أوصانا رسول الله (ص) بأن نهتدي الى بواطن الكتاب المجيد من {الرَاسِخُون فِي العِلم}، وهم أئمة الهدى من أهل بيته، هذا ما حدا بالإمام الهادي، لأن يقرب المفاهيم الى الأذهان بطريقة منطقية وعقلية لكسب المخاطبين امامه، من العلماء او عامة الناس، ويجعلهم أمام طريقين لا ثالث لهما: إما الحق وإما الباطل...
اهتمت مدرسة أهل بيت رسول الله، صلى الله عليه وآله، بالعلم كأحد الشروط الأساس لشخصية القائد، وخلال قراءتنا لسيرة الأئمة المعصومين، ولاسيما في عهود انبلاج فجر العلم والمعرفة في عهد الامامين الباقر والصادق، عليهما السلام، نجد أن العلم تجلّى في مسارين متوازيين لم ينفصلا طيلة مسيرة حياتهم؛ المسار الأول: العلم الرباني المودع في قلب المعصوم، وما يُسمى بالعلم "اللدنّي" الموهوب من السماء، وهو العلم المتصل بعلوم رسول الله اللامتناهية، والمسار الثاني: العلم الاكتسابي الموهوب للمقربين من الأئمة من الذين امتحن الله قلوبهم للإيمان والصدق والإخلاص، فكانوا جديرين بمرتبة "العلماء"، ومن يصدق عليهم قول رسول الله: "علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل".
العلم على أساس الوحي والعقل
مشكلة الأمة عجزها عن تفهّم قاعدة أساس في عقيدتها، ألا وهي؛ الايمان الغيب، وهي المشكلة النفسية والذهنية المستعصية حتى يومنا الحاضر، مما دفع بالكثير الى تخيّر المذاهب والبدائل الفكرية للوصول الى فهم كافٍ للقرآن الكريم على وجه التحديد، فدخلوا متاهات التأويل والتفسير وفق الرغبات والتصورات الذهنية الخاصة المتأثرة بالظروف السياسية والاجتماعية، بينما أوصانا رسول الله بأن نهتدي الى بواطن الكتاب المجيد من {الرَاسِخُون فِي العِلم}، وهم أئمة الهدى من أهل بيته.
هذا ما حدا بالإمام الهادي الذي نحتفل هذه الأيام بذكرى مولده السعيد، لأن يقرب المفاهيم الى الأذهان بطريقة منطقية وعقلية لكسب المخاطبين امامه، من العلماء او عامة الناس، ويجعلهم أمام طريقين لا ثالث لهما: إما الحق وإما الباطل.
ومنها ما جاء عن الامام الصادق، عليه السلام: "لا جبر ولا تفويض بل منزلةٌ بين المنزلتين، وهي صحة الخلقة (العقل) وتخلية السّرب، والمهلة في الوقت، والزاد قبل الراحلة، والسبب المهيّج للفاعل على فعله"، فقد جزأ الامام الصادق المنزلة بين المنزلتين الى خمسة عناصر من امتلكها وعمل بها نجا.
هنا؛ يتقدم الإمام الهادي، عليه السلام، بإضاءة جديدة بتفسير حديث جدّه الصادق، بأن "صحة الخلقة او العقل"، تعني كمال الخلق، وكمال الحواس، وثبات العقل، والتمييز وإطلاق اللسان بالنطق. أما "تخلية السّرب"؛ فغير مضيّق عليه، بما يضمن حرية التصرف في العمل، مما يعطي الفاعل أن يتحمل نتيجة أعماله، و"المخلّى السرب"؛ هو الذي ليس عليه رقيب يحظر عليه ويمنعه فعله. وأما "المهلة في الوقت"، فهو العمر الذي يمتّع الانسان من حد ما تجب عليه المعرفة –سنّ البلوغ- الى أجل الوقت –الموت-. و"الزاد"؛ الاستطاعة المادية، بمعنى الجدّة والبُلغة التي يستعين بها العبد على ما أمرهالله به، ألا ترى انه –تعالى- قبل عذر من لم يجد ما ينفق، وألزم الحجة كلّ من امكنته البُلغة، أما "الراحلة"؛ للحج والجهاد، و"السبب المهيّج"، فهو النيّة التي هي داعية الانسان الى جميع الأفعال، وحاستها القلب، فاذا قال الرجل قولاً، واعتقد في قوله، دعته النية الى تصديق القول، بإظهار الفعل. (سيرة أهل البيت، تجليات للإنسانية- حسن عباس نصرالله).
وبيّن الإمام الهادي، عليه السلام، للأمة السبيل الى الحقائق النهائية من خلال كتاب الله المجيد، فقد أجاب على سؤال ورده من البلاط العباسي، عن نذر لوالدة المتوكل بأن اذا شفي من مرضه يتصدق بمال كثير، فأراد تحديد المال الكثير، وبعد عجز فقهاء البلاط، أجاب، عليه السلام: "يتصدق بثمانين درهماً، بدليل الآية الكريمة: {لَقَد نَصركُم الله فِي مَواطنَ كَثيرَة}، فعدننا مواطن رسول الله –الغزوات- فبلغت ثمانين موطناً".
ومن نافلة القول، الاشارة الى حقيقة تاريخية وعلمية باهرة للإمام الهادي، عليه السلام، وهي اسبقيته بالتوصل الى نظرية "الرؤية البصرية" التي يحاول البعض أن ينسبها الى العالم المسلم؛ الحسن بن الهيثم (354-430)هـ بينما سبقه اليها الإمام الهادي بحوالي قرنين من الزمن، وكانت البداية من سؤال ورد للإمام عن إمكانية رؤية الخالق، فكتب الإمام الهادي: "لاتجوز الرؤية ما لم يكن بين الرائي والمرئي هواء يُنفذه البصر، فمتى انقطع الهواء و انعدم الضياء، لم تصح الرؤية، وان في اتصال الضياء بين الرائي والمرئي وجوب الاشتباه، والله –تعالى- منزّه عن الاشتباه.
مسألة كيفية رؤية الانسان للأشياء، كانت مثار جدل قديم بين العلماء والفلاسفة منذ القدم، اذ كانوا يعتقدون أن الضوء ينبعث من العين الى الاشياء فيراها الانسان! فجاء الامام الهادي وكشف للبشرية نظرية "اتصال الضياءين: الرائي والمرئي"، وفي نفس اوقت أكد حقيقة عقدية رائعة باستحالة رؤية الله –عزّ وجلّ- لأنه ليس جسماً ينبعث منه الضوء لتراه عين الانسان.
عالم في مرتبة وكيل للإمام المعصوم
مرحلة متقدمة في البناء الثقافي لقيادة الأمة من خلال تخويل الفقهاء والعلماء المقربين حق الافتاء وإدارة شؤون العباد والبلاد مواكبة للتطورات السياسية والاجتماعية عندما امتدت مساحة البلاد الاسلامية الى مناطق بعيدة في الشرق والغرب، أكثر بكثير مما بلغته في عهد أمير المؤمنين –مثلاً- حيث يتحدث المؤرخون انها كانت تضم وفق التقسيمات السياسية اليوم؛ خمسين بلداً، ولنتصور الرقعة الجغرافية للدولة الاسلامية في عهد الامام الهادي بعد مائتي عام، فكان لابد من تغطية معظم المناطق بالقدر الممكن بالوكلاء عن الإمام الهادي، ففي السابق كان ثمة اشخاص موثوقين يأتون بالحقوق الشرعية من البلاد الاسلامية الى الأئمة المعصومين في العهود الماضية، بينما في عهد الامام الهادي "أصبح الأمر اكثر دقة وتنظيماً، وبالطبع فان ممارسة الإدارة والقيادة لا تسجل يومياتها تفصيلياً في كتب التاريخ، فالقيادة ليست من الأشياء الت تكتب او تبقى آثاراها بشكل عيني امامنا، انما هي عبارة عن مجموعة اعمال ومهمات يجب ان نقيسها ونحكم عليها من خلال نتائجها التي تمثلت في نمو وانتشار الحركة الرسالية". (التاريخ الاسلامي- المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي).
هذه المهمة الرسالية والحضارية أداها الامام الهادي بأحسن ما يكون وهو ملازماً قبر جدّه المصطفى في المدينة المنورة "مما أكسبه حب الناس، فكان يغذي علماءهم بعلمه، ويحسن الى فقرائهم"، لتبقى المدينة مصدر إشعاع علمي ورسالي على خطى الأئمة الهداة المعصومين منذ أمير المؤمنين، و إن حصل أن غادروا هذه البقعة المباركة، فالسبب في ضغوط سياسية من الحكام تفرض عليهم الرحيل واتخاذ مواطن اخرى للسكُنى، ثم لتتحول الى مراقد ومزارات تستأنف عملية الضخ المعنوي لأبناء الأمة، بل وحتى للعالم أجمع، كما لاحظنا في التاريخ المعاصر.
وهذا ما يخشاه الحكام، منذ العهد العباسي، وحتى يومنا هذا، فالمحاولات جارية على قدم وساق دون توقف لفصل الأئمة المعصومين، عليهم السلام، عن سلوك وحياة وفكر المسلمين بشكل عام، وشيعتهم بشكل خاص بمختلف الطرق والاساليب، حتى الاغتيالات؛ فانها كانت جسدية في عهد الأئمة، واليوم نراها معنوية.
اضف تعليق