شيخ مسن وسط الصحن الزينبي الشريف، وجهه الذي نقش الزمن عليه أخاديد الألم يروي بصمته حكاية عمر مثقل بالفقد والرجاء، وجسده المنهك بدأ كلوحة حية تنطق بالأمة، كأن كل تجاعيده تحكي قصصًا عن تضحية وفقدان، لم يكن مجرد أب يفقد أبناءه بل قدمهم قربانًا دفاعًا عن المقام الشريف الذي أصبح جزءًا من ذاكرته ووجعه، وكأن الحجارة والضريح يحملان شيئًا من روحه المكسورة، رفع يديه المتهالكتين نحو السماء الملبدة بالغيوم، وصرخ بصمت عميق، صرخة سمعها قلب السماء، دموعه انهمرت كالشلال ودعاؤه مزق سكون الليل:" يا رب احفظ هذا المكان من أيدي الظلمات واحمه بقدرتك وأرسل لنا ما يحميه من هذا الزحف الكاسر".  

فجأة اجتاحت عواصف عاتية المكان بجنون لم يشهد مثله من قبل، تحمل بين طياتها غضب السماء المكلومة ودموعها المنهمرة بغزارة، كأن السماء قد استجابت للصراخ المسن.  

استيقظ النورانيون واحد تلو الآخر من سباتهم الأبدي الذين قدموا أرواحهم فداءً للمقام الشريف، أجسادهم مشبعة برائحة المسك والدم وعيونهم تحمل بريقًا غامضًا كأنها ترى ما لا يرى، ويتوهجون بنور لا يرى إلا بعيون الطاهرين، خطواتهم هادئة أشبه بموسيقى السماوية تعزف لحن الوفاء. 

على مقربة من المقام، كان هنالك شاب يرتدي ملابس بسيطة ويمسك بمكنسة بين يديه يمارس طقوساً مقدسة بصمت، بالقرب منه واقفه مجموعة من حماية المقام، ارتجفت عيناه حين لمح ذلك النور يقترب، تساءل بدهشة واستغراب:" من أين جاء هؤلاء الرجال العسكريون الذين يحملون الرايات الحمراء".

سمعه قائد الحماية فتقدم نحوه بحذر، وعيناه ممتلئتان قلقاً وارتباكاً، ألقى نظرة متفحصة حول المكان لكنه لم يجد أحداً، حاول طمأنته قائلاً:" ربما تتوهم بسبب الإرهاق... لا يوجد أحد هنا غيرنا".

لكن الشاب أصر بنبره واثقة مليئة باليقين:" لا، أنظر أليهم جيداً... وجوههم ليست كوجوه البشر، أعينهم تتقد بشجاعة تفوق حدود الحياة، وجراحهم تنبض بشيء غريب لا أستطيع فهمه".

وبينما كان يتحدث، دخل النورانيون الى الصحن الزينبي الشريف في صمت مهيب، واصطفوا حول ضريح السيدة زينب (عليها السلام)، انبعثت من كلماتهم أنوار مضيئة وهم يرددون:" يا مولاتنا ويا سيدتنا، نحن هنا كما كنا دائماً، أرواحنا ونفوسنا فداءً لك... هذا عهدنا: لن تمس هذه الأرض المقدسة ما دامت دماؤنا تحرسها ". 

اضف تعليق