وحسن الاختيار يسد الطريق تماماً أمام المشاكل التي قد تطرأ نتيجة ضعف همة الموظف العام أو تغليبه لهواه ومصالحه الذاتية، ويكون اسوة حسنة لغيره ممن تصدى للشأن العام، أضف لما تقدم إن هذه السمة تمكنه من الانسجام مع الوضع العام في الدولة ويكون قادراً على تقديم الخدمة المكلف بها...

 ان حسن اختيار الموظف العام في الدول عموما والدولة المسلمة على وجه التحديد يعد وبحق عنصراً حاسماً في التسديد وأساساً لضمان انتظام سير أجهزة الدولة في مختلف الظروف ولعله أيضاً السبب المباشر في تحسين العلاقة مع الرعية أو عامة الشعب، بل هو المفتاح لرضا الله تعالى وتحقيق الغايات السامية المبتغاة من وراء تأسيس الدولة في تحقيق التكافل والتعايش والتضامن.

 فمن المعروف ان الدولة كشخص معنوي لا تمتلك لساناً لتعبر عما تريده بنفسها أو يداً لتبطش بها بل تتم كل الفعاليات المتقدمة بموظفين يعملون باسمها ولحسابها ويراعون مصلحتها، ويمكن ان يسهم حسن اختيارهم في نجاحها في وظائفها كافة لا سيما الاجتماعية والاقتصادية فاختيار الشخص الأمين القادر على ان يحفظ الأمانة ويتمتع بالملكات الجسدية والنفسية اللازمة لتحمل المصاعب ومختلف الأعباء الوظيفية يعد معياراً لقياس النجاح.

 وحسن الاختيار يسد الطريق تماماً أمام المشاكل التي قد تطرأ نتيجة ضعف همة الموظف العام أو تغليبه لهواه ومصالحه الذاتية، ويكون اسوة حسنة لغيره ممن تصدى للشأن العام، أضف لما تقدم إن هذه السمة تمكنه من الانسجام مع الوضع العام في الدولة ويكون قادراً على تقديم الخدمة المكلف بها بكفاءة وفاعلية، وهذا المعنى الذي نستفيده من امعان النظر في رسالة أمير المؤمنين علي عليه السلام إلى الصحابي الجليل مالك بن الأشتر النخعي، حيث يحدد عليه السلام الشروط الرئيسة التي يجب توافرها عند اختيار الموظف العام والذي كان يسمى في تلك الفترة بـ(العمال) إذ يقول: ((ثُمَّ انْظُرْ فِي أُمُورِ عُمَّالِكَ، فَاسْتَعْمِلْهُمُ اخْتِبَاراً، وَلا تُوَلِّـهِمْ مُحَابَاةً وأَثَرَةً، فَإِنَّهُمَا جِمَاعٌ مِنْ شُعَبِ الْـجَوْرِ وَالْـخِيَانَةِ. وَتوَخَّ مِنْهُمْ أَهْلَ التَّجْرِبَةِ وَالْـحَيَاءِ، مِنْ أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِـحَةِ، وَالْقَدَمِ فِي الإِسْلاَمِ الْـمُتَقَدِّمَةِ، فَإِنَّهُمْ أَكْرَمُ أَخْلاَقاً، وَأَصَحُّ أَعْرَاضاً، وَأَقَلُّ فِي الْـمَطَامِعِ إِشْرَافاً، وَأَبْلَغُ فِي عَوَاقِبِ الأُمُورِ نَظَراً.ثُمَّ أَسْبِغْ عَلَيْهِمُ الأَرْزَاقَ، فَإِنَّ ذلِكَ قُوَّةٌ لَـهُمْ عَلَى اسْتِصْلاَحِ أَنْفُسِهِمْ، وَغِنىً لَـهُمْ عَنْ تَنَاوُلِ مَا تَحْتَ أَيْدِيهِمْ، وَحُجَّةٌ عَلَيْهِمْ إِنْ خَالَفُوا أَمْرَكَ أَوْ ثَلَمُوا أَمَانَتَكَ)).

 وهذا المقطع من كلام الإمام علي عليه السلام يمثل وبحق نظرة إدارية واعية وتنم عن خبرة في العمل الإداري اكتسبها الإمام في سنوات ساير فيها شؤون الدولة مع النبي الأكرم ومن جاء من بعده من الخلفاء حيث كان الإمام علي قريباً من مركز القرار في الدولة الإسلامية ويطلع عن كثب على المشاكل ويسهم بما يقدمه من نصح وارشاد في حل بعض من تلك المعضلات، فضلاً عن المكانة العلمية المرموقة التي يحوزها عليه السلام والتسديد الإلهي بوصفه إماماً معصوماً، وفي المقطع المتقدم يحدد الإمام الخصال والسمات المطلوبة في المرشح لتولي الوظيفة العامة (الخبرة، والحياء، والنسب الطيب، والتقوى، وغيرها) فينتج عن ذلك موظفاً كفوءً وكأن الإمام علي عليه السلام يحدد لنا شروط الموظف فيقول:

1- شرط الجنسية: يعد شرط الجنسية شرط أساس لاختيار الموظفين في كل الدول لضمان الولاء المطلق للدولة ولذا يشير الامام إلى ان من الشروط (والقدم في الإسلام المتقدمة) بمعنى ان يكون من رعايا الدولة الإسلامية ويشير هنا الإمام إلى شرط الجنسية الأصلية لكونه يطلب ان يكون من أوائل المسلمين وليس ممن كانوا معاندين أو انظموا إلى الإسلام مكرهين لكونهم أشبه بالمتجنس بجنسية الدولة اضطراراً وقد يكون لا يحمل في نفسه الولاء للدولة والرعاية لمصالحها.

2- شرط العمر: فمما لاشك فيه ان شرط العمر من الشروط الضمنية المستفادة من كلام أمير المؤمنين فمن شروط تولي أي منصب بالدولة الإسلامية ومنها إمامة الصلاة (البلوغ) أي ان يبلغ المسلم عمراً معينا يؤهله لتحمل أعباء الوظيفة.

3- حسن السيرة والسمعة والسلوك: وهذا الشرط كفيل باستقدام أفضل العناصر إلى الوظيفة العامة في الدولة الإسلامية والى هذا المعنى يشير عهد الإمام ((فإنهم أكرم أخلاقا، وأصح أعراضا)).

4- التقوى: إذ يقول عليه السلام في معرض تحديد شروط الموظف العام أنهم ((أقل في المطامع إشرافا، وأبلغ في عواقب الأمور نظرا))، بمعنى ان يكون الموظف من أهل العفة والتقوى والأخلاق الفاضلة بما يمكنه من النهوض بالأمانة وصيانة الواجبات المكلف بها ومن أخصها القيام بالواجبات بنفسه بأمانة وشعور بالمسؤولية ويؤتمن على الأسرار الوظيفية فلا تمتد يده أو عينه إلى ما منع الشارع المقدس فتكون أرواح الناس وأموالهم وأعراضهم في مأمن من تصرفاته.

ثم ان الإمام يشير إلى مسألة الراتب الذي يعد وبحق من أخص حقوق الموظف فيقول ((ثم أسبغ عليهم الأرزاق فإن ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم، وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم، وحجة عليهم إن خالفوا أمرك أو ثلموا أمانتك))، فالراتب يمنع الموظف من الاتجار بسلطة وظيفته أو استغلالها لمنافعه الشخصية أو لمنفعة الغير.

كما يشير عليه السلام إلى كبار الموظفين في الدولة فيأمر الوالي على مصر بأن الوزراء في حكومته يتم اختيارهم واستيزارهم ضمن ضوابط عدة أهمها:

1- حسن السيرة والسمعة والسلوك إذ يشترط في رؤية الإمام علي ان لا يعين وزيراً من سبق وإن عمل وزيراً في حكومة ظالمة، فهؤلاء لا يمكن الاطمئنان إلى عدالتهم وانصافهم للناس، فقد اعتادوا ممارسة ظلم والبغي على الناس والمحاباة حيث يقول: ((شرُّ وُزَرَائِكَ مَنْ كَانَ لِلأَشْرَارِ قَبْلَكَ وَزِيراً، وَمَنْ شَرِكَهُمْ فِي الآثَامِ، فَلاَ يَكُونَنَّ لَكَ بِطَانَةً، فَإِنَّهُمْ أَعْوَانُ الأَثَمَة، وَإِخْوَانُ الظَّلَمَةِ، وَأَنْتَ وَاجِدٌ مِنْهُمْ خَيْرَ الْـخَلَفِ مِمَّنْ لَهُ مِثْلُ آرَائِهِمْ وَنَفَاذِهِمْ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ مِثْلُ آصَارِهِم،ْ وَأَوْزَارِهِم،ْ وَآثَامِهِمْ، مِمَّنْ لَمْ يُعَاوِنْ ظَالِماً عَلَى ظُلْمِهِ، وَلا آثِماً عَلَى إِثْمِهِ، أُولئِكَ أَخَفُّ عَلَيْكَ مَؤُونَةً، وَأَحْسَنُ لَكَ مَعُونَةً، وَأَحْنَى عَلَيْكَ عَطْفاً، وَأَقَلُّ لِغَيْرِكَ إِلْفاً،)).

2- النزاهة والأمانة: من أهم شروط الوزير ان يكون نزيهاً وأميناً وبخلاف ذلك يكون وزير سوء يقدم مصالحه على الناس والدولة فيكون الخراب والظلم والعدوان لذا يقول عليه السلام لبعض كبار موظفيه: (أشْرَكْتُكَ فِي أمَانَتِي) وقال عليه السلام ((بَلَغَنِي عَنْكَ أَمْرٌ إِنْ كُنْتَ فَعَلْتَهُ فَقَدْ أَسْخَطْتَ رَبَّكَ وَعَصَيْتَ إِمَامَكَ وَأَخْزَيْتَ أَمَانَتَكَ… وَاعْلَمْ أَنَّ حِسَابَ اللهِ أَعْظَمُ مِنْ حِسَابِ النَّاسِ وَالسَّلام) وقال أيضاً (وَإِنَّ عَمَلَكَ لَيْسَ لَكَ بِطُعْمَةٍ وَلَكِنَّهُ فِي عُنُقِكَ أَمَانَةٌ وَأَنْتَ مُسْتَرْعًى لِمَنْ فَوْقَك).

3- العدالة: فمن أهم شروط الوزير أو الموظفين المتقدمين في رعيل المناصب العليا في الدولة العدالة يقول الإمام علي في صفة ذلك (فَأَنْصِفُوا النَّاسَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، وَاصْبِرُوا لِحَوَائِجِهِمْ فَإِنَّكُمْ خُزَّانُ الرَّعِيَّةِ، وَوُكَلاَءُ الأُمَّةِ، وَسُفَرَاءُ الأَئِمَّةِ، وَلاَ تُحْشِمُوا أَحَداً عَنْ حَاجَتِهِ، وَلاَ تَحْبِسُوهُ عَنْ طَلِبَتِهِ…، وَلاَ تَدَّخِرُوا أَنْفُسَكُمْ نَصِيحَةً، وَلاَ الْجُنْدَ حُسْنَ سِيرَةٍ، وَلاَ الرَّعِيَّةَ مَعُونَةً، وَلاَ دِينَ اللهِ قُوَّةً)، ويقول عليه السلام أيضاً ((وَأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ وَمِنْ خَاصَّةِ أَهْلِكَ وَمَنْ لَكَ هَوًى فِيهِ‏ مِنْ رَعِيَّتِكَ فَإِنَّكَ إِلاَّ تَفْعَلْ تَظْلِمْ وَمَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللهِ كَانَ اللهُ خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ وَمَنْ خَاصَمَهُ اللهُ أَدْحَضَ حُجَّتَه)).

4- علو الهمة وكرم الأخلاق: حيث يأمر الإمام علي عماله بكرم الأخلاق ولزوم العفو والمروءة إذ يقول عليه السلام ((وَلاَ تَنْدَمَنَّ عَلَى عَفْوٍ وَلاَ تَبْجَحَنَ‏ بِعُقُوبَةٍ وَلاَ تُسْرِعَنَّ إِلَى بَادِرَةٍ وَجَدْتَ عَنْهَا مَنْدُوحَةً وَلاَ تَقُولَنَّ إِنِّي مُؤَمَّرٌ آمُرُ فَأُطَاعُ فَإِنَّ ذَلِكَ إِدْغَالٌ فِي الْقَلْبِ وَمَنْهَكَةٌ لِلدِّينِ وَتَقَرُّبٌ مِنَ الْغِيَر)).

5- العلم: يعد العلم أو الكفاءة معياراً حاسماً في اختيار كبار الموظفين ووسيلة تقرب الحاكم من رشد الحكم والقرار وبهذا يكسب ود العامة والخاصة وتميل اليه القلوب والعقول ويملك التأثير الإيجابي في المجتمع لذا يأمر الإمام علي عماله بالقول ((وَأَكْثِرْ مُدَارَسَةَ الْعُلَمَاءِ وَمُنَاقَشَةَ الْحُكَمَاءِ فِي تَثْبِيتِ مَا صَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ بِلاَدِكَ وَإِقَامَةِ مَا اسْتَقَامَ بِهِ النَّاسُ قَبْلَك))، فما تقدم أساس لوضع الخطط الاستراتيجية القابلة للنجاح والتي تفضي إلى الاستثمار الأمثل للموارد والإمكانيات.

6- التواضع والعدالة: فمن أهم مقومات نجاح الموظف في الدولة التواضع في التعامل مع الرعية لذا يوصي الإمام علي عليه السلام وزرائه وعماله بالقول ((ثُمَّ اللهَ اللهَ فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَى مِنَ الَّذِينَ لا حِيلَةَ لَـهُمْ، وَالْـمَسَاكِين وَالْـمُحْتَاجِينَ وَأَهْلِ الْبُؤْسَى وَالزَّمْنَى، فَإِنَّ فِي هذِهِ الطَّبَقَةِ قَانِعاً وَمُعْتَرّاً، وَاحْفَظْ لِـلّهِ مَا اسْتَحْفَظَكَ مِنْ حَقِّهِ فِيهِمْ، وَاجْعَلْ لَـهُمْ قِسْمَاً مِنْ بَيْتِ مَالِكَ، وَقِسْمَاً مِنْ غَلَّاتِ صَوَافِي الإِسْلاَمِ، فِي كُلِّ بَلَدٍ، فإِنَّ لِلأَقْصَى مِنْهُمْ مِثْلَ الَّذِي لِلأَدْنَى، وَكُلٌّ قَدِ اسْتُرْعِيتَ حَقَّهُ، فَلاَ يَشْغَلنَّكَ عَنْهُمْ بَطَرٌ، فَإِنَّكَ لا تُعْذَرُ بِتَضْيِيعِ التَّافِهِ لِإِحْكَامِكَ الْكَثِيرَ الْـمُهِمَّ.فَلاَ تُشْخِصْ هَمَّكَ عَنْهُمْ، وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لَـهُمْ، وَتَفَقَّدْ أُمُورَ مَنْ لا يَصِلُ إِلَيْكَ مِنْهُمْ مِمَّنْ تَقْتَحِمُهُ الْعُيُونُ، وَتَحْقِرُهُ الرِّجَالُ، فَفَرِّغْ لِأُولئِكَ ثِقَتَكَ مِنْ أَهْلِ الْـخَشْيَةِ وَالتَّوَاضُعِ، فَلْيَرْفَعْ إِلَيْكَ أُمُورَهُمْ، ثُمَّ اعْمَلْ فِيهِم بِالإِعْذَارِ إِلَى اللهِ تَعَالَى يَوْمَ تَلْقَاهُ، فَإِنَّ هؤُلَاءِ مِنْ بَيْنِ الرَّعِيَّةِ أَحْوَجُ إِلَى الإِنْصَافِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَكُلٌّ فَأَعْذِرْ إِلَى اللهِ تَعَالَى فِي تَأْدِيَةِ حَقِّهِ إِلَيهِ.

..........................................

** مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات/2009-Ⓒ2025

هو أحد منظمات المجتمع المدني المستقلة غير الربحية مهمته الدفاع عن الحقوق والحريات في مختلف دول العالم، تحت شعار (ولقد كرمنا بني آدم) بغض النظر عن اللون أو الجنس أو الدين أو المذهب. ويسعى من أجل تحقيق هدفه الى نشر الوعي والثقافة الحقوقية في المجتمع وتقديم المشورة والدعم القانوني، والتشجيع على استعمال الحقوق والحريات بواسطة الطرق السلمية، كما يقوم برصد الانتهاكات والخروقات التي يتعرض لها الأشخاص والجماعات، ويدعو الحكومات ذات العلاقة إلى تطبيق معايير حقوق الإنسان في مختلف الاتجاهات...

http://ademrights.org

ademrights@gmail.com

https://twitter.com/ademrights

اضف تعليق