الكاتب يقرأ المشهد السياسي السوري من زاوية واحدة، وربما من زاوية مذهبية، إذ يقول في بداية مقالته: من حيث المبدأ، ينبغي الترحيب بالمبادرات الرامية إلى تعزيز المصالحة بين الأديان والطوائف أينما ظهرت. ولكن عندما تدعمها أنظمةٌ يكون انخراطها تمثيليًا أكثر منه حقيقيًا، فإنها تُرجّح أن تُثير السخرية بدلًا...
بقلم: توكل كرمان، نقلا عن: project syndicate
ترجمة: هبة عباس محمد علي
عرض وتحليل: ميثاق مناحي العيسى/ مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية

تؤدي الانقسامات الدينية والطائفية في الشرق الأوسط إلى ترسيخ الاستبداد السياسي، وتعميق التعصب، وتعزيز المشاريع الأصولية المتطرفة، مما يجعل تطلعات الربيع العربي تبدو أبعد من أي وقت مضى. لكن، ورغم مآسي السنوات القليلة الماضية، فإن التطورات الأخيرة توفر أخيرًا بارقة أمل للتغيير الدائم. ينبغي الترحيب بالمبادرات التي تهدف إلى تعزيز المصالحة بين الأديان والطوائف أينما ظهرت. لكن عندما تكون هذه المبادرات مدعومة من قبل أنظمة يكون انخراطها استعراضيًا أكثر منه حقيقيًا، فإنها غالبًا ما تؤدي إلى ازدياد الشكوك بدلاً من تحقيق تغييراً ملموساً. فضلا على ذلك، فإن تصوير القضية على أنها “مصالحة بين الأديان والطوائف” قد يكون مضللًا. ففي معظم الأحيان، المطلوب ليس المصالحة بين الأديان نفسها، بل بين المؤسسات والأنظمة التي تسعى إلى تحديد المعاني الدينية لكل عقيدة.

المعتقد الديني ظاهرة عالمية، وإن تعددت أسماؤه. فهو يشمل جميع الطقوس والقواعد وأشكال العبادة التي من خلالها يعزز البشر صلتهم الروحية بخالقهم، ويعملون على تنشئة أفراد ومجتمعات ذات توازن أخلاقي، ويربطون الوجود الإنساني بهدف سامٍ يتجاوز المادية والزمان. تكمن المأساة عندما يتم استغلال الدين والهويات الطائفية كأدوات في السعي وراء السلطة الدنيوية. وحيثما يحدث ذلك، يصبح ترسيخ الديمقراطية أو الحفاظ عليها أكثر صعوبة.

الربيع السوري

ترتبط الانقسامات الدينية والطائفية في الشرق الأوسط ارتباطًا وثيقًا بالاستبداد السياسي والتعصب المتجذر والتطرف الأصولي. وقد غذّت هذه الانقسامات إرث الاستعمار، والتدخلات السياسية الخارجية المستمرة، والأنظمة الديكتاتورية المحلية، مما حول الهويات الطائفية والدينية –سواء السنية والشيعية أو غيرها من الانتماءات الدينية والعرقية– إلى أدوات للسيطرة والقمع تُستخدم لكبح النضال من أجل الحرية. وعلى الرغم من هذه الانقسامات، يُظهر التاريخ أن الشرق الأوسط قد شهد في كثير من الأحيان مستوى أعمق من التعايش المتناغم مقارنة بالعديد من المناطق الأخرى. وتذكّرنا هذه التجربة التاريخية العميقة بأن التعايش السلمي ممكن دائمًا. لذلك، يجب أن نستفيد من هذا الإرث الإيجابي لإعادة بناء مجتمعات وأمم قائمة على التعايش، خالية من الاستبداد والتعصب والتدخلات الخارجية. 

لنأخذ سوريا كمثال. عانت البلاد لعقود من حكم نظام ديكتاتوري اعتمد على الطائفة العلوية التي ينتمي إليها كمؤسسه لترسيخ سلطته، ثم أخفى استبداده وانقسامه خلف واجهة القومية العربية (البعثية). وعندما اندلعت الثورة في عام 2011، واجه نظام بشار الأسد الانتفاضة بالتعاون مع الحرس الثوري الإيراني وروسيا والميليشيات الشيعية من أفغانستان وغيرها، إضافة إلى حزب الله. وقد ساهمت هذه القوى الخارجية جميعها في بقاء نظام الاسد في السلطة، إذ أودى النظام بحياة مئات الآلاف من الأبرياء، وتسبب في تهجير الملايين، وحول مدنًا بأكملها إلى أنقاض.

 اعتمد النظام طوال هذه الفترة على خطاب التعبئة الطائفية، مستخدمًا زرع الانقسامات كاستراتيجية للبقاء. ومع ذلك، ورغم التحديات الهائلة التي واجهتها الثورة السورية على مدار 13 عامًا، فقد انتصرت في النهاية. فرار الأسد إلى روسيا طلبًا للجوء يترك أمام الشعب السوري مهمة شاقة تتمثل في إعادة بناء بلادهم والتعامل مع إرث القمع والتعذيب والسجن والحرب والطائفية السامة. في هذا السياق، فإن اندلاع العنف مؤخرًا أمر مثير للقلق، لكنه ليس مفاجئًا. اذ تشير التقارير إلى أن الاشتباكات بين قوات الأمن السورية والمسلحين الموالين للأسد أسفرت عن مقتل 1,300 شخص، معظمهم من المدنيين.

يحاول البعض تصوير هذه الأحداث على أنها صراع طائفي بين الفصائل العلوية والقيادة السورية الجديدة، واصفين إياها بأنها مواجهة بين أقلية علوية وأغلبية سنية. لكن هذا السرد مضلل وخطير. ما يجري في سوريا ليس حربًا طائفية، بل هو جبهة جديدة في الثورة المضادة، يقودها النظام الإيراني، وربما الإمارات العربية المتحدة، وهما نظامان لطالما عارضا الربيع العربي وتطلعات شعوب المنطقة المشروعة نحو الحرية والكرامة. اتباع نظام الأسد، المدعومين من إيران، مصممين على منع استقرار سوريا تحت قيادة جديدة تمثل إرادة شعبها. بل السعي الى إغراق البلاد في حرب أهلية مدمرة أخرى، على غرار الكارثة المستمرة في السودان. لكن هناك فرقًا جوهريًا هذه المرة. فقد تعلم الشعب السوري دروسًا مؤلمة وعميقة من التجارب المأساوية التي مرت بها دول أخرى من دول الربيع العربي. وهم اليوم أكثر تصميمًا وأفضل استعدادًا لحماية أنفسهم من الوقوع في نفس الحلقة الكارثية التي ابتلعت السودان أو ليبيا.

يواصل السوريون اتخاذ خطوات نحو إنشاء نظام سياسي جديد يعيد تعريف الهوية الوطنية. ويعد الاتفاق الأخير بين الحكومة في دمشق وتحالف الميليشيات التي يقودها الأكراد إنجازًا كبيرًا، إذ سيتم الاعتراف رسميًا بالأقلية الكردية في سوريا باعتبارها “جزءًا لا يتجزأ من الدولة السورية”، مع ضمان “حقوق جميع السوريين في التمثيل والمشاركة في العملية السياسية”. وهذا هو الهدف بالفعل: تجاوز الانقسامات القديمة. السوريون يقفون على أعتاب تحول كبير، بعد ثورة امتنع فيها المنتصرون عن السعي للانتقام أو الثأر. كان هذا الموقف الأولي من التسامح الطائفي والإثني والديني أمرًا استثنائيًا، ويجب أن يظل الهدف الأساسي، لأنه يشكل شرطًا أساسيًا لتحقيق الاستقرار وإعادة الإعمار.

للبناء على الأساس الذي أرسته الثورة، يجب على السوريين احتواء العنف الانتقامي وبناء قدرات الدولة اللازمة للحفاظ على النظام. كما أنه من الضروري أن يقدم المجتمع الدولي الدعم الاقتصادي للشعب السوري، بما في ذلك رفع العقوبات التي تضر بالمواطنين العاديين. استمرار هذه العقوبات لا يزيد من المعاناة غير الضرورية فحسب، بل يكافئ دون قصد بقايا نظام الأسد الإجرامي. مثل هذه الإجراءات قد تقوض الانتقال السياسي بقيادة سورية وتعرض العملية الانتقالية بأكملها نحو سوريا مستقرة وحرة للخطر.

في الدولة المتصورة حديثًا، سيتم الاعتراف بجميع المواطنين كسوريين، بغض النظر عن كونهم علويين أو دروزًا، سنة أو شيعة، أكرادًا أو عربًا. هذا الهدف وحده يمثل نقطة تحول تاريخية. الجهود المبذولة لرسم مسار انتقالي ديمقراطي في دمشق – على الرغم من التوترات الاجتماعية الحتمية والحاجة إلى المصالحة – تقدم الأمل للمنطقة بأسرها. أنا واثق من أن تحول سوريا إلى دولة ديمقراطية تضمن المواطنة المتساوية للجميع بات وشيكًا، وأن مثالها سيشكل نموذجًا يحتذى به للآخرين.

النضال مستمر

في لبنان، أدى ضعف نفوذ حزب الله؛ نتيجة الصراعات الإقليمية خلال العام ونصف الماضيين إلى كسر الجمود السياسي وانتخاب رئيس جديد للبلاد. وهو منصب ظل شاغرًا لأكثر من عامين. يأمل اللبنانيون أن يسهم هذا التطور في استعادة سيادة القانون وإحياء الحياة السياسية التي كانت مقيدة بعسكرة حزب الله. 

أما في اليمن، فقد شهدت البلاد في عام 2013، بعد الثورة السلمية التي أطاحت بعلي عبد الله صالح، استعدادات لمرحلة انتقالية ديمقراطية تاريخية، تضمنت التحضير لاستفتاء على دستور جديد وإجراء انتخابات كجزء من عملية توافقية. إلا أن انقلابًا نفذته جماعة الحوثي المدعومة من إيران أدى إلى اندلاع حرب مدمرة وزيادة الانقسامات الطائفية. ولم يزد تدخل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ضد الحوثيين إلا تفاقمًا للاضطرابات. على الرغم من عداوتهم، كان هدف الحوثيين والقوى الإقليمية المتدخلة، هدف مشترك، هو إحباط التحول الديمقراطي بعد الربيع العربي. فقد كانت الحرب المستمرة منذ أكثر من عقد تهدف إلى إخماد أي أمل في إقامة دولة ديمقراطية حديثة وتعددية. سعى الحوثيون، بخطابهم الطائفي وأجندتهم الخارجية، إلى فرض واقع يجعل من تحقيق مثل هذه الدولة أمرًا مستحيلاً. ومع ذلك، لا يزال الشعب اليمني ملتزمًا بمكافحته للطائفية الحوثية. وهو يعلم أن الطريق الواعد الوحيد يكمن في استعادة الدولة الوطنية والإطار الانتقالي الذي كان من شأنه أن يضمن سيادة القانون والمواطنة المتساوية والمؤسسات الجديدة. وفي ظل الديناميكيات المتغيرة في المنطقة، قد يجد اليمن أملًا في تراجع نفوذ المحور الإيراني الطائفي في سوريا ولبنان. يوفر هذا الواقع الجديد فرصة تاريخية لليمنيين لاستعادة بلدهم وإعادة بنائه على أسس ديمقراطية ووطنية متينة.

من الأفضل أن نتذكر كيف وصلنا إلى هنا. لقد أدت الحروب المضادة للثورات ضد الربيع العربي إلى انهيار الدول وصعود الميليشيات العابرة للحدود الوطنية في جميع أنحاء المنطقة، مما قوض العديد من الديمقراطيات الناشئة. في مصر وتونس، على سبيل المثال، عرقلت الانقلابات التحولات الديمقراطية وأعادت قادةً استبداديين سحقوا أي معارضة بوحشية. في السودان، أعاقت القوى الإقليمية المعادية للديمقراطية مسار المصالحة، إذ يستغل الكثير منها الآن ميليشيات محمد حمدان "حميدتي" دقلو لتحقيق أجنداتها الخاصة.

ومع ذلك، أعتقد أننا قد نشهد وصول ربيع عربي آخر. فالانتصار المعنوي العميق للثورة السورية سيعيد إلهام الكثيرين في جميع أنحاء المنطقة للاستمرار في نضالهم من أجل الحرية وإقامة دول تضمن الحقوق الأساسية والعدالة.

الدروس المستفادة؟

 طالما ادعى الغرب دعمه للديمقراطية والتعايش في الشرق الأوسط، إلا أن سياساته غالبًا ما أشارت إلى عكس ذلك. ربما لا ينبغي أن نتفاجأ، فقد كانت القوى الغربية – وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا – هي التي قسمت المنطقة إلى كيانات سياسية مصطنعة، مما عمق الانقسامات الطائفية والعرقية وزرع بذور العديد من الصراعات الحالية. منذ ذلك الحين، ساهمت التدخلات الغربية في المنطقة في تعزيز الطائفية بشكل علني.

فعلى سبيل المثال، بعد الغزو الأمريكي للعراق، كان هناك أمل بأن الإطاحة بصدام حسين ستشكل بداية لانتقال المنطقة نحو الديمقراطية. لكن ما حدث كان العكس، إذ أرسى الاحتلال الأمريكي نظامًا سياسيًا قائمًا على المحاصصة بين المجموعات الشيعية والسنية والكردية. وقد نتج عنه تشكيل مناطق سيطرة منفصلة، وصراعات دموية بين المجموعات السنية والشيعية، وبالتالي تفكك وطني.

بدلاً من تعزيز هوية وطنية موحدة، ركّزت القوى الغربية على الانتماءات الدينية والطائفية، مما عمّق الانقسامات ورسّخ الطائفية كعنصر دائم من عناصر الحكم. والآن، كلما أُثيرت نقاشات حول توفير "ضمانات للأقليات"، يُنظر اليها على انها محاولات خارجية لتعزيز الهويات الطائفية ذات الجدوى السياسية، وليست دعوات حقيقية للمساواة في الحقوق في ظل دولة وطنية موحدة.

في الواقع، دافع الكثيرون عن نظام الأسد، الذي دام نصف قرن، بحجة أنه يحمي الأقليات. وحتى بعد انهياره، كان أول رد فعل من العديد من الدبلوماسيين الأجانب، هو لفت الانتباه إلى الأقليات السورية التي أصبحت ضعيفة حديثًا. ربما كانت هذه المطالب حسنة النية، لكنها تجاهلت حقيقة الوضع. أولئك الذين عانوا عقودًا من الإقصاء والقمع يشكلون أغلبية ساحقة. وهم الأكثر حاجةً إلى التضامن والدعم. لن تُصان حقوق الأقليات إلا إذا حُرمت حقوق الأغلبية أيضًا. "الاستقرار" القائم على الطائفية هو دائمًا وهم.

يتطلب تحقيق المصالحة والإصلاح الحقيقيين القضاء على الاستبداد، الذي يُمثل العائق الحقيقي أمام الوحدة. لقد فشل الاعتماد على الديكتاتوريين للحفاظ على السلم الأهلي أو حماية حقوق الأقليات باستمرار، لأن هذه الأنظمة تعتمد على استراتيجية إثارة الانقسامات. بمجرد التغلب على الاستبداد، يمكن أن تبدأ المصالحة الحقيقية بتفكيك المؤسسات الإقصائية، ونبذ الأيديولوجيات المتطرفة، ومواجهة تسييس الدين. حينها فقط يمكن للعلاقات بين الأفراد أن ترتكز على مبادئ أخلاقية مشتركة.

ولتحقيق هذه الغاية، ينبغي تعريف الهوية الفردية بالمواطنة ضمن دولة تحترم سيادة القانون وتُعامل جميع الناس على قدم المساواة، بغض النظر عن هويتهم الدينية أو المذهبية. الديمقراطية لا تقتصر على الانتخابات فحسب؛ فلكي تحافظ على بقائها بين الانتخابات، يجب أن تُعزز التعايش واحترام الاختلاف. وبينما تستغل الأنظمة القمعية الطائفية كوسيلة لتقويض التماسك الاجتماعي، يجب على الأنظمة الديمقراطية أن تفعل العكس، وأن تضمن أن تبقى الانتماءات الدينية والمذهبية مسائل شخصية.

إن الدولة القائمة على المواطنة المتساوية تسمح بإدارة الاختلافات السياسية ضمن مؤسسات مشتركة، بدلاً من الصراع الطائفي. وبالتالي، فهي تُمثل السبيل الوحيد لتحقيق استقرار دائم في المنطقة. علاوة على ذلك، لن تُثمر الحوارات الوطنية، كالتي تجري في سوريا، إلا إذا ارتكزت على مبادئ التعددية وصيغت لمواجهة الأجندات الخارجية التي تسعى إلى استغلال الانقسامات.

وأخيرًا، بما أن هذا هو الشرق الأوسط، فإن أي نقاش حول التعايش بين الأديان والديمقراطية والتعددية السياسية يجب أن يأخذ في الاعتبار القضية الفلسطينية، فهي حاضرة دائمًا، تُشكل كل فكرة وتُؤطر كل حوار حول مستقبل المنطقة.

 إن الحرب الأخيرة في غزة - بما نتج عنها من دمار واسع النطاق وخسائر فادحة في الأرواح - تُلزمنا بواجب أخلاقي وإنساني. إن هذه المأساة الإنسانية واسعة النطاق تُلزم بقية العالم بالتواصل مع الفلسطينيين، ليس فقط لتخفيف معاناتهم، بل أيضًا للمساعدة في إعادة بناء منازلهم وبنيتهم التحتية وتحقيق تطلعاتهم. يستحق الفلسطينيون الكرامة والأمن والحرية، ومن العار العميق على الإنسانية أن تستمر معاناتهم. لا يمكن أن يحدث التغيير الجذري إلا بعد انتهاء الاحتلال والقمع. يعتمد السلام في المنطقة على الاعتراف بحق الفلسطينيين في تقرير المصير من خلال إقامة دولة مستقلة على حدود عام ١٩٦٧. كل جهد لدعم هذا الحق هو استثمار في شرق أوسط أكثر عدلاً وديمقراطية واستقراراً.

مع ذلك، أعتقد أننا قد نشهد ربيعًا عربيًا جديدًا. فالنصر الأخلاقي الكبير الذي حققته الثورة السورية سيُلهم الكثيرين في المنطقة لمواصلة نضالهم من أجل الحرية ودول تضمن الحقوق الأساسية والعدالة.

نظرة تحليلية 

على الرغم من حبكة المقال العلمية وموضوعه الشيق للغاية، إلا أننا يمكن قراءته من عدة أوجه، فمن جهة، يمثل المقال دعمًا للديمقراطية وآليات تعزيزها في الشرق الاوسط، واحترام حقوق الاقليات والسعي خلف الدولة المدنية، التي تحفظ الحقوق للجميع، بعيدًا عن التعصب الديني والمذهبي. ومن جهة أخرى، يظهر المقال توجه مناهض للديمقراطية، وربما غياب الموضوعية العلمية، بتضمينه اللغة الدينية المذهبية في بعض سطور المقال، أو ما توضحه اللغة العامة للمقال، من خلال دراسته للحالة السورية واللبنانية واليمنية، فضلًا عن الحالة العراقية. وعلى ما يبدو بأن الكاتب يقرأ المشهد السياسي السوري من زاوية واحدة، وربما من زاوية مذهبية، إذ يقول في بداية مقالته: من حيث المبدأ، ينبغي الترحيب بالمبادرات الرامية إلى تعزيز المصالحة بين الأديان والطوائف أينما ظهرت. ولكن عندما تدعمها أنظمةٌ يكون انخراطها تمثيليًا أكثر منه حقيقيًا، فإنها تُرجّح أن تُثير السخرية بدلًا من إحداث تغيير حقيقي. هذا على مستوى المصالحة والحوار بين الاديان، فما بالك اذا كان على مستوى الثورة، والطبقة الحاكمة التي ستحكم بلد، كما حدث في سوريا بعد الاسد. الثورة التي اطاحت بنظام الاسد واتت بحكومة جديدة، بدعم مباشر من الحكومة التركية؛ لذا فأن ثقة ويقين كاتب المقال بنجاح الثور السورية بتعبيره: (من أن تحوّل سوريا إلى دولة ديمقراطية تُوفّر المساواة في المواطنة للجميع بات وشيكًا، وأنّ نموذجها سيكون قدوة للآخرين). منافية للحقائق التاريخية والتجارب السياسية المعاصرة، ولاسيما ما حدث في العالم العربي من تجارب سياسية بعد الربيع العربي خير دليل، كالذي حدث في مصر، ليبيا، تونس وغيرها من التجارب العربية. فاغلب تلك التجارب، كانت مدفوعة بثورات مدنية مختلفة عن الثورة السورية، التي لها من الإرث الإسلامي المتطرف والتنظيمات الإرهابية "ما يكفي" بوصفها ثورة غير مدنية، ولعل ما حدث مؤخرًا من جرائم إبادة ضد العلويين في الساحل السوري، خير دليل. فكما يدان نظام الاسد، بالدعم الإقليمي والخارجي، وجرائمه التي اقترفت ضد الشعب السوري، وتسخير الدولة ومقدراتها للعائلة الحاكمة، كذلك يمكن أن تدان الحكومة السورية الجديدة، بطبيعة علاقتها مع الحكومة التركية، وخطابها الطائفي، الذي اعتلى المنصات الإعلامية على لسان رئيسها أحمد الشرع، بأكثر من مناسبة، فضلًا عن شخوصها المتهمة بالتعصب والتطرف الديني والسياسي والايديولوجي، ومدى صلتها السابقة بالتنظيمات الإرهابية.

 لكن على الرغم من ذلك، يمكن أن تثمر الثورة السورية إلى دولة وطنية حقيقية، دولة مدنية قائمة على حكم القانون، ولديها التزام اخلاقي بحماية كل مواطنيها، بغض النظر عن خلفياتهم السياسية والدينية والمذهبية، إذا ما استطاعت بالفعل اشراك كل السوريين في بناء الدولة، واحترام حقوق الاقلية والاغلبية على حدٍ سواء، والوصول إلى مرتكبي جرائم الابادة التي حصلت في الساحل السوري ومحاسبتهم، وأن تتمكن من الانفتاح الإقليمي بما يضمن مصلحة الدولة والشعب السوريين، بعيدًا عن سياسة المحاور والاصطفافات الطائفية. 

* مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2025

www.fcdrs.com

...................................................

رابط المقال الاصلي:

 https://www.project-syndicate.org/magazine/democracy-syria-middle-east-equal-citizenship-must-replace-sectarianism-by-tawakkol-karman-2025-03

اضف تعليق