q
العرب كانوا يفهمون القرآن من ظواهره، ولو كان القرآن من قبيل الألغاز لم تصحّ مطالبتهم بمعارضته، ولم يثبت لهم إعجازه؛ لأنّهم ما كانوا يستطيعون فهمه. لقد استوعب المسلمون الأوّلون معاني كثير من الآيات وفهموها بمجرد نزولها عليهم باستثناء آيات معينّة سألوا النبي (ص) عنها...

هل يجوز لنا التدبُّر في القرآن؟

لكي نجيب على هذا السؤال، لا بد أن نعود إلى مصادر الإسلام النقية، ونستخرج منها الإجابة الحاسمة.

-1-

 عندما نلقي نظرة سريعة على القرآن الكريم، نجد فيه دعوة صريحة إلى التدبُّر في آياته.

1- في البداية يؤكُّد القرآن أنَّ الهدف من نزوله هو أن يتدبّر الناس فيه، فيقول: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ}(1).

ذلك لأنّ التدبر هو الطريق الطبيعي للعمل بما جاء في القرآن الكريم، إذن، فمن الطبيعي أن يعتبر (التدبر) الهدف المبدئي لنزول القرآن.

2- وفي سبيل الوصول إلى هذه الغاية، جعل الله القرآن كتاباً ميّسراً للفهم وفي هذا المجال يقول القرآن: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}(2)؟.

ولأهمية هذا الأمر يكرر القرآن هذه الآية الكريمة في سورة (القمر) أربّع مرات، ويقول: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}(3).

ويقول: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا}(4).

3- والقرآن ليس - فقط- يدعو الناس إلى التدبر في آياته، وإنّما يطلب منهم أن يمارسوا التدبّر العميق أيضاً، كما نفهم ذلك من قوله سبحانه: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ}. {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا}(5).

قال العلامة الطباطبائي في الميزان: «الآية تحضيض في صورة الاستفهام. والتدبّر هو أخذ الشيء بعد الشيء، وهو في مورد الآية التأمّل في الآية عقيب الآية، أو التأمّل بعد التأمّل في الآية [الواحدة]، لكن لمّا كان الغرض بيان أنّ القرآن لا اختلاف فيه، وذلك إنما يكون بين أزيد من آية واحدة كان المعنى الأوّل، أعني: التأمّل في الآية عقيب الآية هو العمدة، وإن كان ذلك لا ينفي المعنى الثاني أيضاً.

فالمراد ترغيبهم أن يتدبروا في الآيات القرآنية، ويراجعوا في كل حكم نازل، أو حكمة مبيّنة، أو قصّة أو عظة أو غير ذلك، في جميع الآيات المرتبطة به ممّا نزلت، مكّيها ومدنيّها، ومحكمها ومتشابهها، ويضمُّوا البعض إلى البعض حتى يظهر لهم أنه لا اختلاف بينها.

فالآيات يصدّق قديمها حديثها، ويشهد بعضها على بعض، من غير أن يكون بينها أيّ اختلاف مفروض: لا اختلاف التناقض بأن ينفي بعضها بعضاً أو يتدافعا، ولا اختلاف التفاوت بأن تتفاوت الآيتان من حيث تشابه البيان، أو متانة المعاني والمقاصد.

«فارتفاع هذه الاختلافات من القرآن يهديهم إلى أنه كتاب منزل من الله، وليس من عند غيره..»(6).

وإذا لاحظنا:

أ- أن هذه الآية نزلت في (المنافقين) و(المتردّدين)- كما يظهر من الآيات السابقة.

ب- أنها تدعو هؤلاء إلى التدبّر في القرآن؛ حتى يطمئنوا بأنه من عند الله ويزول بذلك نفاقهم وتردُّدهم.

جـ- أن كشف عدم (الاختلاف) وعدم (التناقض) بين الآيات القرآنية المختلفة يحتاج إلى تدبُّر عميق، وتأمُّل كبير.

لو لاحظنا ذلك لوجدنا أنّ القرآن يفتح للناس أبواب (التدبّر الذاتي) في قضية عميقة من القضايا القرآنية، وليس هذا فقط، بل وأنه يدعوهم إلى ذلك!.

4- ثم يؤكّد القرآن أنّ هنالك (أقفالاً معينة) تغلق قلوب البشر، وتصرفهم عن التدبّر في آياته، ويقول: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ}؟ {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}(7)؟.

ولكن، ما هي هذه الاقفال؟!

إنّها أقفال الجهل، والهوى، والتهرّب من المسؤوليات الثقيلة!(8).

وكما كانت هذه الأقفال قديماً فهي موجودة حديثاً، ولكن بصورة جديدة، وأشخاص جدد، وشعارات جديدة!.

وعلينا أن نحطّم هذه الأقفال ونفتح قلوبنا أمام نور الله المضيء، عن طريق التدبّر في الآيات القرآنية الكريمة(9).

-2-

 وعندما نعود إلى الروايات نجدها تؤكّد المعنى ذاته(10).

أ- فهي تأمر بالتأمل في القرآن الكريم، من أجل استخراج معارفه وكنوزه الدفينة.

ففي الحديث المروي عن النبي (صلى الله عليه وآله): أعربوا القرآن(11) -أي: أحكموا إعراب أواخر الكلمات والجمل- والتمسوا غرائبه -أي: تأمّلوا فيه، وتفهّموا معانيه الغريبة-.

وفي الكافي عن علي بن الحسين (عليه السلام) أنّه قال: «آيات القرآن خزائن، فكلّما فتحت خزينة ينبغي لك أن تنظر ما فيها».

ب- ومن أجل ذلك ورد الأمر بترتيل القرآن؛ لأنّه أقرب إلى التركيز والتأمُّل.

فقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً}: «بيّنه تبييناً ولا تهذه هذ الشعر، ولا تنثره نثر الرمل، ولكن، أفزعوا قلوبكم القاسية، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة»(12).

فالهذ سرعة القراءة، ونثر الرمل هو التباطي فيها بحيث لا ترتبط كلماتها، والتدبّر في كلمات القراءة هو التأمل في الآيات، والتدبر في كلمات الله.

وعن الإمام الصادق (عليه السلام): {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً}: «قف عند وعده ووعيده، وتفكّر في أمثاله ومواعظه».

جـ- وتعطينا الروايات نماذج عملية في هذا المجال:

فعن الإمام الصادق (عليه السلام): «كان أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله) يقرأ أحدهم القرآن في شهر واحد أو أقلّ، إنّ القرآن لا يقرأ هذرمة، ولكن يرتّل ترتيلاً، فإذا مررت بآية فيها ذكر الجنّة فقف عندها واسأل الله الجنة، وإذا مررت بآية فيها ذكر النار فقف عندها، وتعوّذ بالله من النار».

وجاء في حديث آخر أنّ الإمام الرضا (عليه السلام) كان يقرأ القرآن في فترة غير قصيرة، وعندما سئل عن ذلك أجاب: «ما مررت بسورة إلاّ فكرت في مكّيها ومدنّيها، وعامّها وخاصّها، وناسخها ومنسوخها».

د- ونجد في بعض الروايات دعوة ضمنية إلى التدبّر في آيات القرآن واستنباط الأحكام والقيم الإسلامية منها -لمن كان من أهله-.

فعن الكافي والتهذيب والاستبصار - عن عبد الأعلى مولى آل سام، قال:

«قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): عثرت فانقطع ظفري، فجعلت على إصبعي مرارة(13) فكيف أصنع بالوضوء؟

قال (عليه السلام): يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عزَّ وجل، قال الله عزَّ وجل: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} امسح عليه(14).

والمفهوم من قول الإمام (عليه السلام): «يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عزَّ وجل» هو أنّ هذا الأمر لا يحتاج إلى السؤال.

علماً بأنّ استخراج هذا الحكم يحتاج إلى التأمّل؛ ذلك لأنّ الآية الكريمة تدل على عدم وجوب مسح الرجل مباشرة؛ لأنه حرج فيدور الأمر -في النظرة الأولية- بين سقوط المسح رأساً، وبين بقائه، لكن مع سقوط شرط مباشرة الماسح للممسوح.

إذن، فالآية بظاهرها لا تدّل على لزوم المسح على المرارة، لكنّ التأمّل الدقيق يقضي بأنّ المسح -بما هو مسح- لا حرج فيه، وإنما الموجب للحرج هو اشتراط (المباشرة) في المسح.

إذن، فالمنفي في الآية الكريمة هو (المسح المباشر) وليس (أصل المسح). ولذلك فالمفروض في هذه الحالة المسح على الإصبع المغطاة(15).

وهنا يجدرُ بنا أن نشير إلى كلمة (وأشباهه) في قول الإمام (عليه السلام): «يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عزَّ وجلَّ».

فالإمام (عليه السلام) لم يقصر الحكم على هذه الآية الكريمة، وإنّما سحب الحكم إلى كافة الآيات القرآنية المشابهة.

وهكذا نجد الإمام (عليه السلام) يدعو أصحابه إلى التأمّل في الآيات القرآنية واستنباط المفاهيم والأحكام الدقيقة منها.

هذا كله بالإضافة إلى:

1- أنّ القرآن هو رسالة الله إلى الإنسان كما قال سبحانه:

{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ}(16).

{هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ}(17).

ومن الطبيعي أن تكون الرسالة متناسبة مع فهم المرسل إليه.

2- القرآن يصدّر خطاباته -عادة- بكلمة {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} أو {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} أو ما أشبه. وليس صحيحاً أن يوجّه أحد الخطاب لمن لا يفهم من كلماته شيئاً.

3- القرآن نزل حجّة على الرسالة، وقد تحدّى النبي (صلى الله عليه وآله) البشر أن يأتوا بسورة من مثله.

ومعنى ذلك: أنّ العرب كانوا يفهمون القرآن من ظواهره، ولو كان القرآن من قبيل الألغاز لم تصحّ مطالبتهم بمعارضته، ولم يثبت لهم إعجازه؛ لأنّهم ما كانوا يستطيعون فهمه.

4- لقد استوعب المسلمون الأوّلون معاني كثير من الآيات وفهموها بمجرد نزولها عليهم -باستثناء آيات معينّة سألوا النبي (صلى الله عليه وآله) عنها- ولم يتعاملوا يوماً مع آيات القرآن تعاملهم مع الأحاجي والألغاز.

وفي ختام هذا الفصل ينبغي أن نشير إلى نقطة هامّة وهي: إنّ الأستنباط من آيات الأحكام ونحوها يتوقّف على خُبرويّة معيّنة لا تحصل إلا ببلوغ الإنسان مرحلة (الإجتهاد). فالتدبّر في هذه الآيات يكون وقفاً على (المجتهدين) بالطبع. أمّا التدبّر في الآيات الأُخرى فهو أمر مفتوح لغيرهم أيضاً. وسنفصّل الكلام في هذه النقطة في البحوث القادمة بإذن الله.

* مقتطف من كتاب: (التدبر في القرآن) لمؤلفه آية الله السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي

.................................

(1) ص: 29.

(2) القمر: 17.

(3) الدخان: 58.

(4) مريم: 97.

(5) النساء: 82.

(6) الميزان 5: 19.

(7) محمد: 24.

(8) أشار القرآن إلى هذه «الأقفال» في الآيات السابقة فقال: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ}. محمد: 16.

{فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ}. محمد: 20.

(9) قال الطبرسي في مجمع البيان 9: 303: (.. وفي هذا دلالة على بطلان قول من قال: لا يجوز تفسير شيء من ظاهر القرآن إلا بخبر وسمع).

(10) هذه الروايات- وإن لم تكن متواترة لفظاً- إلاّ أنه لا يبعد ادّعاء كونها متواترة معنىً، أمّا التواتر الإجمالي فيها فهو أمر مفروغ عنه.

(11) مستدرك الوسائل 4: 372، وفيه: (أعربوا القرآن، والتمسوا غرائبه).

(12) الكافي 2: 614؛ البرهان 5: 517.

(13) المرارة شحمة شبه كيس، لازقة بالكبد، تكون فيها مادة صفراء هي المِرّة. راجع: النهاية في غريب الحديث 4: 316.

(14) بحار الأنوار 2: 277.

(15) هكذا أفاده العلامة المحقق الشيخ مرتضى الأنصاري -رضوان الله عليه- في مبحث (حجية ظواهر الكتاب) من كتابه القيم (فرائد الأصول).

(16) البقرة: 185.

(17) آل عمران: 138.

اضف تعليق