يشكل نجاح نموذج الذكاء الاصطناعي الذي طورته شركة ديب سيك الناشئة دليلا على قدرات الابتكار لدى المجموعات الصينية، لم تتعرض صناعة الذكاء الاصطناعي لاهتزازات عميقة فحسب، بل اكتسب العالم والقطاع المالي أيضا فهما أفضل لقدرة الصين على الابتكار في العلوم والتكنولوجيا ساهم أيضا، في إعادة تقييم قيمة الأصول الصينية...
هزت شركة “ديب سيك” الصينية الصغيرة قطاع الذكاء الاصطناعي التوليدي في نهاية كانون الثاني/يناير مع برنامجها منخفض التكلفة ولكن عالي الأداء، لدرجة أنها دفعت لإعادة النظر في هيمنة الشركات الكبرى ومن بينها “اوبن ايه آي”، على القطاع.
على مدار العامين الفائتين، نجحت حفنة من برامج المساعدة القائمة على الذكاء الاصطناعي في ترسيخ وجودها، من “تشات جي بي تي” إلى “كلود” (من شركة “أنثروبيك”) مرورا بـ”جيميناي” من “غوغل”، وذلك بفضل استثمارات بمليارات الدولارات للتعامل مع أفضل المهندسين ونشر القدرات اللازمة (رقائق وخوادم ومراكز بيانات).
ابتكرت “ديب سيك” نموذجها “آر1” بعدد أقل من المعالجات، من دون استخدام الرقائق الأكثر تقدما، وبتكلفة معلنة قدرها ستة ملايين دولار فقط.
بالنسبة إلى كثيرين، كان هذا التطوّر بمثابة ثورة، فقد سلط الضوء على حركة كانت قائمة منذ أشهر، وهي حركة “تسليع” برامج الذكاء الاصطناعي التوليدية.
يقول توماس وولف، المشارك في تأسيس منصة الذكاء الاصطناعي “هاغينغ فايس” إن “تكلفة إطلاق نموذج تتقلص، ومسألة تحديد النموذج الذي ينبغي الاعتماد عليه تتراجع أهميتها”.
ويضيف “الناس يتجهون نحو عالم متعدد النماذج”، مضيفا “أن يكون للمرء حرية الخيار أمر مذهل”.
ويرى أنّ الاستقبال البارد الذي قدمه القطاع ووسائل الإعلام لإطلاق “تشات جي بي تي 4.5” (“اوبن ايه آي”)، في نهاية شباط/فبراير، يشكل مثالا على هذا الاتجاه.
وأكد مدير المنتجات لدى “اوبن ايه آي” كيفن ويل في مؤتمر “هيومن اكس ايه آي” الذي أقيم أخيرا في لاس فيغاس، أن مقولة إن كل النماذج متشابهة “ليست صحيحة”.
وأضاف “لن نكون أبدا بعد اليوم متقدمين على منافسينا بفارق 12 شهرا، لكننا لا نزال متقدمين بما يتراوح بين 3 إلى 6 أشهر”.
مع 400 مليون مستخدم فردي، تستفيد الشركة الأميركية الناشئة، بحسب ويل، من تأثير حجم يمنحها ميزة مرتبطة بالبيانات المستمدة من الاستخدام الهائل، والمستعملة لتحسين نماذجها بشكل متواصل.
يقول رئيس شركة “ديجيتس” الناشئة جيف سيبرت “أعتقد أنها ستبقى في المقدمة، لكنّ الفجوة بينها وبين شركات أخرى ستتقلّص، وفي حالات كثيرة، سيتم استخدامها” مع برامج أخرى.
ويضيف “بالنسبة إلى التطبيقات الأكثر تقدما، سيكون هناك فرق، ولكن بالنسبة إلى معظم الاستخدامات الأخرى، لن يكون لذلك أهمية كبيرة. لذا فإن نصيحتي لرواد الأعمال والمستثمرين هي التأكد من إمكانية تنقل المستخدم بسهولة بين النماذج”.
أدى الاستخدام الأفضل للرقائق وتقنيات تحسين النماذج الجديدة إلى خفض تكلفة تصميم “ال ال ام” (نموذج لغوي كبير)، وهو المحرّك المخفي تحت غطاء محرك “تشات جي بي تي” أو “جيميناي” من “غوغل”.
ويساهم صعود “المصادر المفتوحة”، أي نشر برنامج للاستخدام المجاني والمفتوح، في انتشار منصات الذكاء الاصطناعي التوليدية.
ويقول أنجيلو زينو من شركة “سي اف آر ايه” إنّ “تقييم المتخصصين في النماذج الكبيرة لشركات مثل “اوبن ايه آي” و أنثروبيك، وهما من المجموعات القليلة التي تقاوم حتى اليوم “المصادر المفتوحة”، “ربما وصل إلى ذروته، مع تبدد التأثير المرتبط بالسرعة”.
لكن ذلك لم يمنع شركة الاستثمار اليابانية “سوفت بنك” من ضخ 40 مليار دولار في رأسمال “أوبن ايه آي” في شباط/فبراير.
وتقدر هذه العملية الشركة بـ300 مليار دولار، أي نحو ضعف القيمة التي كانت عليها في العام الفائت.
في مطلع آذار/مارس، جمعت “أنثروبيك” مبلغا قدره 3,5 مليارات دولار، وهو ما يقدر قيمة الشركة بـ61,5 مليار دولار.
ويقول جاي داس من شركة رأس مال المخاطرة “سافير فانتشرز”: “إذا كنت تحصل على مليار دولار نقدا كل شهر، وهذه هي الحال على ما أعتقد مع +أوبن ايه آي+، فعليك الاستمرار في جمع الأموال حتى يتجاوز حجم ايراداتك هذا المبلغ، وأجد صعوبة في رؤية كيف سيصلون إلى هناك”.
ومنذ ظهور “تشات جي بي تي” في أواخر عام 2022، أصبح الذكاء الاصطناعي “حجر الزاوية في معظم إعلانات المنتجات”، ولكن “غالبا ما يكون من الصعب فهم الفوائد الملموسة” للمستهلكين، وفق وود.
وقال المدير العام لـGSMA ماتس غرانريد في مقابلة مع صحيفة “إيل باييس” الإسبانية “أثبت هذا الإطلاق (ديب سيك) أنه بموارد قليلة للغاية، يمكننا إنشاء شيء قوي للغاية. وهذا يمنح الأمل، خصوصا بالنسبة لأوروبا”.
القدرة الابتكارية لدى الصين
يشكل نجاح نموذج الذكاء الاصطناعي الذي طورته شركة “ديب سيك” الناشئة دليلا على قدرات “الابتكار” لدى المجموعات الصينية، على ما قال مسؤول رفيع المستوى في البلد الآسيوي العملاق.
وقال رئيس هيئة تنظيم السوق الصينية وو تشينغ في مؤتمر صحافي إن “ديب سيك يتمايز في مجال الذكاء الاصطناعي العالمي”.
وأضاف “لم تتعرض صناعة الذكاء الاصطناعي لاهتزازات عميقة فحسب، بل اكتسب العالم والقطاع المالي أيضا فهما أفضل لقدرة الصين على الابتكار في العلوم والتكنولوجيا”.
وأشار وو تشينغ في المؤتمر الصحافي الاقتصادي الذي عُقد على هامش الدورة البرلمانية السنوية إلى أن دخول ديب سيك السوق “ساهم أيضا، إلى حد ما، في إعادة تقييم قيمة الأصول الصينية”.
وتابع “أي شخص لا يتحدث عن ديب سيك في الوقت الحالي، قد يبدو خارج زمننا. هذه الظاهرة تستحق بالتأكيد كامل اهتمامنا”.
وشهدت أسهم شركات التكنولوجيا الصينية العملاقة ارتفاعا حادا في الأسابيع الأخيرة.
في الشهر الماضي، عقد الرئيس الصيني شي جينبينغ اجتماعا نادرا مع عدد من الشخصيات الصينية في مجال التكنولوجيا، بينهم جاك ما، مؤسس مجموعة علي بابا العملاقة لتجارة التجزئة عبر الإنترنت، والذي ظل لفترة طويلة بعيدا عن الأضواء.
وقد فُسر هذا الاجتماع على أنه إشارة إلى أن السلطات باتت تنوي تقديم المزيد من الدعم لهذا القطاع الديناميكي الذي يولّد النمو والوظائف، في سياق تباطؤ الاقتصاد.
وقفزت أسهم علي بابا بأكثر من 8% في هونغ كونغ بعدما أعلنت المجموعة عن إطلاق نموذج ذكاء اصطناعي تقول أنه قادر على منافسة “ديب سيك”.
وأعلنت مجموعة “علي بابا” الصينية العملاقة أنها ستستثمر أكثر من 50 مليار دولار في الذكاء الاصطناعي وخدمة السحابة، بعد أيام قليلة من اجتماع ايجابي بين المشارك في تأسيسها جاك ما والرئيس شي جين بينغ.
تمتلك المجموعة التي تتخذ من هانغتشو في شرق الصين مقرا بعض منصات التجارة الإلكترونية الأكثر استخداما في البلاد (“تاوباو” مثلا)، وهي واحدة من الشركات التكنولوجية الآسيوية العملاقة.
وقد تعزز هذا الاتجاه بشكل أكبر خلال الأسبوع الفائت، مع إعلان الشركة عن نمو قوي في مبيعاتها الفصلية، في مؤشر جديد إلى عودتها القوية إلى القطاع بعد سنوات من التباطؤ.
وقالت الشركة في بيان إنها تعتزم استثمار ما لا يقل عن 380 مليار يوان (52,50 مليار دولار) على مدى السنوات الثلاث المقبلة لتطوير البنية التحتية للحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي.
وأشارت إلى أن هذه الاستراتيجية تهدف إلى “تعزيز التزام” المجموعة “بالابتكار التكنولوجي طويل الأمد” و”تؤكد تركيز الشركة على النمو القائم على الذكاء الاصطناعي”.
ولم توضح “علي بابا” كيف ستتوزع هذه المليارات بين السحابة (الحوسبة من بعد) والذكاء الاصطناعي.
وأشارت الشركة إلى أنّ هذا الاستثمار سيتجاوز على أي حال إجمالي إنفاق المجموعة على الذكاء الاصطناعي والسحابة على مدار العقد الماضي.
ويأتي هذا الإعلان بعد أن شارك المؤسس المشارك للمجموعة جاك ما في اجتماع نادر الأسبوع الماضي بين الرئيس الصيني شي جين بينغ وعدد من شخصيات القطاع الخاص، والذي يُعدّ مؤشرا إيجابيا آخر لقطاع التكنولوجيا.
وأعلنت “علي بابا” بعد بضعة أيام عن ارتفاع حجم مبيعاتها بنسبة 8% في الربع الثالث من سنتها المالية ليصل إلى 280 مليار يوان (38,64 مليار دولار)، في نتيجة أتت أعلى من المتوقع.
وقال الرئيس التنفيذي لشركة “علي بابا” إيدي وو إن هذه النتائج “تشهد على التقدم الكبير في استراتيجيتنا التي تتمحور حول + المستخدم أولا والموجهة بالذكاء الاصطناعي (AI) + واستئناف النمو في نشاطاتنا الأساسية”.
كان قطاع التكنولوجيا الصيني لسنوات عدة بدءا من عام 2020، هدفا للسلطات التي كانت تعتزم تنظيم قطاع لم يكن خاضعا للقوانين بشكل جيد في السابق. وقد أثرت هذه الحملة بشكل خطر على الشركات وأنشطة “علي بابا”.
لكن هذه الشركات التكنولوجية العملاقة استعادت نشاطها تدريجيا، وخصوصا في الأشهر الأخيرة. وقد دفعها إلى ذلك أيضا تفاؤل المستثمرين في ظل التقدم الصيني في مجال الذكاء الاصطناعي، مع نجاح روبوت المحادثة الذي ابتكرته شركة “ديب سيك”.
ويأتي هذا الوضع في وقت تحاول الصين يائسة إنعاش الاستهلاك المحلي الذي تباطأ منذ جائحة كوفيد، على خلفية أزمة العقارات وارتفاع معدلات البطالة بين الشباب.
لكن خلال اجتماعه مع قادة القطاع الخاص الأسبوع الفائت، أشار شي جين بينغ إلى أن الصعوبات الاقتصادية الحالية “يمكن التغلب عليها”. وقد فُسّرت تصريحاته على أنها مؤشر دعم لعمالقة التكنولوجيا الذين يؤدون دورا مهما في تحفيز الاستهلاك.
لم يعد جاك ما رئيسا لشركة “علي بابا” لكنه يحتفظ بحصة كبيرة في الشركة.
وفُسّرت مشاركته في الاجتماع مع شي جين بينغ على أنها شكل من أشكال رد الاعتبار لشخصية الأعمال هذه التي بقيت بعيدة عن الأضواء منذ العام 2020 بعد تصريحات تنتقد صراحة الجهات التنظيمية المالية.
تجاهل المخاوف العالمية
بدورها قللت شركات التكنولوجيا الصينية الجمعة من أهمية المخاوف الخارجية المتعلقة ببرنامج “ديب سيك”، مبدية ثقتها في آفاق الشركات الناشئة المحلية المنخرطة في السباق العالمي للذكاء الاصطناعي.
فهناك مسائل متعلقة بمعالجة البيانات الشخصية للمستخدمين دفعت بلدانا كثيرة بينها كوريا الجنوبية وإيطاليا وأستراليا وبعض الولايات الأميركية، لتقييد استخدام البرنامج في المرحلة الراهنة.
في حديث إلى وكالة فرانس برس، يقول سون داشينغ، وهو موظف في شركة “بورساي كمبيوتر” المصنعة لخوادم الذكاء الاصطناعي، “خلال السنوات الأخيرة، واجهت الصين مختلف أنواع القيود خصوصا من الولايات المتحدة”.
وأكد خلال المؤتمر العالمي للمطورين المخصص للذكاء الاصطناعي في شنغهاي “تبذل بلادنا حاليا كل ما في وسعها لمواصلة التقدم”.
وقد شاركته حماسته جهات عارضة أخرى تحدثت بفخر عن استخدامها نموذج “ديب سيك”، مع العلم أنّ الشركة الناشئة الصغيرة لم تكن ممثلة في المعرض الذي شهد أيضا عرض روبوتات بشرية كثيرة.
ويقول مارك فنغ، مدير المنتجات في شركة “موبفوا” المتخصصة في تصنيع روبوتات المحادثة، “بما أنّ نموذج آر 1 من ديب سيك بات مُتاحا، نعتقد أن المجالات أو المنتجات المتعلقة بنماذج اللغات الكبيرة ستشهد تطورا أوسع”.
قبل طرح “ديب سيك”، كان كثيرون يعتقدون أنّ الصين “غير قادرة على إنشاء نموذج كبير للذكاء الاصطناعي بقوة مماثلة للبرامج الأميركية”، على قول ليان فنغ، الموظف في شركة “تيانغانغ ايه آي ترايدينغ” التي تتخذ من شنغهاي مقرا.
ويرى فنغ أنّ الصين أثبتت قدرتها على تصميم برامج متطورة، فضلا عن أن لديها سلسلة توريد فاعلة جدا، مما يمنحها ميزة إضافية عن الولايات المتحدة.
وكان الرئيس الأميركي دونالد ترامب اعتبر أن برنامج “ديب سيك” هو بمثابة “تحذير” للشركات الأميركية، تحديدا لناحية التكلفة المنخفضة نسبيا لنموذج “آر 1”.
ويرى فنغ أنّ نجاح “ديب سيك” يمثل نقطة تحوّل لا تقل أهمية عن ظهور “أندرويد” سنة 2008، والذي هز سوق الهواتف الذكية من خلال تقديم بديل أرخص من نظام التشغيل “آي او اس” من “آبل”.
ويرى أنّ الأسعار المرتفعة لأجهزة “آي فون” التي كانت تسيطر على السوق، “أبطأت النمو السريع للهواتف الذكية وعصر الإنترنت عبر الهواتف المحمولة”.
ويعتبر ليان أن برنامج “ديب سيك” سيحدث ثورة جذرية في سوق الذكاء الاصطناعي التوليدي، تماما كما أعاد نظام “اندرويد” تحديد قطاع الهواتف الذكية.
ويقول سون داشينغ من شركة “بويرساي كمبيوتر”: “لا يزال لدينا مجال للتحسين (…) في غضون ثلاث إلى خمس سنوات، سنرى مشهدا واعدا أكثر”.
* المصدر: وكالات+فرانس برس
اضف تعليق