ربما كان للثقب ساجيتاريوس إيه ستار نفثات كبيرة فيما مضى، وفقًا لما تشير إليه سُحُب من المادة المسخَّنة، الموجودة فوق مركز المجرة، وتحته. وستكون نفثاته الآن أضعف بكثير، لكن وجودها قد يكشف تفاصيل هامة عن تاريخ مجرتنا، يمكن لهذه الدفقات أن تثبِّط تكوين النجوم، أو أن تحفِّزه...
بقلم: ديفيديه كاستلفيكّي
التقط علماء الفلك الراديوي صورةً للثقب الأسود فائق الضخامة الموجود في مركز مجرة «درب التبانة». هذه هي المرة الثانية التي تُلتقط فيها صورة مباشرة لثقبٍ أسود، بعد الصورة الأولى – والتاريخية – التي تمكَّن الفريق نفسه من التقاطها لثقبٍ أسودَ أبعدَ بكثير، وأزاح عنها الستار في العام 2019.
تُظهر النتائج التي طال انتظارها، والتي نشرتها تعاونية «تلسكوب أفق الحدث» Event Horizon Telescope في الثاني عشر من مايو الجاري، صورةً تُذكرنا بسابقتها: حلقة من الإشعاع تحيط بقرص مظلم، حجمه مطابِق تمامًا لما تنبَّأت به عمليات الرصد غير المباشر، ونظرية النسبية العامة التي وضعها ألبرت آينشتاين.
في مؤتمر صحفي عُقد في بلدة جارشنج الألمانية، قالت سارة إسّاون، عالمة فيزياء الفلك بمركز هارفارد-سميثسونيان للفيزياء الفلكية، ومقرُّه مدينة كامبريدج بولاية ماساتشوستس الأمريكية: "اليوم، وفي هذه اللحظة، أصبح لدينا دليل مباشر أن هذا الجسم ثقبٌ أسود". وكان الفريق قد نشر النتائج التي توصَّل إليها في عدد خاص من دورية «ذي أستروفيزيكال جورنال ليترز» The Astrophysical Journal Letters. (K. Akiyama et al. Astrophys. J. Lett. 930, L12; 2022.)
وقالت كيتي بومان، العضوة السابقة بفريق «تلسكوب أفق الحدث»، والباحثة في مجال التصوير الحاسوبي بمعهد كاليفورنيا للتكنولوجيا في باسادينا، في مؤتمر صحفي عُقد في واشنطن: "منذ زمن طويل ونحن نُعِدُّ لهذا الاكتشاف. عليك أن تقرص نفسك بين الفينة والأخرى لتتذكر أن هذا هو الثقب الأسود القابع في قلب مجرَّتنا".
تلسكوب بحجم كوكب
على مدار خمس ليالٍ من شهر إبريل عام 2017، استعانت تعاونية «تلسكوب أفق الحدث» بثمانية مراصد موزَّعة في مختلف أنحاء العالم لتجمَع بيانات من الثقب الأسود لمجرة «درب التبانة» - الذي أطلق عليه العلماء اسم «ساجيتاريوس إيه ستار» Sagittarius A* نسبةً إلى الكوكبة التي اكتُشف فيها – وكذا من الثقب الأسود M87*، الذي يتوسط المجرة M87.
توزَّعت مواقع المراصد على مناطق شتَّى، من إسبانيا إلى القطب الجنوبي، ومن تشيلي إلى هاواي (انظر: جهدٌ عالمي).
كشف الباحثون النقاب عن الصورة التي التقطوها للثقب الأسود M87* عام 2019، مقدِّمين بذلك أول دليل مباشر على وجود «أفق الحدث»، أي السطح الكروي الذي يكتنف باطن الثقب الأسود.
لكن تحليل بيانات «ساجيتاريوس إيه ستار» كان أشد صعوبة. للثقبين الأسودين نفس الحجم الظاهري في السماء تقريبًا؛ صحيحٌ أن الثقب الأسود M87* أكبر من «ساجيتاريوس إيه ستار» بنحو 1600 مرة، إلا أنه أبعد منه بنحو ألفي مرة. زِد على ذلك أن تكتلات المواد التي تدور حول الثقب الأسود M87* - أيًا ما كانت طبيعتها – تقطع مسافات أكبر بكثير (أكبر من مدار بلوتو حول الشمس)، كما أن أي إشعاع تُصدره يعد من الناحية العملية ثابتًا خلال نطاق زمني قصير، خلافًا للثقب الأسود «ساجيتاريوس إيه ستار»، الذي قد يتغير بسرعة، حتى في غضون الساعات القليلة التي يرصده فيها «تلسكوب أفق الحدث» كل يوم.
ويقول عالم الفيزياء الفلكية هاينو فالكي، من جامعة رادباود في نايميجن بهولندا، وأحد مؤسسي تعاونية «تلسكوب أفق الحدث»: "في حالة الثقب الأسود M87*، كان يمرُّ أسبوعٌ كامل ولا نلحظ إلا تغيرًا طفيفًا جدًا؛ أما «ساجيتاريوس إيه ستار»، فإن شكله يتغير في غضون 5 دقائق إلى 15 دقيقة".
ولأن شكل «ساجيتاريوس إيه ستار» يتغيَّر بهذه السرعة، حرص العلماء على ألا ينتجوا له صورةً واحدة، بل آلاف الصور. قال خوسيه جوميز، الباحث في معهد الأندلس للفيزياء الفلكية في غرناطة بإسبانيا، وأحد أعضاء الفريق: "عن طريق حساب متوسطات البيانات المستمَدة من هذه الصور جميعًا، يمكننا أن نتحقق من السمات المشتركة".
وبالإضافة إلى حلقة الإشعاع التي تحيط بقرص مظلم، أظهرت الصورة الناتجة أيضًا ثلاث "عُقَد" ساطعة. تقول إسّاون: "نرى عُقَدا في جميع الصور التي ننتجها"، لكن مكانها كان مختلفًا في كل صورة. وأضافت أن هذه العُقَد تمثل – على الأرجح – عيوبًا ناتجة عن طريقة قياس التداخل التي استخدمها الباحثون.
يختلف هذا الثقب الأسود في شكله عن الثقب M87*، الذي كانت المنطقة الساطعة في صورته تتخذ شكل التربيع القمري (نصف بدر)، مما قد يدل على وجود تكتلات أكثر كثافة تتسارع، على امتداد خط البصر.
وباستخدام حاسوب فائق، أجرى الفريق عمليات محاكاة، ليقارنوا بياناتهم مع نتائجها، وخلصوا إلى أن «ساجيتاريوس إيه ستار» يدور على الأغلب في عكس اتجاه دوران عقارب الساعة، حول محورٍ يكاد أن يشير على امتداد خط البصر صوب الأرض، وفقًا لجوميز.
تقول ريجينا كابوتو، عالمة فيزياء الفلك بمركز جودارد لرحلات الفضاء، التابع لوكالة ناسا، والواقع في جرينبيلت بولاية ميريلاند: "ما يدهشني حقا أننا نراه من الوجهة المقابلة مباشرة". كان «تلسكوب فِيرْمي الفضائي الراصد لأشعة جاما» Fermi Gamma-ray Space Telescope، الذي يتبع وكالة ناسا أيضًا، والذي تعمل به كابوتو، قد رصد في وقت سابق أشكالًا وهَّاجة هائلة الحجم أعلى مركز المجرة، وأسفل منه، لا يبعُد أن تكون قد تولَّدَتْ عن الثقب «ساجيتاريوس إيه ستار» خلال فترات نشاط عارم في الماضي. لكنَّ هذه الأشكال، التي يُطلق عليها «فقاعات فيرمي» Fermi bubbles، تتطلب، على ما يبدو، أن تدور المادة حول الثقب الأسود في دوامات حول الثقب الأسود حين يُنظر إليه من الأجناب، لا من المواجهة كما يُرى من الأرض.
ظهرت أولى الإشارات الدالة على وجود الثقب الأسود «ساجيتاريوس إيه ستار» في سبعينيات القرن المنصرم، حين اكتشف علماء الفلك الراديوي مصدرًا للموجات الراديوية، أشبه ما يكون بنقطة تقع في مركز المجرة.
تبيَّن أن هذا المصدر معتم على غير العادة؛ أعتم من أن يكون نجمًا عاديًا. ورغم ذلك، فقد ثبت من عمليات رصد حركة النجوم المجاورة، الممتدة لعقود، أن ذلك الجسم هائل للغاية: فبالاعتماد على أحدث النتائج المرصودة، تمكن العلماء من حساب أن كتلته، التي تبلغ 4.15 مليون كتلة شمسية، مع هامش خطأ بالنقص أو الزيادة مقداره 0.3%. تمدنا هذه الحسابات، التي أجريت عن طريق تتبُّع طريقة دوران النجوم حول «ساجيتاريوس إيه ستار»، بدليل قاطع على أن مصدر تلك الموجات الراديوية من ضخامة الحجم والكثافة بحيث لا يمكن إلا أن يكون ثقبًا أسود.
الجدير بالذكر أن الثقب الأسود «ساجيتاريوس إيه ستار»، من الناحية العملية، غير مرئي للتلسكوبات البصرية؛ بسبب الغبار والغاز اللذَين يغلِّفان القرص المجرّي. لكن بدايةً من أواخر تسعينيات القرن الماضي، أدرك فالك وآخرون أن ظل الثقب الأسود قد يكون كبيرًا بما يكفي لتصويره بموجات الراديو القصيرة التي تستطيع أن تنفُذَ من ذلك الغلاف. إلا أن العلماء قدَّروا أن ذلك سيتطلب تلسكوبًا بحجم كوكب الأرض. ولحسن الحظ، ثمة تقنية تدعى قياس التداخل، يمكن أن تساعد العلماء في مسعاهم ذاك. تعتمد التقنية على توجيه عدة تلسكوبات متنائية إلى جسم واحد في الوقت ذاته، لتعمل التلسكوبات عمليًا كما لو كانت قِطعًا من صحن واحد كبير.
أولى محاولات رصد «ساجيتاريوس إيه ستار» بواسطة قياس التداخل اعتمدت على موجات راديو يبلغ طولها الموجي 7 ملّيمترات، وهذا طويل نسبيًا، كما كانت المراصد تبعُد بعضها عن بعض بضعة آلاف الكيلومترات. وهكذا، لم يتسنَّ للباحثين إلا أن يروا بقعة مغبَّشة.
ثم كان أن اجتهدت الفِرَق المختلفة في جميع أنحاء العالم لتحسين أساليبهم، وأعادوا تجهيز المراصد التي أضيفت للشبكة. وعلى وجه التحديد، سخَّر الباحثون «تلسكوب القطب الجنوبي»، و«مصفوفة تلسكوب أتاكاما المليمتري/دون الملّيمتري الكبير»، المُقام في تشيلي، وتكلَّف إنشاؤه 1.4 مليار دولار أمريكي، لأداء هذه المهمة.
وفي عام 2015، وحَّدت المجموعات البحثية جهودها لتشكل ما يعرف بتعاونية «تلسكوب أفق الحدث». شاركت تلك المجموعات في حملةٍ مشتركة للرصد الفضائي في 2017، وكانت أول حملة رصد تشمل مراصد على مسافة كافية لتبيان تفاصيل جُرم بحجم «ساجيتاريوس إيه ستار».
خطط مستقبلية
جمع فريق «تلسكوب أفق الحدث» بيانات أكثر في 2018، لكنه ألغى حملات الرصد التي كانت مقررة في عامي 2019 و2020. ثم استأنف الرصد في عامي 2021 و2022، مزوَّدةً بشبكة محسَّنة، ومعدات أكثر تعقُّدًا.
يقول ريمو تيلانوس، عضو الفريق بجامعة أريزونا في توسان، أن آخر عمليات رصد أجراها الفريق، في شهر مارس الماضي، سجلت إشارات بضعف معدل الإشارات المسجَّلة في عام 2017، وأغلبها عند طول موجي يبلغ 0.87 ملّيمترًا، ما قد يسهم في زيادة دقة الصور الناتجة.
يأمل الباحثون في اكتشاف ما إذا كان للثقب الأسود «ساجيتاريوس إيه ستار» نفثات، أم لا؛ إذ يظهر لكثير من الثقوب السوداء، بما فيها M87*، شعاعان من المادة، ينقذفان إلى الخارج بسرعة في اتجاهين متقابلين، ويُعتقد أنها تنتُج عن التسخين الشديد للغاز الذي يهوي نحو الثقب الأسود، ويدفعها دورانه المغزلي. ربما كان للثقب «ساجيتاريوس إيه ستار» نفثات كبيرة فيما مضى، وفقًا لما تشير إليه سُحُب من المادة المسخَّنة، الموجودة فوق مركز المجرة، وتحته. وستكون نفثاته الآن أضعف بكثير، لكن وجودها قد يكشف تفاصيل هامة عن تاريخ مجرتنا.
يقول فالك: "يمكن لهذه الدفقات أن تثبِّط تكوين النجوم، أو أن تحفِّزه، ويمكنها أن تدفع العناصر الكيميائية في جميع الأنحاء"، وأن تؤثر في تطور مجرة بأكملها. وأضاف: "نحن الآن ننظر إلى حيث يحدث كل هذا".
اضف تعليق