مع عدم إبداء السياسيين لأي مرونة لحل الصراع على السلطة، التوصل إلى حل وسط بشأن الرئاسة قد يتطلب ذات نوع الوساطة الأجنبية التي أنقذت لبنان من أزمات سابقة مماثلة. لكن لا يوجد ما يشير إلى وجود أي وساطة. وهناك توترات كبيرة في المنطقة بين القوى الأفضل للتوسط...
يواجه لبنان أزمة حكومية لا تلوح لها نهاية في الأفق يزيدها تعقيدا البحث عن مسار الخروج من الانهيار المالي، مما يفاقم مخاطر عدم الاستقرار مع تعمق المصاعب وترنح مؤسسات الدولة على شفا الانهيار.
ولا يزال لبنان بلا رئيس دولة ولا مجلس وزراء كامل الصلاحيات منذ انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون في 31 أكتوبر تشرين الأول، وهو فراغ غير مسبوق حتى بمعايير بلد لم يتمتع باستقرار يُذكر منذ الاستقلال.
ومع عدم إبداء السياسيين لأي مرونة لحل الصراع على السلطة، يقول محللون وبعض المصادر السياسية إن التوصل إلى حل وسط بشأن الرئاسة قد يتطلب ذات نوع الوساطة الأجنبية التي أنقذت لبنان من أزمات سابقة مماثلة.
لكن لا يوجد ما يشير إلى وجود أي وساطة في الوقت الحالي، ويحتمل أن الأوان لم يأت بعد. وهناك توترات كبيرة في المنطقة بين القوى الأفضل للتوسط، إيران من جهة والولايات المتحدة وفرنسا والمملكة العربية السعودية من جهة أخرى.
وبعد أكثر من ثلاثة أسابيع من مغادرة الرئيس ميشال عون المنصب، فشل البرلمان اللبناني الخميس للمرة السابعة في انتخاب رئيس للجمهورية.
واقترع 50 نائبا بورقة بيضاء، فيما حصل النائب ميشال معوض المدعوم من القوات اللبنانية بزعامة سمير جعجع وكتل أخرى بينها كتلة الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، على 42 صوتا.
وتعارض كتل رئيسية بينها حزب الله، القوة السياسية والعسكرية الأبرز، معوض المعروف بقربه من الأمريكيين، وتصفه بأنه مرشح "تحد"، داعية إلى التوافق سلفا على مرشح قبل التوجه إلى البرلمان لانتخابه.
وقال الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله الأسبوع الماضي "المقاومة في لبنان ليست بحاجة لغطاء أو حماية، وما نريده رئيس لا يطعنها في ظهرها ولا يبيعها"، وغير خاضع للولايات المتحدة التي اتهمها بأنها "تتدخل في أصغر التفاصيل الحكومية والوزارية في لبنان".
ويعتمد نواب حزب الله وحليفته حركة أمل برئاسة بري استراتيجية التصويت بورقة بيضاء، ثم الانسحاب من الجلسة للإطاحة بنصاب الدورة الثانية.
وقال النائب المعارض مارك ضو لوكالة فرانس برس إن طريق انتخاب رئيس "مسدود تماماً"، مرجحاً ألا يصار الى انتخاب "رئيس قبل العام المقبل".
ويعتمد نواب حزب الله وحليفته حركة أمل برئاسة رئيس مجلس النواب نبيه بري استراتيجية التصويت بورقة بيضاء، ثم الانسحاب من الجلسة للإطاحة بنصاب الدورة الثانية.
وشدّد النائب علي حسن خليل، المعاون السياسي لبري، على أن "لا إمكانية لانتخاب رئيس خارج التوافق بين النواب".
وانتقد النائب المعارض فراس حمدان الاحتكام إلى فكرة "التوافق".
وقال حمدان لوكالة الأنباء الفرنسية "فلتتفضل كل كتلة وتصوت كما يجري في أي ديمقراطية حول العالم، لأنه لا يمكن لنا البقاء في إطار لعبة التوافق" التي اعتبرها "فكرة عشائرية طائفية أوصلت البلد إلى التفكك وحالة الشلل الذي تعيشه المؤسسات اليوم".
وأبدى النائب أسفه لوجود قرار "بأن يبقى مجلس النواب محمية سياسية طائفية لحماية المنظومة"، في حين أن "ثمة حاجة لأن تتحمل الكتل البرلمانية مسؤولياتها وتتواضع لمصلحة البلد في ظل الوضع الاقتصادي المأساوي الذي نعيشه، بدلا من كسر إرادة الناس وتعطيل المصالح".
وسأل النائب عن حزب الكتائب اللبنانية سامي الجميل عن جدوى الحضور أسبوعيا إلى جلسات الانتخاب.
وقال لصحافيين في البرلمان "هذه ليست عملية انتخاب بل عملية انتظار تسوية على حساب البلد والناس والاقتصاد والدستور".
ويُنظر على نطاق واسع الى الوزير والنائب السابق سليمان فرنجية، على أنه المرشح الأمثل بالنسبة لحزب الله، وإن كان لم يعلن دعمه علنا له. لكن رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل، صهر عون والطامح بدوره للرئاسة والمتحالف مع حزب الله، أعلن معارضته لفرنجية.
وقال نائب رئيس مجلس النواب الياس بو صعب، الذي ينتمي إلى كتلة التيار الوطني الحر، "كل فريق يتهم الآخر بالعرقلة"، موضحاً أن الأزمة تكمن "في أن كل فريق يريد مرشح من جانبه. لكن يجب أن يفكروا بطريقة مختلفة بأن يجري التفاهم على اسم يشكل حل وسط، ويقبل به على الأقل ثلثي المجلس".
وعادة ما يؤخر نظام التسويات والمحاصصة القائم بين القوى السياسية والطائفية، القرارات المهمة، وبينها تشكيل الحكومة أو انتخاب رئيس.
وانعقدت جلسة الخميس بأكثرية الثلثين في الدورة الأولى، قبل أن ينسحب نواب ليطيحوا بالنصاب في الدورة الثانية، وهو تكتيك يتبعه حزب الله وحلفاؤه.
ويحتاج المرشح في الدورة الأولى من التصويت إلى غالبية الثلثين أي 86 صوتا للفوز. وتصبح الغالبية المطلوبة إذا جرت دورة ثانية 65 صوتا من 128 هو عدد أعضاء البرلمان.
ويؤشر فشل البرلمان في انتخاب رئيس حتى الآن، إلى أن العملية الانتخابية قد تستغرق وقتا طويلا، في بلد نادرا ما تُحترم المهل الدستورية فيه.
ولا يملك أي فريق سياسي أكثرية برلمانية تخوله فرض مرشحه.
ويتزامن الفراغ الرئاسي مع وجود حكومة تصريف أعمال عاجزة عن اتخاذ قرارات ضرورية، وفي وقت يشهد لبنان منذ 2019 انهيارا اقتصاديا صنفه البنك الدولي من بين الأسوأ في العالم منذ العام 1850.
ويفتح الشغور صفحة جديدة في الأزمة التي تعصف بلبنان منذ انهيار نظامه المالي في 2019، والتي أدت إلى انزلاق شريحة كبيرة من الناس في براثن الفقر وشلل النظام المصرفي وإطلاق أكبر موجة هجرة منذ الحرب الأهلية التي دارت بين عامي 1975 و1990.
والمنصب الرئاسي مخصص حصرا للمسيحيين، لكن عدم التوافق على رئيس حتى الآن يعكس حالة التنافس داخل الطائفة المسيحية بالإضافة إلى التوازنات السياسية والدينية بالغة الأهمية في البلاد.
ورجح البنك الدولي في تقرير أن "يؤدي الفراغ السياسي غير المسبوق إلى زيادة تأخير التوصل لأي اتفاق بشأن حل الأزمة وإقرار الإصلاحات الضرورية، مما يعمق محنة الشعب اللبناني".
ونبه إلى أن "الانكماش في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي الذي شهده لبنان منذ عام 2018 والبالغ 37.3%، وهو يُعد من بين أسوأ معدلات الانكماش التي شهدها العالم، قد قضى على ما تحقق من نمو اقتصادي على مدار 15 عاما، بل ويقوض قدرة الاقتصاد على التعافي".
جبران باسيل مرشح توافقي
من جهته قال السياسي اللبناني البارز جبران باسيل إنه يعمل على إيجاد مرشح توافقي للرئاسة يكون قادرا على المضي قدما في إصلاحات حاسمة لكنه سيرشح نفسه للمنصب إذا رأى أن المرشح الذي وقع عليه الاختيار ليس بالخيار الجيد.
وقال باسيل، وهو مسيحي ماروني ويعد أحد أكثر السياسيين نفوذا في لبنان، في مقابلة مع رويترز "أنا زعيم أكبر كتلة نيابية، ومن حقي تماما أن أكون مرشحا وأن أروج اسمي، لكني أرى أن وجود لبنان أهم بكثير من هذا، ووجود لبنان الآن على المحك".
وأضاف "لقد اتخذت قرارا بعدم تقديم نفسي من أجل تجنب شغور الوظيفة وتسهيل عملية ضمان اختيار مرشح جيد يملك حظوظا عالية للنجاح. (لكنني) لم أفعل ذلك من أجل إطالة أمد الفراغ واختيار مرشح سيء لشغل المنصب.
"لن أقبل أن يكون لدي رئيس سيئ وفي هذه الحالة بالطبع سأترشح".
وباسيل هو زعيم التيار الوطني الحر الذي أسسه عون والد زوجته والرئيس المنتهية ولايته الذي فرضت عليه الولايات المتحدة عقوبات عام 2020 بتهمة فساد مزعوم وتقديم دعم مادي لحزب الله. وهو ينفي هذه الاتهامات.
ومع عدم إظهار السياسيين أي بادرة للتوصل إلى حل وسط في صراعهم على السلطة، تقول بعض المصادر السياسية والمحللون إن التوصل إلى تسوية بشأن الرئاسة قد يتطلب وساطة أجنبية شبيهة بتلك التي أنقذت لبنان من مثل هذه المواجهات في السابق.
وقال باسيل إنه في باريس في إطار جهد أوسع لإنشاء إطار يمكن التوافق عليه محليا ودوليا بهدف تسهيل مهمة الرئيس القادم في المضي قدما في إصلاحات اقتصادية حاسمة دون أن يقابل العقبات التي تكرر ظهورها في الماضي.
وقادت فرنسا جهودا دولية لإنقاذ لبنان من أسوأ أزمة تقابله منذ الحرب الأهلية، ولكن دون جدوى.
وقال باسيل، الذي حظي بثناء واسع على قيامه بدور حيوي وراء الكواليس في المحادثات التي توسطت فيها الولايات المتحدة لترسيم الحدود البحرية للبنان مع إسرائيل من خلال صلاته بحزب الله، إنه يأمل أن تتحقق انفراجة في ملف الرئاسة بحلول نهاية العام، لكن التأخير يظل "خطيرا".
وأضاف "بصراحة، إذا لم ينجح ما نحاول القيام به، فأنا لا أرى فرصة (لملء الشغور) في المستقبل القريب وقد يستمر الفراغ الرئاسي لفترة طويلة.
"لهذا السبب لا يستطيع البلد البقاء في هذا الوضع والتعايش معه. ولذا نحن بحاجة إلى النجاح في إيجاد حل".
الفراغ الخطير وفتيل الازمات
ويمثل الفراغ مرحلة جديدة في الأزمة التي تعصف بلبنان منذ انهيار نظامه المالي في عام 2019، والذي دفع بالكثير من المواطنين إلى براثن الفقر وأصاب البنوك بحالة من الشلل وأجّج أكبر موجة هجرة منذ الحرب الأهلية التي دارت رحاها من عام 1975 إلى 1990.
وتطفو الضغوط في الدولة المفلسة على السطح بطرق جديدة باستمرار، مع اعتماد الحكومة أكثر من أي وقت مضى على المنح الأجنبية لتوفير الخدمات الأساسية. وانهارت قيمة رواتب الموظفين المدنيين والجنود بالعملة المحلية، التي فقدت 95 بالمئة من قيمتها منذ عام 2019.
ومن المقرر أن يبدأ الجيش، وهو الركيزة الأساسية للسلم الداخلي، في تلقي مساعدات الرواتب التي تمولها الولايات المتحدة عن طريق الأمم المتحدة.
وقدمت فرنسا اللقاحات اللازمة لمكافحة تفشي الكوليرا في لبنان، واصفة ذلك بأنه علامة على "الانخفاض الحاد في توفر المياه وخدمات الصحة العامة للسكان".
ومع تكرار حوادث اقتحام المودعين للبنوك للحصول على مدخراتهم، نشر الجيش مقطع فيديو تدريبيا للجنود وهم يحيطون بأحد البنوك ويحتجزون مشتبها به.
وقال نبيل بو منصف، المحلل السياسي في صحيفة النهار، إن الوضع الاجتماعي هو الفتيل الذي يمكن أن يعرض لبنان للخطر، إذا استمر الفراغ وتفاقمت الأزمات المالية والاقتصادية.
حافة الهاوية
سعت واشنطن إلى تعزيز قوات الأمن اللبنانية بمزيد من المساعدة.
لكن مسؤولة أمريكية قالت في تحذير شديد اللهجة في الرابع من نوفمبر تشرين الثاني إنها تلمح في الأفق سيناريوهات "لا شيء سوى الانهيار مع عدم توفر رواتب (الجيش) و(قوات الأمن الداخلي) سوى ستة أشهر، وبالتالي فهم يفقدون السيطرة على الأمور كون جميع الإجراءات مؤقتة، كما أن هناك هجرة جماعية".
وقالت مساعدة وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأدنى باربرا ليف، في تصريحات في مركز ويلسون، إن هذه هي "أحلك نهاية للطيف" وإن هناك "العديد من السيناريوهات الأخرى في المنتصف".
وأضافت "لا شيء يمكن أن نفعله نحن أو أي شريك أجنبي آخر يمكن أن يعوض ما فشل القادة السياسيون اللبنانيون في إنجازه حتى الآن -تشكيل حكومة والاضطلاع بالمهمة العاجلة المتمثلة في إبعاد لبنان عن حافة الهاوية".
وحثت الحكومات الغربية بيروت على تنفيذ إصلاحات طال انتظارها للخروج من الأزمة بإبرام اتفاق مع صندوق النقد الدولي.
لكن صندوق النقد الدولي ينتقد "البطء الشديد" في إحراز تقدم. وتواجه جهود تنفيذ الإصلاحات عقبات من جانب السياسيين الذين يحمون المصالح الخاصة ويتهربون من المساءلة.
ولا يرى المحللون أي تحرك نحو الاتفاق على حكومة جديدة.
فمن ناحية، تعكس المواجهة من ناحية الخصومات بين المسيحيين الموارنة المخصص لهم منصب الرئيس.
ومن ناحية أخرى، تعكس صراعا على السلطة بين حزب الله الشيعي المدعوم من إيران -وهو الحزب الذي أوصل حليفه عون إلى الرئاسة في عام 2016- وبين خصومه، بما في ذلك فصائل متحالفة مع السعودية.
وهناك علامات على تجدد الاهتمام بلبنان من جانب الرياض، التي رفعت يديها إلى حد كبير من البلاد بعد أن أنفقت المليارات لاكتساب نفوذ، مما أدى ألي تنامي دور حزب الله.
واستضاف السفير السعودي وليد بخاري مؤتمرا في الخامس من نوفمبر تشرين الثاني بمناسبة الذكرى السنوية لاتفاق سلام أُبرم بوساطة المملكة قبل 33 عاما لإنهاء الحرب الأهلية في لبنان.
قال أندرو تابلر، من معهد واشنطن "الدور السعودي يتمثل في مواجهة إيران ومواجهة الدولة اللبنانية الفاشلة".
وقال سياسي بارز متحالف مع حزب الله إن الرياض على ما يبدو عازمة على إعادة بسط نفوذها على المشهد السياسي السُني المتصدع منذ تعليق سعد الحريري -حليف الرياض في بيروت لسنوات سابقا- مشاركته في السياسة.
وأضاف أن هذا قد يساعد الرياض على ممارسة نفوذها على مصير الرئاسة في لبنان، الذي يتم تحديده من خلال تصويت في البرلمان، حيث يوجد بالفعل عدد من الأصدقاء المتشابهين في الفكر مع السعودية مثل حزب القوات اللبنانية المسيحي.
كما أن حزب الله لديه حلفاء مسيحيون بارزون لديهم طموحات رئاسية، ولا سيما سليمان فرنجية -صديق الرئيس السوري بشار الأسد- وجبران باسيل، صهر عون. ولم يعلن حزب الله بعد عن مرشحه المفضل، تاركا الباب مفتوحا أمام إمكانية التوصل إلى اتفاق على مرشح مقبول على نطاق أوسع.
أحد الاحتمالات هو قائد الجيش العماد جوزيف عون.
ولم يعلن حزب الله عن موقفه من عون الذي لم يبد نيته في الترشح.
وفي عام 2008، أدت الوساطة الخارجية إلى انتخاب قائد سابق آخر للجيش، ميشال سليمان، رئيسا، ونزع فتيل أزمة أشعلت الصراع بين حزب الله وخصومه.
وتوقع مصدر مطلع على تفكير حزب الله حدوث فراغ لفترة غير محددة، قائلا "نحن بأمس الحاجة إلى دَفعة خارجية".
وقال السياسي الدرزي وائل أبو فاعور إن الضغط الخارجي يمكن أن يكون له "دور تسهيلي... لكن المبادرة والحل يجب أن يأتيا من القوى السياسية الداخلية".
في ظل غياب رئيس
السياسات الطائفية المنقسمة في لبنان تعني أن انتخاب رئيس جديد للدولة أو تشكيل حكومة جديدة ليس بالأمر البسيط على الإطلاق.
فمجلس النواب ينتخب الرئيس في اقتراع سري من قبل النواب في البرلمان المؤلف من 128 عضوا، حيث يتم تقسيم المقاعد بالتساوي بين الطوائف الإسلامية والمسيحية.
لكن الحد اللازم لتأمين النصاب القانوني والفوز يعني أنه لا يوجد فصيل أو تحالف لديه بمفرده مقاعد كافية لفرض خياره - مما يؤدي إلى مقايضة الأصوات بمزايا سياسية أخرى.
وتشكيل الحكومة مُعقد بنفس القدر، حيث تقسم الأحزاب حصصها من الوزارات على أساس النفوذ والطائفة وحجم الكتلة البرلمانية والمناصب المحتملة التي يمكن أن تشغلها في أماكن أخرى من الدولة.
ووصل ميشال عون إلى سدة الرئاسة في 2016، بفضل صفقة كبيرة أيدتها جماعة حزب الله الشيعية ذات النفوذ ومنافس عون المسيحي الماروني الرئيسي سمير جعجع، والتي أعادت السياسي السُني سعد الحريري كرئيس للوزراء.
ويمكن أن يلعب النفوذ الأجنبي دورا في إبرام صفقات لانتخاب الرئيس في بلد لطالما لعبت فيه المنافسات الدولية دورا في الأزمات المحلية.
وتولى سلف عون، ميشال سليمان، منصبه في 2008 بموجب صفقة توسطت فيها قطر بدعم غربي.
لماذا هذا الوضع غير مسبوق؟
لطالما قادت المناورات التي يتطلبها تشكيل حكومة أو اختيار رئيس إلى ترك لبنان إما بدون رئيس للدولة أو بوجود حكومة تعمل فقط لتصريف الأعمال.
لكن للمرة الأولى يجتمع الأمران في الوقت نفسه.
وشهدت البلاد إجراء انتخابات برلمانية في مايو أيار، ما أطلق عملية لتشكيل حكومة جديدة بينما تواصل الحكومة القديمة تصريف الأعمال.
وكلف عون رئيس الوزراء نجيب ميقاتي بتشكيل الحكومة الجديدة لكنه لم يوافق على أي من التشكيلات التي قدمها ميقاتي خلال الأشهر الستة الماضية، مما يعني عدم تشكيل حكومة جديدة.
وحذر عون في مقابلة مع رويترز من "فوضى دستورية" إذا انتهت ولايته بدون خليفة ولا حكومة جديدة.
وقبل ساعات من مغادرة قصر الرئاسة، وقع عون على مرسوم قبول "استقالة" الحكومة، وأكد على حالة تصريف الأعمال. وأرسل رسالة إلى مجلس النواب حثه فيها على متابعة ميقاتي.
وينص الدستور على أن مثل هذا الوضع يجبر البرلمان على عقد اجتماع استثنائي لحين تشكيل حكومة جديدة.
ماذا يعني هذا للحكومة وللأزمة المالية؟
الرئيس اللبناني مسؤول عن توقيع مشاريع القوانين وتعيين رئيس الوزراء والموافقة على تشكيلة الحكومة قبل رفعها للبرلمان للتصويت لمنحها الثقة.
أما الحكومة فمسؤولة عن اتخاذ القرارات التنفيذية.
وينص الدستور على أن أي حكومة مستقيلة يجب أن تعمل "بالمعنى الضيق"، دون مزيد من التفاصيل. كما ينص على أنه في حال حدوث فراغ رئاسي يتعين على البرلمان الاجتماع على وجه السرعة لانتخاب رئيس جديد.
وخلال الفراغات الرئاسية في السابق، كانت الحكومة تتولى سلطات الرئيس من خلال اتخاذ القرارات بالإجماع. لكن قبيل تركه للمنصب أصر عون على التأكيد أنه لا ينبغي السماح لحكومة تصريف الأعمال بتولي هذه الصلاحيات.
ويثير ذلك تساؤلات حول كيفية تعامل لبنان مع الأزمة المالية المتفاقمة، التي تركت أكثر من 80 بالمئة من السكان في فقر وحرمت المودعين من الوصول لمدخراتهم في النظام المصرفي المشلول منذ ثلاث سنوات.
وتوصلت الحكومة إلى مسودة اتفاق مع صندوق النقد الدولي في مايو أيار من شأنه أن يتيح تدفق المساعدات التي تحتاج إليها البلاد بشدة. إلا أن بيروت لم تطبق إصلاحات تُذكر من تلك المطلوبة لاستكمال الاتفاق.
وقال نائب رئيس الوزراء سعد الشامي إن لبنان لا يزال قادرا على عرض تقدمه على مجلس إدارة صندوق النقد الدولي للمراجعة، لكنه ليس متأكدا مما إذا كان الاتفاق النهائي سيتطلب موافقة من الرئيس.
ثورة في المحاكم
من جهته قال أكبر قاض في لبنان إن تدخل القيادة السياسية في عمل القضاء أدى إلى فوضى تحتاج إلى "ثورة في المقاربات"، وذلك في انتقاد علني نادر للنخب الحاكمة.
وقال سهيل عبود رئيس مجلس القضاء الأعلى اللبناني "إن الواقع القضائي صعب ودقيق... وقد أسهمت فيه عوامل وأسباب عدة، جوهرها عدم وجود قانون يكرس استقلالية القضاء، وإرادة الجميع في وضع اليد على القضاء".
وأضاف في كلمة مذاعة تلفزيونيا أثناء حفل تخرج دفعة جديدة من القضاة في محكمة بيروت "أعني بالجميع كل الفرقاء والأطراف والجِهات السياسية وسواها".
وكان القضاء اللبناني ضمن ضحايا كثيرين للأزمة المالية المستمرة منذ ثلاث سنوات والتي تعد أخطر أزمة يواجهها لبنان منذ الحرب الأهلية بين 1975 و1990، وأدت إلى موجة من الهجرة وأوقعت معظم السكان في براثن الفقر.
وهوت قيمة رواتب القضاة من عدة آلاف الدولارات الأمريكية قبل الأزمة في 2019 إلى بضع مئات اليوم.
واستقال عدد من القضاة الكبار خلال العام المنصرم وأرجعوا ذلك إلى ظروف المعيشة والاحباط بسبب عرقلة قضايا كبيرة، من بينها التحقيق في الانفجار الذي وقع بمرفأ بيروت في أغسطس آب 2020 وأسفر عن مقتل أكثر من 215 شخصا.
ولقي التحقيق في الانفجار مقاومة من نظام سياسي أصبح الإفلات من العقاب مترسخا فيه منذ انتهاء الحرب الأهلية.
وقال عبود "لا قضاء مستقلا من دون تفعيل لعمل المحاكم وللملاحقات القضائية، ومن دون استكمال التحقيق في انفجار مرفأ بيروت".
ويتبادل البرلمان والحكومة إحالة قانون من شأنه أن يعزز استقلالية القضاء من أحدهما إلى الآخر منذ سنوات دون إقراره حيث يسعى الساسة لاستمرار سيطرتهم على سلطة تعيين القضاة في المناصب الرئيسية.
وتم تجاهل تغييرات اقترحها المجلس الذي يرأسه عبود في مناصب مهمة.
وقال عبود "إنه وقت إحداث التغيير المطلوب، زمن السير بالإصلاح، الذي يتطلب ثورة في المقاربات والأفكار والأداء، ووحدة قضائية".
اضف تعليق