الإيمان بالله ليس هروبًا من التفكير بل ثمرة التفكير، ونهاية رحلة العقل حين يُخلص في النظر، ويتجرد من الأهواء. وما من سبيل إلى الطمأنينة الحقة، ولا إلى فهم الغاية من الوجود، إلا بفتح القلب والعقل معًا لهذا النداء الأزلي: إن للكون خالقًا، وللحياة غاية، وأننا لسنا نتاج صدفة، بل مخلوقات لمعنى...

من خلق الكون؟

ظلَّ هذا السؤال العميق يطرق وجدان الإنسان منذ فجر وعيه بذاته، حين رفع بصره إلى السَّماء متسائلًا، وتأمَّل في صمت ذلك النِّظام البديع الذي ينسج تفاصيل الكون حوله بخيوط من الدقَّة والاتِّساق. 

إنَّه سؤال يتجاوز حدود الأعمار والمراحل، غير أنَّ الشَّباب –بما يحملونه من يقظة فكريَّة، ونزوع فطري إلى التفكُّر، وجرأة في مساءلة المألوف– كثيرًا ما يقفون أمام مفترق حاسم:

هل نحن وُجدنا لغاية، وخُلقنا بقصد، ويحكم وجودنا إله عليم خبير كما يعتقد أهل الإيمان؟

أم أنَّ فكرة الإله ليست سوى انعكاس لمخاوف الإنسان الأولى، حين واجه الرَّعد والبرق والموت فهرب إلى السَّماء طالبًا الطَّمأنينة، فخلق في ذهنه صورة "الخالق" ليُسكت بها رعبه من المجهول؟

لكنَّ العقل الحر، إذا تحرر من أَسر العادات وسطحيَّة التصورات، لا يكتفي بإجترار الموروث ولا بردود الفعل الوجوديَّة المنفعلة؛ بل يشق طريقه إلى لُبِّ المسألة، متسائلًا:

هل من المعقول أن يقوم هذا الكون الفسيح، بهذا الانسجام الباهر، من دون قصد سابق؟

هل يمكن أن ينبثق العقل والوعي والإرادة من مادة صمَّاء لا تعقل ولا تريد؟

أليس من البداهة أنَّ النظام يدلُّ على ناظم، وأنَّ الحياة –في تعقيدها وجمالها– تنطق بوجود من أودع فيها هذه الروح؟

هنا، لا يعود السؤال مجرَّد جدل نظري؛ وإنَّما يتحوَّل إلى نداء داخلي يهمس في ضمير الإنسان:

من أين جئت؟

 ولماذا وُجدت؟

 وإلى أين المصير؟

وما دمت قادرًا على طرح هذه الأسئلة، أليس ذلك في حدِّ ذاته علامة على أنَّك مخلوق لمعنى، لا عبث؟

إنَّ الجواب، من حيث المبدأ العقلي والفطرة السليمة هو أقرب إلى البساطة العميقة، التي تُطمئن القلب، وتلامس موطن اليقين في النَّفس، وليس بذلك الغموض أو التَّعقيد الذي يتصوره كثيرون. غير أنَّ هذا الجواب كثيرًا ما يُحجب عن القلوب والعقول، ويُلبس ثوب التَّعقيد، من جهتينِ متقابلتينِ:

من جهة بعض المؤمنين الذين يظنون أنَّ الدِّفاع عن الإيمان لا يكتمل إلَّا بالخوض في دهاليز الفلسفة وتعقيدات الجدل، فيغرقون في تفريعات المنطق وتراكم المصطلحات، حتَّى تُنسى بداهة الحقِّ، ويضيع نوره وسط الزِّينة اللفظيَّة. ويغفلون عن أنَّ الحقيقة الصافية لا تحتاج سوى لمن ينفض عنها غبار الغفلة؛ فالنور لا يُزخرف ليُرى؛ ولكن يحتاج إلى عين صادقة تُبصره، وقلب حيٍّ يستقبله.

ومن جهة بعض الملاحدة الذين يتوسَّلون بالمغالطات المنطقيَّة، أو يُثيرون الشبهات العاطفيَّة واللغويَّة، ليُضفوا على إنكارهم طابعًا عقلانيًا، وهم في الحقيقة لا ينقضون برهانًا بقدر ما يلتفون حوله، ولا يواجهون الحجَّة بقدر ما يهربون من ضوئها، خشية الاعتراف بما يدلُّ عليه العقل والفطرة: أنَّ لهذا الوجود خالقًا، وأنَّ لهذا النظام منظِّمًا، وأنَّ للحياة معنى يتجاوز العمى المادِّي.

ومع ذلك، فإنَّ الحقيقة لا تُهزم بزخرف القول، ولا تُطمس بزينة البيان، ولا يخدش صفاءها الجدلُ مهما عَلا صوته؛ فهي متينة في ذاتها، مغروسة في أصل فطرة الإنسان، تستند إلى بداهات العقل كما تستند الشجرة إلى جذرها، لا تهزُّها الرياح وإن اشتدت، ولا تُغيِّبها العواصف وإن علت.

إنَّ من أبجديات العقل السليم أن يُقرَّ بأنَّ كلَّ حادث لا بدَّ له من محدث، وأنَّ كلَّ نظام متقن لا بدَّ أن يقف خلفه منظِّم حكيم. وهذه بدهيات لا يماري فيها عاقل، مهما بلغ من الذَّكاء أو أحاطته النظريات. حتَّى أولئك الذين يتكئون على مفاهيم كالتطور أو الصدفة لا يسعهم إنكار أنَّ وجود "قوانين" دقيقة تحكم حركة الكون، وتضبط سير النجوم، وتنسِّق علاقات الطبيعة، ويفترض – بالضرورة – وجود مشرّع لهذه القوانين، ومرجع أعلى سنَّها وضبطها بهذا الإحكام البديع.

ولو التفتنا إلى أنفسنا، لوجدنا أنَّ داخل الإنسان ما هو أعجب من عجائب الكون الخارجي. وأنَّ في أعماق النفس توقٌ دائم نحو الجمال، وحنينٌ خفي إلى العدالة، واستشعارٌ للخير والشر لا يُكتسب من التجربة وحدها، وكأنَّه مغروس في كياننا منذ فجر الوعي.

 فمن أين جاء هذا الضمير الذي يوقظنا حين نخطئ، ويبعث فينا الطمأنينة حين نُحسن؟

 من أين جاء هذا الإحساس الدَّاخلي بأنَّ للحياة معنى، وأن للمواقف قيمة، وأن للأفعال وزنًا يتجاوز المنفعة أو الضرر؟

أليس هذا التوجه الفطري نحو السمو دليلًا على أنَّ الإنسان لم يُخلق ليكون مجرَّد كائن مادي خاضع لقوانين الفيزياء والكيمياء فقط، وإنَّه يحمل في داخله شعلة من نور، تدلُّه على وجودٍ أعلى، وغاية أسمى، ومصدرٍ للخير يتجاوز حدود العالم المحسوس؟

إنَّ العقل الصادق مع ذاته، والفطرة النقيَّة إذا أُتيح لها أن تتكلَّم، لا تملك إلَّا أن تشير نحو خالق عليم، حكيم، رحيم، هو أصل الوجود، ومصدر القيم، ومنبع هذا التوق الإنساني إلى ما هو أسمى من المادة.

إنَّ وجود الله (تعالى)، إذًا، هو الحقيقة الأعظم، والتفسير الأوفى لسرِّ الوجود، ولغز النظام؛ هو الجواب الذي تتقاطع عنده إشارات العقل، وهمسات القلب، وفطرة الإنسان السليمة التي لم تعتلّها شوائب الغفلة ولا ضجيج الفلسفات العابرة.

هو أقرب إلى البداهة من كلِّ الطروحات التي تزعم تفسير الكون من دون خالق، والتي تحاول عبثًا أن تُخرج النظام من قلب الفوضى، والغاية من قلب العدم، والعقل من غير قصد، وكأنَّها تطلب الماء من السَّراب، أو تبني فوق الوهم جسرًا للنجاة.

سل فطرتك يا من تنكر الخالق العظيم قبل أن تستعرض الفرضيات، وانظر بعين العقل لا بهوى التكرار: هل رأيت بناءً شامخًا قام بغير مُخطط، أو آلةً دقيقة دارت بغير مبدع؟

 من ذا الذي يصدِّق أنَّ الحجارة تصطفُّ وحدها، وتُحكم زواياها، وتُقام الجدران وتُوضع الأبواب، ثم يُقال: هذا محض مصادفة!

خذ مثالًا أيسر: هذه الساعة التي تضعها في معصمك، أيمكن أن تُخلق من غير صانع؟

 قلمك، هاتفك، مفتاحك... أيمكن أن تُوجد بلا يدٍ عاقلة تُصمِّمها، وتعرف وظيفتها، وتُحسن مواضع أجزائها؟

فكيف إذا ارتفعت ببصرك إلى ما فوقك؟

 إلى هذا الكون الواسع الذي تجري أفلاكه في مسارات لا تختلّ، وتدور كواكبه في توافق عجيب، وتتعاقب فيه الفصول وتتناغم فيه الدورات؟

 كيف بالشَّمس التي تبعث الدفء والنور، والقمر الذي يُهدي السُّرى، والنجوم التي تُرصِّع السماء وتُعين على الاتجاه؟

 كيف بالسحب التي تحمل الماء، والرياح التي تُسيِّرها، والجبال التي تُرسّي الأرض، والماء الذي يسقي النبات، والنبات الذي يُطعِم الحيوان؟

وكيف بالإنسان ذاته، وهو أعجب الموجودات؟ عقلٌ يُفكّر، وضميرٌ يُحاسب، وقلبٌ يشعر، روحٌ تتطلَّع إلى ما وراء المادة، وتسأل عن الأصل والمصير.

أفيكون كلُّ ذلك صدفة؟

 وهل الصدفة تُبدع الإتقان؟

 وهل العدم يُنشئ المعنى؟!

إنَّ القول بوجود خالق حكيم هو قناعة يولدها العقل الحرُّ، وتغذِّيها الفطرة النقية، وتُثبّتها شواهد الوجود في كلِّ ذرة وكلِّ حركة وكلِّ قانون؛ إنِّه الإيمان الذي يشرح الصدر، ويهدي السعي، ويمنح الحياة معناها الذي تتعطَّش إليه الأرواح.

كلُّ ذرة في هذا الكون تنطق بلغة لا تخطئها الفطرة، وتشير بإصرار إلى حقيقة جليَّة: إنَّ هناك نظامًا محكمًا، وأن وراء هذا النظام خالقًا أعظم، وإرادة لا يعتريها العبث ولا يعصف بها الصدفة.

انظر في حركة الكواكب، كيف تسير في مداراتها بدقة لا تُخطئ، وكيف تتعاقب الفصول بنظام لا يختل، وكيف تتوازن المنظومات البيئية في أدقِّ تفاصيلها؛ من دوران الماء في الطبيعة، إلى التنفس في الكائنات، إلى هندسة الخلية التي تُبهر العقول. 

إننا لا نتحدث عن مشاهد مبعثرة؛ بل عن قوانين صارمة، دقيقة، تحكم الأشياء منذ نشأتها إلى فنائها، وكأنَّما يد خفية تمسك بكلِّ خيط، وعين عليا تراقب كلَّ حركة.

والسؤال الصَّادق هنا: هل وُجد قانونٌ يومًا من غير واضع؟

 هل شهدت نظامًا تشكَّل من تلقاء نفسه؟

 هل يمكن أن يُكتب كتاب بلا كاتب؟

 هل يمكن أن تنشأ خريطة دقيقة من فوضى، ومن دون عقل يرسم ويقدِّر ويوجّه؟

افتراض وجود النظام بلا منظِّم، أشبه ما يكون بادِّعاء أنَّ قصيدة منسجمة خرجت من اصطدام الحروف عشوائيًا، أو أن بيتًا محكم البناء قد ارتفعت جدرانه بفعل الريح! إنَّه ضربٌ من المكابرة لا يثبت أمام تأمل لحظة صادقة.

وهنا يلتقي العقل السليم مع الفطرة النقيَّة، في لحظة صفاء وصدق، ليشهدا معًا: ما كان لهذا الجمال أن يكون عبثًا، ولا لهذا الإتقان أن ينشأ من العدم. إنَّ في هذا النظام المذهل – بدقّته وشموله – ما يرشدنا، بفطرة واطمئنان، إلى وجود خالق عظيم، عليم حكيم، لا تخفى عليه خافية؛ ذلك هو الله (سبحانه وتعالى) خالق كلِّ شيء، الذي أحسن كلَّ شيء خلقه، وأتقن صنعه، وأودع في كلِّ كائن غايته، وفي كلِّ ذرة مسارها، وجعل في قلب الإنسان فطرةً تهديه، وعقلًا يبصر به، وروحًا تشتاق إلى الأصل وتسعى نحو اليقين.

فمن أبصر هذا كلَّه، ثمَّ قال: لا خالق، فقد أعرض عن فطرته، ووأد عقله، وأغلق نافذة الكون التي تفيض بكلِّ دليل، وتشهد في كلِّ لحظة: أنَّ لهذا الوجود ربًا لا إله إلَّا هو.

لقد جبل اللهُ (تعالى) الإنسان على النظر والتأمل، وغرس في فطرته شعورًا عميقًا لا يخبو، بأنَّ وراء هذا الكون البديع صانعًا حكيمًا، وأنَّ كلَّ حركة منضبطة وكلَّ صورة متقنة إنِّما تشير إلى يدٍ تدبّر وتقدّر. فليس الإنسان بحاجة إلى معجزة تخترق قوانين الكون لتوقظه إلى وجود الله (عزَّ وجلَّ)؛ بل يكفي أن يفتح عينيه على ما حوله من آيات الله (تعالى) المنثورة، ليوقن أنَّ وراء هذا الجمال نظامًا، ووراء النظام إرادة، ووراء الإرادة خالقًا عليمًا قديرًا.

وهذا النداء الفطري، الذي يسري في أعماق النفس، لم يتركه الله (عزَّ وجلَّ) مُهملًا أو معزولًا؛ وإنَّما جاء القرآن يوقظه ويغذِّيه، ويعيد توجيهه في أنقى صوره، فيأخذ بيد العقل عبر التفكر الحر والنظر البصير ويهديه إلى طريق اليقين؛ قال (تعالى) في آية من أعجب آياته وأعمقها دلالة: (إِنّ فِي خَلْقِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللّيْلِ وَالنّهَارِ وَالْفُلْكِ الّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النّاسَ وَمَآ أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السّمَآءِ مِن مّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثّ فِيهَا مِن كُلّ دَآبّةٍ وَتَصْرِيفِ الرّيَاحِ وَالسّحَابِ الْمُسَخّرِ بَيْنَ السّمَآءِ وَالأرْضِ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(1).

فالآية تعرض حقائق عميقة تستدعي التفكر؛ وإنَّ هذه الظواهر اليوميَّة، التي تمرُّ على العين بلا اكتراث أحيانًا، تُخفي في أعماقها نظامًا دقيقًا، يفضح عبث المصادفة، ويدعو كلَّ عقل واعٍ إلى التسليم بأنَّ هذا الإتقان لا يكون إلَّا بإرادة عالمة.

ولذلك ختمت الآية بقوله: (لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)؛ لتؤكد أنَّ الوصول إلى الإيمان يكون عبر التفكر، حيث يُستثار العقل ليبصر، وتُنبه الفطرة لتستيقظ، وتتحرك النفس لتسأل: من وراء كل هذا؟

 ولماذا؟ 

وكيف؟

وهكذا، فإنَّ القرآن الكريم لا يقف عند حدِّ إثبات وجود الله (تبارك وتعالى)؛ وإنَّما يأخذ بيد الإنسان ليعرِّفه به من خلال ما يرى ويسمع ويعيش؛ ويدعوه إلى النظر في الشمس حين تُشرق، وفي المطر حين ينهمر، وفي السفن حين تشق البحار، وفي الرياح حين تُساق، وفي الحياة حين تدبّ في الأرض بعد موتها... كلّ ذلك من أجل أن يرى ما وراء الطبيعة من معنى، وما وراء الحركة من حكمة.

فما من شيء في الوجود إلَّا وهو شاهدٌ ناطق على الخلق والتدبير، وما من تفصيل في الكون إلَّا وهو طريق لمن أراد أن يسلك إلى الله (تعالى) سُبُله؛ إنَّها دعوة مفتوحة للعقلاء، بأن يرتقوا من ظواهر الأشياء إلى أسرارها، ومن المظاهر إلى المصدر، ومن الخلق إلى الخالق، ليهتدوا، لا لأنهم قُسروا على الإيمان؛ وإنَّما لأنَّهم وجدوا في أعماق أنفسهم أنَّ الفطرة لا تكذب، وأنَّ العقل لا يخذل من أخلص له السَّير.

إنَّ من نظر في هذا الكون بعين البصيرة، لا بمجرَّد البصر، وانفتح قلبه على آيات الله (تعالى) المنثورة في الآفاق، لا يكاد يشك لحظة أنَّ وراء هذا البناء الشامخ، والنظام المتقن، خالقًا عليمًا، ومدبّرًا حكيمًا. 

فمن الذي رفع هذه السماوات بغير عمدٍ تُرى؟ 

ومن الذي ضبط دوران الشمس وجريان القمر في مدارات لا تتعطل ولا تضطرب؟

ومن الذي جعل الليل لباسًا والنهار معاشًا، فلا يسبق أحدهما الآخر، ولا يختلّ نظامهما على الرغم من تعاقب العصور وتغيّر الدهور؟

إنه الله (تعالى)، الذي يقول في محكم كتابه، في مشهد كوني مهيب يستنطق العقل ويهزُّ الفطرة:

(اللّهُ الّذِي رَفَعَ السّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمّ اسْتَوَىَ عَلَى الْعَرْشِ وَسَخّرَ الشّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلّ يَجْرِي لأجَلٍ مّسَمّـى يُدَبّرُ الأمْرَ يُفَصّلُ الاَيَاتِ لَعَلّكُمْ بِلِقَآءِ رَبّكُمْ تُوقِنُونَ. وَهُوَ الّذِي مَدّ الأرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلّ الثّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي الْلّيْلَ النّهَارَ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكّرُونَ. وَفِي الأرْضِ قِطَعٌ مّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنّاتٌ مّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَىَ بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضّلُ بَعْضَهَا عَلَىَ بَعْضٍ فِي الاُكُلِ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(2).

فالكون خلق محكم، ينسج تفاصيله خالقٌ يعلم دقّها وصغارها، كما يعلم أسرارها وكبارها. وحين يدعو الله (تعالى) عباده إلى التأمل، فإنَّه (سبحانه) يدعوهم إلى إلى إعمال العقول، وإيقاظ الفطرة، والنظر بعين اليقظة فيما تحت أقدامهم كما في أعالي السماء.

فالنظر إلى الأرض هو مجال خصب لتأمل آثار القدرة، حيث تتجاور قطع الأرض وتختلف في العطاء، تُسقى بماء واحد، وتُنبت من تربة واحدة، وتُعرض على شمس واحدة؛ لكن الثمر يختلف طعمًا ولونًا وشكلًا. فما هذا التفاوت البديع إلَّا دليل على يدٍ ربانية تسوّي، وإرادة عليا تُبدع وتُفضل بعضًا على بعضٍ في الأُكُل.

أي عقلٍ سليم، وأي فطرة لم تفسدها الشبهات، إذا تأملت هذا التنوع المحكم، أدركت أنَّ الأمر تجلٍ دائم لحكمة الخالق وتدبيره؛ فهذا الاختلاف في ظل وحدة العناصر هو حديثٌ صامت يخاطب العقلاء، ويناديهم: إنَّ الله (تعالى) واحد، عليم قدير، وأنَّ هذا الكون رسالةٌ مفتوحة لمن أراد الهداية، وأنَّ الفطرة متى استيقظت، استجابت للحق، واطمأنت إليه.

ووسط هذا الإبداع، يتأمل الإنسان في ذاته، فيجد نفسه أضعف من أن يُوجد الحياة، وأعجز من أن يُدير الكون، وحتَّى من أن يضمن لنفسه نفسًا واحدًا، أو أن يخلق شعرة في جسده، أو أن يمنع مرضًا عن بدنه.

ومع ذلك، فقد سُخرت له السماوات والأرض، وأُودعت فيه القدرة على التمييز، ليتفكر ويسير نحو خالقه طواعية، لا قسرًا ولا جبرًا.

لقد بيّن القرآن الكريم بجلاءٍ لا غموض فيه، أنَّ هذا الكون البديع، الذي تترابط عناصره بدقة مدهشة، هو صنعة خالقٍ عليم، دبّر فسخّر، وأعطى كلَّ شيء خلقه ثمَّ هدى. فالخلق فيه قصد، والتسخير فيه رحمة، والنظام فيه حكمة، وكل ذلك لغاية أسمى: أن يعرف الإنسان ربَّه، ويعبده عن علمٍ ويقين، لا عن تقليدٍ واتِّباع أعمى؛ فيقول (سبحانه): (اللّهُ الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثّمَرَاتِ رِزْقاً لّكُمْ وَسَخّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخّرَ لَكُمُ الأنْهَارَ. وَسَخّر لَكُمُ الشّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخّرَ لَكُمُ الْلّيْلَ وَالنّهَارَ. وَآتَاكُم مّن كُلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفّارٌ)(3).

فما من قطرة تنزل من السماء، ولا ثمرة تنبت من الأرض، ولا فُلكٍ يشقّ البحر، ولا نهرٍ يجري، ولا شمسٍ تشرق، ولا قمرٍ يسير، إلَّا وهو مُسخَّر بأمر الله (جلَّ جلاله)، يُسدي للإنسان خدمة لا يدرك أبعادها، ولا يملك لنفسه مثلها.

وليس ذلك فحسب، فقد سُخّر له الليل والنَّهار، وهما زمان وجوده، وسُخّرت له الشمس والقمر، وهما ميزان وقته ومصدر حياته. وكل ذلك محاط بعناية خفية، ورحمة شاملة، لا يملك الإنسان إحصاءها، ولا يقدر على ردِّ طرفٍ منها.

حتَّى إذا وقف الإنسان أمام هذا الفيض من الإنعام، جاء التنبيه الصادق في ختام الآيات:

(إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)؛ وكأنَّ هذا الختام صفعة للغفلة، تذكّر الإنسان بجانب من حقيقته: أنَّه كثير النسيان، شديد الجحود، على الرغم من أنَّه أُغرق في النعم، ومُكِّن من وسائل الهداية.

وهنا يُطرح السؤال الذي لا يفارق العقل حين يتأمل بصدق:

من ذا الذي أدار هذا الكون بهذه الحكمة البالغة، وربط عناصره بهذا التوازن المعجز؟

 أهي صدفة لا عقل لها؟

 أم قوانين جامدة لا إرادة فيها؟

أم هو الله (تعالى)، الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، وبسط للإنسان النعم، وزوّده بالعقل والفطرة ليبصر ويهتدي؟

إنَّها دعوة تفتح القلب للحق، وتستنهض العقل من غفلته:

أن يقف الإنسان برهة، بعيدًا عن الضجيج، ليُصغي إلى النداء الأبدي الكامن في كل شيء من حوله:

"هذا من صُنع الله (تعالى)".

 هذه الحقيقة هي ما أشار إليه الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) حين سأله أحدهم: "ما الدليل على صانع العالم؟"

فأجابه عليه السلام بعبارة موجزة؛ لكنها تفيض بالحكمة وتلمس صميم الفطرة والعقل معًا، قال:

(وجود الأفاعيل التي دلَّت على أن صانعها صنعها، ألا ترى أنَّك إذا نظرت إلى بناء مشيد مبني، علمت أنَّ لـه بانيًا، وإن كنت لم ترَ الباني ولم تشاهده؟)(4).

كلمات قليلة؛ لكنها تتغلغل في أعماق النَّفس، وتُسكت كلَّ شبهة متكلفة. إنَّها دعوة لقراءة "الأثر" كوسيلة لمعرفة "المؤثر"، تمامًا كما لا نشترط أن نرى الكاتب كي نُقرّ بوجوده عند رؤية الكتاب، ولا نشترط أن نرى الصانع عند تأمل آلةٍ بديعة، فكيف بكونٍ أعظم من أن يحدّه وصف، أو يُحاط به إدراك؟

إننا – في حياتنا اليومية – نُسلّم بوجود أشياء لم نرَها قط، فقط لأننا نرى أثرها:

نؤمن بوجود الجاذبية؛ لأننا نراها تُمسك الأشياء، وبالعقل لأننا نلمس نتائجه، وبالنفس لأننا نحسّ بحضورها. فلماذا يُطالَب الإيمان بالله (تعالى) بأن يكون مرئيًّا مادّيًا، وهو الذي خلق المادة والزَّمان والمكان، وتعالى عن أن تحيط به الحواس؟

والأعجب أنَّ الإنسان – بطبعه – لا يتردد لحظة في نسبة أي إبداع إلى مبدعه، وأي تصميم إلى مصمّمه، فكيف يتردد أمام أعظم خلق، وأبهر نظام، وأدق تكوين؟

كيف يغفل عن أن هذا الكون – من الذرّة إلى المجرّة – كل ذرة فيه تصرخ: "إنَّ لنا صانعًا عليمًا!"؟

ولذلك، فإنَّ القرآن الكريم، وكلمات أئمة الهدى، تلتقي على مبدأٍ لا يتغيَّر:

أنَّ العقل إذا صَفَا، والفطرة إذا أُنقِيت من رواسب الهوى والتقليد، فإنَّها تهتدي حتمًا إلى الله (تعالى)، خالق كل شيء، الذي أحكم صنعه، وأظهر دلائل وجوده في كلِّ ما حول الإنسان، وفي داخل نفسه أيضًا.

ومن أروع ما يُبيّن هذا المنهج، ما رُوي عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، حين دخل أبو شاكر الديصاني ـ وهو زنديق ـ على الإمام الصادق (عليه السلام) فقال لـه: يا جعفر بن محمَّد! دلني على معبودي! 

فقال الإمام الصادق (عليه السلام): اجلس، فإذا غلام صغير في كفه بيضة يلعب بها.. فقال الإمام الصادق (عليه السلام): ناولني يا غلام البيضة! 

فناوله إيَّاها. 

فقال الإمام الصادق (عليه السلام): يا ديصاني هذا حصن مكنون، لـه جلد غليظ، وتحت الجلد الغليظ جلد رقيق، ذهبة مائعة وفضة ذائبة… لا يدرى للذكر خلقت أم للأنثى، تنفلق عن مثل ألوان الطواويس، أترى له مدبرًا؟! 

فأطرق ملياً! ثمَّ قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمَّدا عبده ورسوله، وأنَّك إمام وحجة من الله على خلقه، وأنا تائب مما كنت فيه(5).

لم تكن الكلمات كثيرة، لكنها اخترقت أعماق الرجل، وأيقظت فيه ما غفل عنه. فأطرق رأسه، وقال بشهادة لا تحتاج إلى تأويل.

هنا تتجلَّى عبقرية الدعوة الفطرية. لم يُقدَّم له معجم فلسفي؛ بل قُدّمت له "بيضة"! مخلوقٌ بسيط، مألوف، لكنه يحمل في داخله من التعقيد والدلالة ما تعجز عنه مجلدات من المنطق.

بيضة... لكنها تحوي نظامًا بالغ الدقة، وغاية لا تخطئ، تتحول من سكون إلى حياة، ومن لا شيء إلى كائنٍ حي، بلونٍ وشكلٍ وقدرة.

أليست هذه مشاهد للهداية تنادي من أراد أن يتأمل؟

أليس الكون كله "بيضة كبرى"، خُلق فيها كل شيء بدقة مذهلة، من غير أن يرى الناس من خطّط ورتّب ونفخ الروح؟

بل إن الإنسان نفسه، بكل ما فيه من تعقيد وذكاء، عاجز عن خلق بيضة واحدة، فكيف بخلق السموات والأرض؟

إنَّ من أعظم أبواب الهداية أن يُخاطب الإنسان بلغته الفطرية، وبلغة الأشياء التي يراها كلَّ يوم؛ لكنه لم يتأمل فيها كما ينبغي. ولهذا، فإنَّ الدعوة الحقّة، تلك التي تفتح له نافذة صافية على الحقيقة، وليست تلك التي تُثقل العقل بالمجادلة.

وهكذا، فإن سؤال "هل للكون إله خلقه ونظّمه؟" هو سؤال الوجود الجوهري، الذي يتردد صداه في أعماق كلِّ نفس، ويستدعي التفكر من كلِّ عقل سليم. والتأمل الصادق في نظام الكون، وفي دقة القوانين، وفي أسرار الحياة، لا يترك للعقل الحر والفطرة السليمة مجالاً للشك في أن وراء هذا الإتقان إرادةً عليمة، وعقلاً حكيمًا، هو خالق كل شيء (سبحانه وتعالى.)

إنَّ الإيمان بالله (تعالى) ليس هروبًا من التفكير؛ بل ثمرة التفكير، ونهاية رحلة العقل حين يُخلص في النظر، ويتجرد من الأهواء. وما من سبيل إلى الطمأنينة الحقة، ولا إلى فهم الغاية من الوجود، إلا بفتح القلب والعقل معًا لهذا النداء الأزلي: إن للكون خالقًا، وللحياة غاية، وأننا لسنا نتاج صدفة، بل مخلوقات لمعنى، وسائرون نحو مصير، وكل شيء في الوجود يدلنا عليه.

(سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)(6).

............................................

الهوامش:

1. سورة البقرة / الآية: 164.

2. سورة الرعد / الآية: 2-4.

3. سورة إبراهيم / الآيات: 32-34.

4. يراجع: الاحتجاج: ص332 .

5. يراجع: التوحيد: 123.

6. سورة فصلت / الآية: 53.

اضف تعليق